كل ما كتبه dataentry2
حج من عليه أقساط
خالد عزب
يذكر التاريخ الحديث، أن رجلاً فرنسيًّا اسمه “لويس برايل” كان أعمى لا يبصر، استنبط في سنة 1829م أي منذ نحو مائة وخمسين سنة الأسلوب المنسوب إليه لتعليم العميان القراءة والكتابة، وقد خُلِّد اسمه وشرفه الفرنسيون بهذا الاستنباط الخطير، الذي أخذت به أمم العالم في تعليم العميان.
ولكن من يدري أن رجلاً عربيًّا، كان أعمى أيضًا لا يبصر، اسمه “زين الدين علي بن أحمد الآمدي العابر” عاش في حدود سنة سبعمائة للهجرة أي قبل نحو سبعمائة سنة كان السابق في هذا المضمار، وإليه يرجع – دون سواه – الفضل كله في ابتداع الكتابة البارزة للعميان.
كان أستاذاً في المدرسة المستنصرية ببغداد، وله فيها غرفة خاصة به، ترجم له الصفدي في كتاب “نكت الهميان في نكت العميان” ووصفه بقوله: “كان شيخًا مليحًا مهيبًا ثقة صدوقًا، كبير القدر والسن، أضر في أوائل عمره، وكان آية عظيمة في تعبير الرؤيا، مع مزايا أخرى عجيبة، تدل كلها على عبقريته وشدة فطنته وذكائه”.
وله حكايات غريبة، ذكر الصفدي طائفة منها، غير أن أعجبها، ما جرى له مع السلطان “غازان” المغولي ببغداد، وهو من أحفاد “هولاكو بن جنكيز خان” قال: لما دخل السلطان غازان، المذكور، سنة خمس وتسعين وستمائة، أُعْلِم بالشيخ زين الدين الآمدي المذكور فقال السلطان غازان لأصحابه: إذا جئت غدًا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتى السلطان غازان المستنصرية، احتفل الناس به، واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي السلطان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحدًا بعد واحد، ويسلم كل منهم على الشيخ، ويوهمه الذين معه، أنه هو السلطان – امتحانًا له – فجعل الناس كلما قدم أمير يعظمونه ويأتون به إلى الشيخ زين الدين؛ ليسلم عليه، والشيخ يرد السلام على كل من أتى به إليه، من غير تحرك له ولا احتفال به، حتى جاء السلطان غازان، في دون تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلَّم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يده نهض له قائمًا وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وأعظم الدعاء للسلطان باللسان المغولي، ثم بالتركي، ثم بالفارسي ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلامًا للناس، وكان زين المذكور عارفًا بكثير من الألسن واللغات، فعجب السلطان غازان من فطنته، وذكائه وحدة ذهنه ومعرفته مع أنه ضرير بحاسته (بحدسه) الذي فطن من معرفته للسلطان.
صَنَّف الآمدي جملة كتب في اللغة والفقه، وكان يتّجر بالكتب، أما قصة اكتشافه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان فهي أنه كان يحرز كتبًا كثيرة جدًّا، وكان إذا طُلب منه كتاب، وكان يعلم أنه عنده، نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها، كأنه قد وضعه لساعته، وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطُلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، أخرجه بعينه وأتى به، وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال، وإذا أمَرّ يده على الصفحة، قال عدد أسطر هذه الصفحة كذا وكذا سطرًا، وفيها بالقلم الغليظ كذا وهذا الموضع كُتب به في الوجهة – أي في الجانب – وفيها بالحمرة هذا، وهذه المواضع كتبت فيها بالحمرة، وإن اتفق أنها كُتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هناك إلى هنا، من غير إخلال بشيء مما يُمتحن به.
والأدهى من ذلك، أنه كان يعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنه كان إذا اشترى كتابًا بشيء معلوم، أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة – أي صغيرة – وصنعها حرفًا – أو أكثر – من حروف الهجاء، لعدد ثمن الكتاب بحساب الحروف، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبّد فإذا شدّ الكتاب بيده يعرف ثمنه من تنبيت (بروزات) العدد الملصق فيه.
وهذا الأسلوب هو بعينه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان؛ وهو أمر يدل دلالة قاطعة على عناية أولئك الأقدمين بأمور يُظَنّ أنها من مبتكرات العصور الحديثة ومستنبطات المدنية الحاضرة.
لم يمضِ على ظهور الإسلام في الجزيرة العربية قرن من الزمان حتى كان العرب المسلمون يحكمون أقطارًا تمتد بين الصين شرقًا والمحيط الأطلسي غربًا، وبين وسط آسيا شمالاً وبلاد الهند وإفريقيا جنوبًا، وفي تلك الأثناء نبت في هذه الأقطار فن جديد، جذوره العروبة والإسلام؛ وسقياه من فنون شعوبها، ولم يلبث هذا النبت أن استوى فنًا إسلاميًّا رائعًا، قُدِر له أن يكون من أطول الفنون عمرًا ومن أوسعها انتشارًا. فنٌّ ازدهر في شتى المجالات سواء في العمارة أو في الفنون الزخرفية والتطبيقية وفي الفنون التشكيلية بمختلف جوانبها.. فنُّ تميز بالحيوية والتفاعل مع غيره من الفنون تأثرًا وتأثيرًا.. فنًا يتسم بخاصية التنوع في الوحدة..
هذا الفن الإسلامي هو موضوع هذه الموسوعة التي تمثل أول إنتاج من نوعه في هذا المجال، وفي الوقت نفسه أضخم عمل من حيث شمول الفن وعدد اللوحات، إذ تشتمل الموسوعة على نحو مائتي بحث باللغة العربية، فضلاً عن كشافات عربية وإنجليزية بأكثر من خمسة آلاف مدخل عن العمارة والفنون الإسلامية مرتبة هجائيًّا، بالإضافة إلى اللوحات التي تزيد على 1850 لوحة توضح ما ورد بالمتن من مضامين، وتعد في حد ذاتها دراسة بالصورة للآثار الإسلامية منذ النشأة إلى اليوم، بحيث يمكن من خلالها الإلمام بهذه الآثار وتطورها على مدى الزمن واتساع الرقعة، ولا تغفل الموسوعة الصلة الوثيقة بين الفن والجوانب الحضارية بشكل عام، ومظاهر التأثير والتأثر بالفنون الأخرى.
ويقدم د.حسن الباشا في موسوعة العمارة والآثار والفنون الإسلامية عصارة أبحاثه ودراساته في خمسين سنة كاملة في هذا المجال.
وصدرت الموسوعة بالتعاون بين دار أوراق شرقية للطباعة والنشر ببيروت، ومكتبة الدار العربية للكتاب بالقاهرة.
حكاية الموسوعة:
ويحكي د.حسن الباشا كيف نشأت فكرة إعداد هذه الموسوعة فيقول: احتوت هذه الموسوعة على المجموعة الكاملة لبحوثي في مجال العمارة والآثار والفنون الإسلامية التي تم نشرها في مجلات أو إلقاؤها في ندوات منذ سنة 1950، وقد بدأت العمل على إعادة نشرها كاملة بمناسبة حصولي على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1992.
ومما حفزني إلى إعادة نشرها في مجموعة كاملة بصفة خاصة رغبة الكثيرين من الباحثين وأبنائي الطلاب في الاطلاع عليها والإفادة منها، وكثرة استفسارهم مني عن طريقة الحصول عليها، وتعذر ذلك لتشتتها في مجلات ومطبوعات وندوات كثيرة في تواريخ مختلفة سواء المكتوب منها باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية، وتلبية لرغبة الباحثين في تيسير قراءتها للكثيرين من طلاب العلم، عكفت على جمع هذه البحوث التي بلغ عددها نحو 200 بحث باللغة العربية و50 بحثًا باللغة الإنجليزية، وكان بعضها محفوظًا عندي، وبذلت جهدًا في الحصول على باقي البحوث.
وحينما اكتمل لدي مجموعة البحوث اتضح لي أنها تتناول تقريبًا جميع جوانب العمارة والآثار والفنون الإسلامية في مختلف أنحاء العالم بدءًا من عصر ما قبل الإسلام وحتى العصر الحديث مع دراسات عن تأثيرها وتأثرها بالنسبة للحضارات والفنون الأخرى، ومن هنا كان من الأنسب ترتيب هذه البحوث عند إعادة الطبع تاريخيًّا وموضوعيًّا، بصرف النظر عن تاريخ نشرها لأول مرة مع إثبات تاريخ النشر ومكانه مع كل بحث من البحوث، واستغرقت البحوث أكثر من 2500 صفحة وزعت على خمسة مجلدات فضلاً عن الفهارس والكشافات الخاصة بالأعلام والأماكن والمصطلحات الفنية.
محتوى الموسوعة:
ويضيف د.حسن الباشا مؤلف الموسوعة قائلاً: “تبدأ الموسوعة بدراسات موسعة عن المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها وهي: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وذلك من حيث تاريخ كل منها ووصف عمارته وزخارفه وكتاباته، وما أجري فيه من عمائر على مدى العصور…
وتفرد الموسوعة قسمًا يتضمن بحوثًا عن الفنون الإسلامية بشكل عام، ودراسات عن الفن الإسلامي ومدى انتشاره، ومختلف جوانبه، وأصوله وأثر العروبة والإسلام في نشأته، ودحض الآراء التي تنكر فضل الإسلام في تكوينه وصدى القرآن الكريم في الزخرفة الإسلامية كما تتمثل في قبة الصخرة، والمسجد الأموي والعصور الأموية في صحراء الشام وأثر طابع الإبهار في الفن الإسلامي في عصر الحروب الصليبية وأهميته في تحقيق النصر، ودور المرأة في الفن الإسلامي وضرورة العناية بتنمية ثقافة الطفل عن طريق توعيته بالتراث، وتطوير فن إسلامي حديث يجمع بين التراث والحداثة، والتأثيرات الفنية المتبادلة بين الشعوب الإسلامية.
فقه البنيان:
وتحتوي الموسوعة على دراسات متنوعة عن فنون العمارة منها: بحث عن المنهج الإسلامي في العمارة الإسلامية واتفاقها مع تعاليم الإسلام واستمدادها من روحه، وآراء الفقهاء من موقف الإسلام من العمارة وأنواعها وعناصرها وزخارفها؛ مما يمكن أن يطلق عليه مصطلح “فقه البنيان”. وكذلك بحث عن المنظور الإسلامي والبيئة، وعن فن بناء المساجد عند العرب، وعن تخطيط المدن، وعن خصائص العمارة الإسلامية بصفة عامة. ثم تنتقل الموسوعة إلى دراسة العمارة في كل من أقطار العالم الإسلامي ابتداءً بالعمارة في مصر ثم خارجها، كما تتناول أثر العمارة الإسلامية في أوروبا..
الفنون الزخرفية:
وبعد العمارة تتناول الموسوعة الفنون الزخرفية فتقر تفوق المسلمين بشكل ملحوظ في مجال الزخرفة، وابتكارهم أشكالاً زخرفية ذات طابع إسلامي متميز، واستنباط الفنان من الطبيعة أشكالاً زخرفية مثل زخرفة الأقمار والسحب وموج البحر وقشر السمك، ثم تتناول الموسوعة جوانب الفنون الزخرفية والتطبيقية من سجاد ونسيج وخزف ومعادن ومسبوكات وزجاج وبلور صخري وأخشاب وعاج.
ومن موضوعات الموسوعة في مجال الفنون التطبيقية فنون الجلود، وتفرد دراسات عن مشغولات الجلود، وتلحق الموسوعة بدراسات الفنون التطبيقية بمجموعة من البحوث عن أساليب مختلفة استخدمت على التحف التطبيقية مثل التصوير والخط الزخرفي والألقاب مع العناية بدراستها من خلال مجموعة من النماذج، وتفرد الموسوعة بحوثًا عن المشغولات البحرية في الفن الإسلامي، وأثر البحرية الإسلامية في أوروبا، والمصطلحات الفنية العربية في اللغات الأوروبية، وأيضا يوجد قسم للفنون التشكيلية الإسلامية من زخرفة وتذهيب، ونحت وتصوير وخط من حيث الطرز والمدارس والفنانين وأساليبهم.
الخط العربي:
ويُختتم المتن العربي من الموسوعة بباب كامل عن الكتابة العربية، يتضمن بحوثًا عن الخط العربي وأنواعه وجمالياته، وخط المصاحف والكتابات الأثرية وأثر الخط العربي في الفنون الأوروبية، وكيف نشأت؟ والروايات التي وردت عن أصله، والكتابات العربية التي ترجع إلى ما قبل الإسلام، كما يتضمن هذا القسم بحثًا عن الخط القرآني، وخاصة خط المصاحف وانتشاره على طول طرق الحرير وآسيا الوسطى والصين كما تشتمل الموسوعة على بحوث باللغة الإنجليزية باعتبارها مكملة لبحوث اللغة العربية.
أهم العقبات:
بيد أن أهم العقبات التي واجهت د.حسن الباشا أثناء إعداده للموسوعة، وكما يقول تمثلت في إعداد اللوحات التي كانت منشورة ضمن البحوث، حيث إن معظمها لم يعد صالحًا للنشر إذ بُذل جهد كبير للإعداد لصور توضيحية أخرى.
ويشير إلى جهد مجموعة من الباحثين ممن ساهموا معه في هذا العمل فمنهم د.كوثر أبو الفتوح الليثي مدير عام البحوث الأثرية بالمجلس الأعلى للآثار بالقاهرة، ود. رفعت موسى المدرس بقسم الآثار جامعة جنوب الوادي، د.جمال عبد الرحيم المدرس بقسم الآثار جامعة القاهرة وغيرهم
اقرأ أيضا:
– فنون إسلامية…بعض خصائص الفنون الإسلامية
– فنون إسلامية…العين تسمع والأذن ترى…!!
– الطرز الإسلامية … الفن في خدمة الحياة
بثينة أسامة
الري هو الطريقة الرئيسية خلف الإنتاجية الهائلة للزراعة الحديثة كما كان أساس الحضارة من ستة آلاف سنة، وعندما ينمو40% من محاصيل العالم على 17% من الأراضي المزروعة يصبح الري أكثر أهمية الآن عن أي وقت مضى؛ لأنه يعني مزيدًا من المحاصيل لعالم جائع.
فلإطعام الأعداد المتزايدة من البشر المتزايد كان اعتمادنا على الري حتى وإن أوضحت الكاتبة المشهورة “سندرا بوستل” في كتابها “كومة الرمل” أن الري حقيقة غير مؤكدة في المستقبل.
والكاتبة “سندرا بوستل” هي مديرة المشروع العالمي لسياسة الماء في “أمهرست” (ماساشوستس) وهي من كبار أعضاء مؤسسة “وارلدونش” والتي تحت رعايتها تم نشر هذا الكتاب وكتابها السابق “الواحة الأخيرة” عام 1992 والذي تم إعادة طبعة عام 1997.
ويحمل الكتاب: “كومة الرمل” نفس المخاوف التي تحملها معظم إصدارات “وارلدونش” الضغط الذي تحدثه الزيادة السكانية والتي لا تكف عن استهلاك المصادر الطبيعية، ولكنه يقوم بتبسيط المشكلة لكي يستطيع أن يدركها غير المتخصصين وهو في محتواه إشارة تنبيه.
تشير “سندرا” إلى أنه مع الزيادة المتسارعة في عدد السكان كان يجب التوسع في الزراعة أفقيا ورأسيا ولكن هناك ثلاثة عوائق تمنع التوسع أو تكثيف الري:
1- كميات المياه المحدودة التي ينتجها حوض أي نهر.
2- زيادة الملح في التربة نتيجة الري المتزايد بتزايد جني المحاصيل، والذي يجب أن يتبعه تطهير للتربة، لكن تكلفة هذا التطهير قد تكون في بعض الأحيان أعلى من تكلفة الري نفسه.
3- وربما أخطر اتجاه يختص بالكميات المستهلكة من المياه الجوفية المختزنة والتي تضخ منذ زمن بعيد في الأراضي الجافة والآهلة بالسكان مثل شمال الصين وغرب الهند والشرق الأوسط.
وتبدأ الكاتبة البحث وراء ازدهار هبوط المجتمعات الزراعية عبر الزمن وتلقي الضوء على التاريخ الطويل والمتداخل للري في آسيا ثم تأتي سريعًا للعالم الحديث ففي القرن التاسع عشر كان هناك فقط ثمانية ملايين هكتار من الأراضي يتم ريها أما الآن فهناك 240 مليون هكتار.
وتعتقد الكاتبة أن عصر المشاريع الكبيرة على السطح قد انتهى، فتكلفة الري تزداد على مستوى العالم بينما الأسعار الزراعية في انخفاض مما يقلل من رأس المال المتاح لهذه الاستثمارات الثقيلة.
فرغم أن الحكومة المصرية مثلا تريد أن تزيد من الأراضي الصحراوية المستزرعة فإن كميات المياه التي يحملها النيل سنويا محدودة ويتم تقسيمها بين الدول التي يمر بها وبالتالي فقد يصل هذا إلى نزاع سياسي.
إن نظام الري السطحي مهدد بالإلغاء لتناقص كميات المياه في المناطق المختلفة من العالم، ولكن المشكلة المنتشرة وما تزال هي تملح التربة، والاستثمارات الهائلة التي تحتاجها الأراضي لتطهيرها ومشكلة التملح تواجه حوالي خمس الأراضي المروية على مستوى العالم.
وبالتالي فإن نظام الري الحالي يحتاج إلى الإصلاح في أساليب الري المتبعة ويتبع ذلك زيادة الإنفاق على منع تملح التربة.
تغير المناخ:
هل ستؤثر مشكلة تغير المناخ على الري وعلى الأمن الغذائي للعالم؟ مع ارتفاع درجات الحرارة على مستوى العالم يزيد تبخر الماء من الحقول ويقل توقع سقوط الثلوج مع استمرار سقوط الأمطار، وبالتالي نقص المخزون الثلجي على قمم الجبال والذي يروي الأودية الغنية.
ومع أننا لا نستطيع أن نتوقع بكامل التفاصيل كيف ستتأثر الزراعة المروية في مكان معين مع زيادة درجات الحرارة إلا أن تغير المناخ سيشتت الأساس الحالي للتخطيط للمشاريع والذي يرتكز بشكل أساسي ومباشر على الظروف الحالية والماضية.
وفي النهاية فإن الكاتبة ترى أن هناك العديد من المشاكل تحتاج إلى حلول عاجلة ولكن مشكلة الري تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها بشكل أكبر، وإلى التعامل معها بشكل أسرع وأكثر جدية.
اسم الكتاب : “كومة الرمل”
اسم المؤلف : سندرا بوستل
اسم الناشر :worldwatch/w.w.Norton, 1999,131pp..
د . أحمد صبرة – جامعة الإسكندرية
تتأثر اللغة – أي لغة – بالروح السائدة للحضارة وإنجازاتها وآلياتها، وينعكس في اللغة النمط الحضاري السائد في مجتمع من المجتمعات، والحضارة تتأثر باللغة: بأنماطها التعبيرية وقدراتها الإبداعية التي اكتسبتها عبر تاريخها الطويل، وإذا كان من الميسور التدليل على تأثير الحضارة في اللغة، والإتيان بالشواهد الكثيرة التي تعززه، مثلاً اللغة العربية تمتلئ بالألفاظ التي تصف الصحراء وحيواناتها ومظاهر الحياة فيها، كما كان تأثير البحر واضحاً في مفردات اللغة الإنجليزية.. إذا كان ذلك ميسوراً فإن تأثر الحضارة باللغة خاض فيه الفلاسفة، وعلماء اللغة المحدثون تحت ما سُمِّي بعلاقة الفكر باللغة، ووجدوا تأثيراً خفيًّا للغة في طريقة تفكير الناس وتصوراتهم عن الكون والحياة، برغم أن اللغة هي في المحل الأخير من ابتداعهم.
وإحدى المؤشرات المهمة على تحضُّر شعب من الشعوب هو علاقته بلغته: كيف ينظر إليها؟ وكيف يتعامل معها؟ ثم كم هي قدرات لغته على التعامل مع نمط الحياة السائد؟
واللغة العربية من هذه الزاوية في مأزق؛ فهي تعيش في ظل حضارة ليست من صنع أبنائها، حضارة شكلت لنفسها نظاماً فكريًّا، وتصورات عقائدية عن الكون مخالفاً في كثير من نواحيه للنظام الفكري الذي عاشت في ظله اللغة العربية، كما أن هذه الحضارة ابتدعت علوماً ومناهج للبحث العلمي لم تألفها الحضارة العربية من قبل، وأنجزت منتجات، وصاحب هذه المنتجات عادات وتقاليد خاصة، كل هذا كان غريباً عن العرب وكان مأزقاً تواجهه اللغة العربية في كل يوم.
قديماً عندما كان العرب هم أصحاب السيادة في العالم القديم، اختلفت طبيعة تأثرهم بتراث الحضارات المعاصرة لهم، الفارسية واليونانية والهندية، لقد أخذوا منهم بعض أفكارهم، وطرق بحثهم، وبعض أساليبهم في الحياة، وفي تدبير شئون الدولة، وترجموا كثيراً من كتبهم، لكنهم خرّجوا كل هذا بالروح الإسلامية؛ ليخرج نتاجاً آخر فيه من سمات الحضارات الأخرى بقدر ما فيه من الطابع الإسلامي العربي، وحتى لغات هذه الحضارات أثّرت بعض الشيء في اللغة العربية، لكن الدخيل والمعرب من هذه اللغات انصهر في العربية، ودخل في نسيجها، وتأثر بروحها العامة، كما كان تأثير العربية في اللغات المحلية المحيطة بها قويًّا، فهي إما قضت عليها بعد صراع طويل دام قروناً مثلما حدث مع اللغة القبطية في مصر، أو دخلت بألفاظها وتراكيبها في نسيج هذه اللغة مثلما حدث مع اللغة الفارسية، فبرغم أن اللغة الفارسية من عائلة لغوية تختلف عن العائلة التي تنتمي إليها اللغة العربية، فإن أكثر من نصف كلمات اللغة الفارسية ترجع أصولها إلى العربية.
في ظل هذا الإحساس القوي بالتفوق تجاه الغير، عامل القدماء لغتهم العربية، ونظروا إليها على أنها أفضل اللغات جميعاً، وأقدرها على التعبير عن العواطف الإنسانية ومقتضيات الحياة اليومية، تجد ذلك مبثوثاً في كتابات الجاحظ، وغيره ممن كتبوا عن إعجاز القرآن الكريم، وأما علماء اللغة فإنهم كتبوا مئات الكتب الأصلية في كل ما يتصل بالبحث في اللغة، يكفي أن نعرف الآن أن كثيراً من مناهج البحث اللغوي الحديث نجد بذوراً لها في كتابات العرب القدماء، ولكن من منظور فكري مخالف لما يُكتب اليوم، لقد ألف القدماء وبمجهود فردي دائماً المعاجم العامة في اللغة، وألفوا معاجم متخصصة في أسماء الحيوان، أو بعض الأشياء المتصلة بالبيئة مثل الأنواع والرياح، وألَّفوا معاجم للمصطلحات، وشادوا منهجاً ضخماً لبحث النحو العربي، وألفوا فيه مئات الكتب حتى قيل عن النحو العربي: إنه العلم الذي نضج حتى احترق.
ثم تغيّب الدور الحضاري الفعَّال للعرب لأسباب كثيرة ومعروفة، وبدأ اهتمامهم بلغتهم يقل تبعاً لذلك، وبدأ عصر الشروح، وشروح الشروح، والذي يقرأ التاريخ الإسلامي جيداً يجد أن توقف العرب عن الاهتمام بلغتهم تزامن مع الانهيار العام لكل مظاهر الحضارة التي شادوها عبر مئات السنين.
في الوقت نفسه وعلى ضفاف الشاطئ الآخر من البحر المتوسط بدأت تتولد حضارة أوروبا بكل اختلافاتها التي أشرت لها قبلاً، ثم كان أول احتكاك حقيقي بين أوروبا والعرب في أوضاع قوتهم الجديدة، واختلاف موازين هذه القوى لصالح أوروبا في الحملة الفرنسية على مصر. وظهرت آثار هذا الاحتكاك في تاريخ الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، حين واجه أشياء لم يألفها مثل الكهرباء، والمولدات، وبعض الأجهزة التي أحضرها الفرنسيون معهم لدراسة مصر، لكن لا لغة الجبرتي، ولا اللغة العربية أيضاً كانت مهيأة لوصف مثل هذه الأشياء، لكن أول مواجهة بين اللغة العربية وحضارة أوروبا كانت في كتاب رفاعة الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. لقد أراد الطهطاوي أن يصف ما رآه في باريس، فعجزت لغته، وهذا طبيعي، من أن تؤدي الوصف تماماً، جاءت بعض أوصافه غامضة مثل حديثه عمَّا شاهده في المسارح الفرنسية، وجاء البعض الآخر في عبارة طويلة مثل وصفه للمقاهي وما يحدث فيها، لم تكن هناك مصطلحات جاهزة تختصر الوصف وتقربه إلى الأذهان.
لقد كان مأمولاً بعد ما يقرب من قرنين من أول مواجهة حقيقية بين العرب والغرب أن تُحل الكثير من التناقضات التي تتسم بها العلاقة بين حضارة العرب وحضارة أوروبا، وأن تستطيع اللغة العربية تبعاً لذلك أن تواكب العصر، لكن هذه التناقضات – للأسف – تزداد حدة، ولا شك أن هذا يؤثر على اللغة العربية تأثيراً كبيراً.
ولعل أهم هذه التناقضات أن العرب فشلوا حتى الآن أن يكونوا عنصراً فعَّالاً ومؤثراً في الحضارة، على حين نجح غيرهم، هناك إحساس عام غير معلن أننا لن نكون مثلهم، وأن قدرنا هو أن نأخذ منهم دائماً، ليست هناك بادرة طموح في تجاوز الوضع القائم، وإلى المشاركة الفعَّالة في العصر، وربما كان أهم انعكاس لهذا الإحساس العام هو في تعاملنا الرديء مع اللغة العربية.
مثلاً في خدمة اللغة الألمانية -ناهيك عن الإنجليزية التي هي أكثر اللغات انتشاراً في العالم- في مجال تعلم الألمانية لأبنائها أو لغير أبنائها تجد عشرات الكتب والسلاسل التي تخدم كل غرض، وكل تخصص، على حين تفتقر العربية إلى مثل هذا النوع من الكتب، ويعتمد المدرس الذي يقوم بتدريس العربية لغير أبنائها على جهده الخاص، أو على مجموعة قليلة من الكتب التي لا تحقق هدفه في بعض الأحيان، وللأسف فإن بعض هذه الكتب من تأليف المستشرقين في جامعات أوروبا وأمريكا.
وفي مجال المعاجم تظهر كل عام طبعات جديدة من المعاجم الألمانية، فيها كل الألفاظ الجديدة، والمصطلحات الطارئة والتغييرات التي طرأت على استعمال اللغة، لعل أهم هذه المعاجم معجم (دودن DUDEN) الذي ظهر في طبعة جديدة هذا العام محتويًا على مجموعة كبيرة من الألفاظ الجديدة وبخاصة التي واكبت توحيد ألمانيا، وقد احتفلت الأوساط الثقافية بهذا المعجم، وأذيع نبأ صدوره في نشرات الأخبار، أما في العالم العربي فإن آخر معجم كبير كان المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان هذا منذ سنوات طويلة، ولم تظهر له طبعات جديدة – فيما أظن – على الرغم من التغييرات الهائلة التي طرأت على العربية بعد ظهور هذا المعجم.
وفي كل عام تقريبًا تظهر كتب في النحو الألماني تحتوي على رؤى جديدة، وأفكار تُطرح للنقاش، بجانب كتب علم اللغة، وتاريخ اللغة الألمانية وغيرها، ويستفيد القائمون على تعليم اللغة الألمانية بالمدارس والجامعات من هذه الأفكار والنظريات في تطوير الكتب الدراسية اللغوية؛ ليكون الطالب مُلِمًّا بالجديد في لغته، أما نحن فعلى الرغم من الاجتهادات التي ظهرت لتطوير النحو العربي وطريقة تدريسه – مثلاً كتابات أستاذنا تمام حسان، وبعض رسائل الدكتوراة التي ناقشت تطوير مناهج تدريس اللغة العربية- فإن هذه المناهج على ما بها من عيوب كثيرة ما تزال هي الطريقة المتبعة حتى الآن في أكثر الدول العربية، وعلى الرغم من أن تونس – على سبيل المثال – تحاول تطوير دراسة النحو العربي بها في المدارس، فإن محاولات التطوير غالبًا ما تتم داخل إطار التصور التقليدي للنحو العربي.
نحن مقصرون في حق لغتنا، مقصرون في العناية بها، لا أستثني أحدًا. وعلى الرغم من أننا نشاهد مظاهر التدهور اللغوي في كل المجالات، والتي تزداد حدة عامًا بعد الآخر، وزحف العامية واحتلالها مساحات في وسائل الإعلام أكثر مما ينبغي، فإننا لا نفعل شيئًا له قيمة من أجل وقف هذا التدهور.
اقرأ حول مشاكل اللغة العربية:
رسالة مفتوحة إلى جهابذة اللغة العربية
التعريب أم المعارك الثقافية في المغرب العربي
إقرأ في نفس الزاوية:
التمييز بين الشريعة والفقه
لقد رأى الدكتور السنهوري في الإسلام دينًا ودولة، مع تميز الدين فيه عن الدولة، فهو جامع بينهما، ومميز -في ذات الوقت- لكل منهما عن الآخر.. فالدين الإسلامي فيه “العقيدة” و “الشريعة”، وعقيدته خاصة بالمسلمين دون سواهم، أما شريعته، ففيها “عبادات” و “معاملات”، وعباداتها خاصة بالمسلمين وحدهم، بينما معاملاتها، التي بسط الفقهاء مبادئها ونظرياتها وقواعدها في “الفقه الإسلامي” فإنها جزء من ثقافة الأمة، وأساس مدنيتها المتميزة، وقانونها الذي أبدعته الأمة -بالاجتهاد- الذي مارسته وتمارسه “سلطة الإجماع” -إجماع الفقهاء- الذين هم نواب الأمة، الذي يتولون -نيابة عنها- سلطاتها في التشريع والتقنين.
وإذا كان القرآن الكريم هو البلاغ الإلهي، وكانت سنة رسول الله r هي البيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، فإن السنهوري قد رأى أن ما في القرآن والسنة -وهما المصادر العليا للفقه الإسلامي- خاصًا بهذا الفقه -كقانون عام لكل الأمة على اختلاف عقائدها الدينية- هو “التوجيهات” التي ترسم للفقه فلسفته التشريعية، ومبادئه الكلية، ونظرياته العامة، وقواعده التي تستنبط منها الأحكام… فالقرآن والسنة -وهما جماع الدين الإسلامي- ليسا الفقه الإسلامي -الحاكم والموحد لكل الأمة- وإنما فيهما “التوجهات” التي يبدع في إطارها الفقهاء -نواب الأمة- صناعة الفقه -كقانون محض- بواسطة سلطة وآلية الإجماع.
فهذا الفقه الإسلامي ليس “دينًا خالصًا” حتى يكون خاصًا بالمسلمين وحدهم دون سواهم من رعية الدولة الإسلامية، بل إن “توجهاته” التي جاء بها القرآن والسنة من الممكن أن تجاوزها وتزاملها “توجهات” الشرائع الكتابية السابقة على الرسالة المحمدية -في ملة إبراهيم وشريعة موسى ووصايا المسيح -عليهم الصلاة والسلام-؛ أي أن شرائع غير المسلمين -من رعية الدولة الإسلامية- في المعاملات -إذا وجدت ولم ينسخها التطور والتغير- كما هو حال الوصايا العشر مثلا، والقيم الإيمانية والأخلاقية: هي جزء من الشريعة الإسلامية، وفق القاعدة الإسلامية: “شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تُنسخ”.
ومن ثم فإن هذه الشريعة الإسلامية، في توجهاتها الخاصة بالمعاملات، والحاكمة لصناعة الفقه والقانون، هي المرجعية الحاكمة لكل الأمة -وليس للمسلمين وحدهم- في شئون الدولة والمدنية والثقافة والقانون، وإذا كان غير المسلمين قد تُركوا وما يدينون به من عقائد، أي أن منطقة اختصاصهم وتميزهم عن غيرهم هي العقائد والعبادات، فإن المسلمين مثلهم في هذا التميز والاختصاص لهم عقائدهم وعباداتهم الخاصة بهم، والتي لا يعممونها على الآخرين.
فكل أبناء الديانات المتعددة في الدولة الإسلامية يتمايزون في العقائد والعبادات المتمايزة، بينما يشتركون جميعًا في الاحتكام إلى فقه واحد، وقانون واحد، وضعه فقهاء الأمة، الذين ينوبون عن الأمة في ممارسة سلطاتها في التشريع والتقنين، فالفقه الإسلامي فقه محض، وقانون خالص لكل الأمة، يصوغه فقهاء الأمة بسلطة الإجماع، في إطار توجهات الشريعة الإسلامية، وما لم ينسخ من توجهات الشرائع السماوية السابقة على شريعة الإسلام.
هكذا بلور السنهوري باشا النظرية الإسلامية في علاقة الدين بالدولة، وأبان الصلات الجامعة والخطوط المميزة بين العقيدة والشريعة، وبين عبادات الشريعة ومعاملاتها، وبين الشريعة والفقه، وبين ما في الكتاب والسنة مما هو خاص بالعقائد والعبادات، وما هو خاص بالتوجهات الحاكمة لصناعة القانون والفقه، بواسطة سلطة الأمة في التشريع والتقنين بواسطة الإجماع.
ولقد ألحّ السنهوري على تفصيل وتأكيد هذه النظرية الإسلامية، منذ كتابه عن “فقه الخلافة” -سنة 1926م- وحتى دراسته عن “القانون المدني العربي” -سنة 1953م-.
فالسنهوري من موقع الخبرة والأستاذية في صناعة القانون، وفي فقه الشريعة الإسلامية قد بلور -وهو يميز بين الدين والدولة- التمييز بين الشريعة والفقه، فما في الشريعة -التي هي وضع إلهي ثابت- للفقه -الذي هو علم الفروع المتطورة بالاجتهاد دائمًا وأبدًا- هي توجيهات، أغلبها مبادئ وقواعد ونظريات وفلسفات تقنين، أكثر مما هي تفصيلات للقوانين والأحكام.
ولهذه الحقيقة من حقائق الفقه الإسلامي تميز هذا الفقه “بالمرونة” و”التطور”، بينما تميزت الشريعة بالوضع الإلهي الذي لا تبديل فيه، والثبات الذي لا يعتريه التغيير، وبعبارة السنهوري: “ففقه هذه الشريعة كثوب راعى الشارع في صنعه جسم من يلبسه، وكان صغيرًا، ولحظ في صنعه نمو هذا الجسم في المستقبل، فبسط في القماش بحيث يمكن توسيع الثوب مع نمو الجسم”.
ويمضى السنهوري -بعد هذا التصوير لمرونة الفقه الإسلامي- فيعزو ظواهر الجمود في الفكر الإسلامي، وظواهر الانفلات من هذا الفكر إلى غيبة هذه الحقيقة عن كل من أهل الجمود وأهل الانفلات، فيقول: “ولكن هذه الحقيقة غابت عن عامة المسلمين فانقسموا فريقين:
أحدهما: لبس الثوب على الضيق فاختنق.
والثاني: لم يطق هذا الضيق فمزق الثوب ولبس عاريًا.
على أن الثوب صالح للتوسيع دون أن يضطر لابسه إلى الاختناق أو التمزيق..”.
ولأن مشروع السنهوري باشا كان أسلمة الشرق… وذلك:
– بإقامة جامعة الأمم الإسلامية على أساس الشريعة الإسلامية.
– وبعث المدنية الإسلامية المتميزة عن المدنية الغربية بمميزات الإسلام عن المسيحية.
– واستدعاء الشريعة الإسلامية بالدراسات الجديدة، والاجتهاد الجديد لتتخطى أعناق القرون إلى العصر الحديث.
ولأن ما يعني هذا القانوني العظيم من الإسلام وشريعته كان -في الأساس وقبل كل شيء- هو الفقه الإسلامي -وفقه المعاملات تحديدًا- أي: القانون الإسلامي، فلقد كان لتجديد الفقه الإسلامي بتحديث دراساته مكان ملحوظ في مشروعه الفكري.
خطوات عملية لتجديد الفقه
ولقد أراد السنهوري ألا تقف أفكاره ومشاريعه الرامية إلى تجديد دراسات الفقه الإسلامي، والتي علق عليها إمكانات فتح باب الاجتهاد الجديد في الشريعة الإسلامية، لتتخطى أعناق القرون وتحكم الواقع المعاصر، أراد السنهوري لمشروعه هذا ألا يكون مجرد “أفكار” فتحدث عن ضرورة إقامة مؤسسة علمية وتعليمية للنهوض بهذه الدراسات الحديثة، التي وضع لها العديد من الملامح والمعالم والتفاصيل، بل والميزانيات.
لقد بدأ مشروعه -مرحلياً- باقتراح “دبلوم في قسم الدكتوراه بالجامعة للفقه الإسلامي”، على أن يتطور هذا “الدبلوم” إلى “معهد للفقه الإسلامي” -تابع للجامعة- يمنح “دبلومات” عليا ممتازة في الفقه الإسلامي، والدكتوراه في الفقه الإسلامي، وذلك تمهيدًا لاستقلال هذا المعهد عن الجامعة، ليصبح مؤسسة علمية وتعليمية خاصة بالدراسات العليا في الفقه الإسلامي.
وإلى جانب الدراسات الأكاديمية العليا في الفقه الإسلامي، ومقارنة هذا الفقه بالمنظومات القانونية الأخرى، في الدبلومات والرسائل العلمية المتخصصة، اقترح السنهوري إنشاء مجلة متخصصة للفقه الإسلامي، ونشر كتب ورسائل هذا الفقه في سلسلة علمية متخصصة.
واقترح كذلك إنشاء “كراسيّ” علمية في هذه الدراسة التعليمية لمختلف التخصصات التي تبعث الحيوية والتجديد والاجتهاد في صناعة الفقه، كرسي للفقه الإسلامي، وثانٍ للدراسات المقارنة بين مذاهب هذا الفقه، وثالث لمقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الغربية، ورابع لأصول الفقه، وخامس لتاريخ هذا الفقه.
وأخيرًا، مكتبة متخصصة في مصادر الفقه الإسلامي والعلوم المتصلة به.
هكذا فكر السنهوري في هذه المؤسسة العلمية التعليمية المتخصصة في تجديد دراسات فقهنا الإسلامي العتيد، لنصل بهذا التجديد إلى أسلمة القانون الحديث، بل لقد اعتبر هذا المشروع “الأمل المقدس” الذي انطوت عليه جوانحه، وهفا إليه قلبه، ولم يبرح ذاكرته منذ سن الشباب وطوال سنوات عمره المديد.
وإذا كان السنهوري قد صاغ معالم مشروع هذه المؤسسة العلمية التعليمية، وهو بدمشق، يضع لسوريا قانونها المدني، المستمد من الفقه الإسلامي، فلقد عاود السعي لتحقيق هذا “الأمل المقدس”، بعد إنجازه القوانين المدنية لمصر والعراق وسوريا، وتطلعه إلى قانون مدني عربي موحد، نابع من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي المتجدد، فانتهز فرصة قيام جامعة الدول العربية، وتحدث إلى أمينها العام -الدكتور عبد الرحمن عزام [1311-1396هـ/1893-1976م] -في أمر إنشاء “جامعة علمية للثقافية العربية”- تابعة للجامعة العربية- على أمل أن يكون “معهد الفقه الإسلامي” أحد مؤسسات هذه الجامعة العلمية للثقافة العربية، وسجل هذا السعي إلى هذا “الأمل المقدس” في أوراقه الخاصة، فقال في ذكرى عيد ميلاده السادس والخمسين: “لقد ازددت يقينًا -وأنا اليوم أستقبل السابعة والخمسين من عمري- بأن مشروع الفقه الإسلامي، وما ينبغي لهذا الفقه المجيد من دراسة علمية في ضوء القانون المقارن، قد انغرس في نفسي وأصبح جزءاً من حياتي يكبر معها، ولكنه لا يشيب ولا يهرم. وقد وافاني توفيق الله، فصدر القانون المدني المصري، ثم القانون المدني العراقي، فأصبح الآن من المستطاع أن يستخلص من التقنينات الثلاثة “قانون مدني عربي” هو الذي يكون محل الدراسة والمقارنة بالفقه الإسلامي العتيد.
فإذا ما استطعت أن أحقق أملاً يجيش في نفسي، فأحمل جامعة الدول العربية على أن تنشئ جامعة علمية للثقافة العربية -تحدثت في شأنها إلى الأمين العام- أمكنت دراسة الفقه الإسلامي والقانون المدني العربي في معهد خاص ينشأ في داخل هذه الجامعة.
فاللهم اكتب لي أن أحقق هذا الأمل المقدّس الذي تنطوي عليه جوانحي، ويهفو إليه قلبي، ولا يبرح ذاكرتي منذ سن الشباب إلى اليوم، وقوّني اللهم على الاضطلاع به..”. هكذا كان تجديد دراسات الفقه الإسلامي -المجيد العتيد- لأسلمة القانون الحديث هو الأمل المقدس لهذا المصلح العظيم -الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا- انطوت عليه جوانحه، وهفا إليه قلبه، ولم يبرح ذاكرته منذ فجر حياته الفكرية والعلمية، تتقدم الأعوام بعمر السنهوري وحلمه -هذا- العظيم يكبر مع الأعوام، لكن دون أن يهرم أو يشيب، حتى ليجعل دعاءه إلى الله في ذكرى عيد ميلاده أن يعينه على تحقيق هذا الأمل المقدس العظيم.
بسم الله ،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله ،وبعد:
فالأحكام الشرعية تؤخذ من أدلتها كالقرآن والسنة والإجماع والقياس وغير ذلك من أدلة التشريع ، ولا يشترط للحكم أن ينص عليه في الكتاب ، فكثير من العلماء يرون أن السنة قد تستقل ببعض الأحكام ،وإن رأى البعض أن أصل هذه الأحكام في القرآن والخلاف بينهما لفظي ،فالسنة أتت بأحكام لم تذكر في القرآن .
والختان من الأمور المشروعة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم وجعلها من سنن الفطرة ،وقد يستشهد لها من القرآن بقوله تعالى :”ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا “،ومن المعلوم أن إبراهيم عليه السلام قد اختتن.
والأحاديث الواردة في الختان فيها ماهو صحيح يحتج به ،وليست كلها ضعيفة.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الختان للرجال والنساء،فمنهم من جعله في حق الرجال واجبا ،ومنهم من جعله سنة ،وأما في حق النساء ،فهو إما سنة أو مكرمة ،وليس هناك من الشرع ما يحظر على النساء فعله ،شريطة أن يقوم به طبيبة ثقة أو طبيب ثقة ، وذلك في الرجال والنساء ،وإن كان الأمر في النساء آكد.
وعلى كل ،فالختان مشروع ولا يمكن القول بخلاف هذا لا في النساء ولا في الرجال،والمطلوب هو أن يتم في وجود طبيب ثقة ،وإن لم تفعله المرأة فلا حرج عليها في هذا ،لأنه في حقها مكرمة على الراجح وليس بواجب فلا تلزم به .
يقول الدكتور وهبة الزحيلي أستاذ الشريعة بالجامعات السورية :
أحكام الشرع تؤخذ في أصلها إما من القرآن الكريم أو السنة النبوية، ولا يوجد آية في القرآن تدل على مشروعية الختان، إلا آية {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 16/123]. وقد اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة، كما ثبت في الحديث المتفق عليه عند أحمد والبخاري، وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هن خصال الفطرة ومنهن الختان، وثبت في شرعنا فيما رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي من حديث عائشة أن الختان من خصال الفطرة العشر. ويؤيد ذلك حديث ((من أسلم فليختتن)) وحديث عُثيم عند أحمد وأبي داود: ((ألق عنك شعر الكفر واختن))، وحديث أم عطية عند الحاكم والطبراني والبيهقي وأبي نعيم، وكانت خافضة (مطهِّرة) بلفظ ((أشمي ولاتنهكي)) أي اقطعي بخفة شيئاً قليلاً ولا تجوري.
لكن الحق أن هذه الأحاديث في مجموعها وإن طعن في بعضها لاتدل على الوجوب، فيكون الختان في حق الرجال والنساء سنة فقط، قال النووي: وهو قول أكثر العلماء، ومنهم الإمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى. وقال الشافعي وآخرون: الختان واجب في حق الرجال والنساء. وأوجبه الناصر الإمام يحيى من الزيدية في حق الرجال لا النساء، فهو تكرمة أو سنة لا واجب.
الخلاصة: إن الختان مطلوب شرعاً على أنه سنة في الراجح من الأقوال في حق الرجال، وتكرمة أو سنة في حق النساء، لاسيما بالنسبة للنساء في الأقاليم الحارة، بعكس الباردة. ودليله ثابت في السنة الشريفة الصحيحة، على أنه من خصال الفطرة، وأدلة إيجابه غير متوافرة في الواقع. والطب قديماً وحديثاً يؤيد مشروعية ختان الرجال، على سبيل التنظف ومنع الالتهابات في قُلْفة عضو الرجل بسبب تجمعّ الميكروبات والأوساخ أو الفيروسات في هذا المكان، حتى صار الختان من الشعائر الإسلامية المتميزة عن غيرها، فلايصح لمسلم إنكاره. والسنة إجراؤه في الصغر قبل البلوغ، ولا مانع من إجرائه حال الكبر .
والله أعلم
ويمكن الاطلاع على هذه الفتاوى :
بقلم: أشرف سالم
بينما كنت “أنبش” في أوراقي المهملة في محاولة فاشلة لفرزها وترتيبها استعدادًا لبداية عامٍ دراسيٍّ جديد وجدتُ مسودة هذا المقال، وتعجبت من عدم حرصي على تنقيحه والسعي لنشره في حينه.. ثم تذكرتُ أنني كتبته لمناسبة “اليوم العالمي للمعلم” منذ شهور طويلة.. وأن ما ثبّط همتي عن نشره أن صفحات الجرائد في هذا الوقت كانت مثقلة بالحديث عن المدرسين بشكل احتفالي روتيني صاخب، ولأني أوقن أن الآراء الهادئة الهادفة يصعب الإصغاء إليها في أجواء الضجة والصخب فقد آثرتُ تأجيل طرحي حتى ينفض السامر لعلي أجد من يُصغي إليه.
فرغم أنني مدرس (سابق) أعرف جيدًا حجم ومغزى الرسالة المنوطة بالمعلم ومدى الجهد الذي يقدمه المدرس (المخلص) والعناء الذي يكابده لتحقيق غايته .. فإنني لا أستريح كثيرًا لمثل هذه الاحتفالات لتكريم المعلم .. وكما يقول العلماء الرافضون لفكرة ما يسمى بـ”عيد الأم” الذي تحتفل به بعض بلداننا الإسلامية –تقليدًا للغرب- إذ يقولون: إن الإسلام أمرنا بتوقير وتقدير الأم في كل حين وأوجب علينا إحاطتها بكل مظاهر العناية والرعاية في كل لحظةٍ من حياتنا، وليس هناك معنى لتخصيص يومٍ سنوي للاحتفاء بالأم، خاصةً إذا كانت سلوكياتنا على مدار العام تحمل لهذه الأم العقوق والجحود والإهمال. وللأسف فإن هذا الوضع ينسحب بصورة أكبر وأوضح على المدرسين في عصرنا، فما حاجتي أنا -كمدرس- لأن يهديني تلاميذي في أحد أيام السنة -وبتوجيهات من الوزارة والإدارة- بعض البطاقات الملونة والزهور البلاستيكية.. إذا كان هؤلاء الطلاب أنفسهم يذيقونني على مدار العام الأمرَّين من السخرية والعصيان والتمرد والتحدي وغيرها من الأمور التي لا تخفى على أحد -إلا الذين يحرصون دائمًا على دفن رؤوسهم في الرمال- والتي تضع المعلمين في أسوأ دركات المهانة وتصيبُ معظمهم بمختلف الأمراض.
ويسوقني التباين الشديد بين التكريم الصاخب وبين الواقع الأليم إلى الفارق بين نظرة شاعرٍ حكيمٍ رقيق يعرف قدر المعلم ويرفعه إلى مقام القدسية وبينَ شاعرٍ معذّب قاسى مهنة بل محنة التدريس وكابد لأواءها؛ إذ يقولُ أمير الشعراء في تكريم المعلم:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أفضل أو أجل من الذي يبني ويُنشئ أنفسًا وعقولا فلا يسعُ الشاعر (المدرس) إبراهيم طوقان إلا أن يرد على أمير الشعراء في قصيدةٍ ساخرةٍ مؤثرةٍ تستعرض طرفًا من معاناته وكان مما جاء فيها:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم وفه التبجيلا
ويكاد “يفلقني” الأميرُ بقوله | كاد المعلمُ أن يكون رسولا |
لو جرَّب التعليمَ شوقي ساعةً | لقضى الحياة كآبةً وعويلا |
يا من تريد الانتحار وجدته | إن المعلم لا يعيش طويلا |
ولعلي أنطلق من تجربة “طوقان” الذي عاش حياته كلها معلمًا حتى قضت عليه المهنة، وبين تجربتي الشخصية، وقد كنت أسعد منه حظًا ففررت مبكرًا من براثن المهنة القاتلة، ورغم قصر عمري فيها فلم أحرم من مكابدة بعض ما عاناه وكم شكوت -وغيري من الزملاء المدرسين- للمسئولين من مشاغبات الطلاب التي تعكس روح التمرد المتعمد، وتحول بيننا وبين أداء الدرس في ظل غياب الوازع الأخلاقي أو الرغبة في التلقي أو وسيلة الردع أو التدخل الإداري لمساعدتي في أداء مهمتي.. والمؤسف أنني عندما سألت مسئولي المدرسة وكذلك الموجهين عن الحل وكيف أقوم بأداء عملي ورسالتي التعليمية؟ ..
وجدتُ موقفًا سلبيًا غريبًا وسمعت كلامًا غير مسئول يُفهم منه أن مهمتي الرئيسية هي أن أمضي دقائق الحصة الخمسين بسلام، وعليَّ أن أفعل أي شيء في سبيل ذلك ولو اضطررت أن أكون بهلوانًا في الفصل.. وعليَّ أن أتجاهل سفاهات الطلاب بل وأبتلع إهاناتهم في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي (إنهاء الحصة بلا مشاكل)، أما الهدف التربوي التعليمي فليس من مسئوليتي ..
بالطبع واجبي أن أسعى إليه .. ولكن إذا كان الطلاب لا يريدون أن يتعلموا فليذهبوا إلى الجحيم!.
هذا بالطبع غيضٌ من فيض ولديَّ -ولدى كل المدرسين عشرات القصص المشابهة- عن المعاناة التي يلاقيها المدرس بسبب تواري قيم التوقير والاحترام له بين الأجيال المعاصرة من الطلاب..
وتقاعس الأجهزة الإدارية والتربوية في المجتمع عن تقديم الدعم للمدرس رغم سعيها لتكريمه بمظاهر احتفالية زائفة.
المصيبة الحقيقية ليست في هذا الواقع الأليم ولكن في وجود من يبرره ، فمن المثقفين من إذا طرحت أمامه قضية ما يتعرض له المدرسون من مهانة قال لك: إن هذا للأسف توجه عالمي وصراع أجيال، وحتى الآباء والأمهات الآن يشكون من عدم احترام أبنائهم وغياب الطاعة، وهذا عذرٌ أقبح من ذنب.. فلو سلمنا جدلاً بأن هذه المهزلة اتجاه عالمي فهذا لا يجعل الخطأ صوابًا، وليس هناك ما يلزمنا به فنحن أمةٌ لها خصوصيتها وعلينا أن نتمسك بقيم ديننا وأعراف عروبتنا ولا نستورد من الآخرين إلا الإيجابيات، ثم إذا كان الآباء فقدوا احترامهم في محيط الأسرة فهذا لا يجعلنا نسلب حق المدرس في الاحترام داخل المدرسة .. بل واجبنا السعي لإعادة الاحترام لكليهما للآباء والمدرسين وبحث مواطن الخلل التي أدت إلى غيابه.
والأغربُ من ذلك من يقول: إن غياب التوقير للمدرس ليست ظاهرةً طارئةً على مجتمعاتنا بل إن المراجِع لتراثنا يجد العديد من نوادر المعلمين والمؤدبين التي تبرز ما كانت تتعرض له هذه الطائفة من مهانة على مر العصور .. ويا لها من فريةٍ خبيثة تخلط الجد بالهزل في تاريخ هذه الأمة التي كان ديدنها تقدير العلم وتوقير المعلم.. فلو صدق ما قاله القُصّاص والحكواتية عن نوادر المعلمين والمؤدبين لماتت هذه الأمة منذ زمن، ولما وصل إلينا علمٌ ولا عالم، ثم ما من طائفةٍ من أصحاب المهن -بلا استثناء- إلا وقد تعرّضت هذه النوادر لها بالتعريض والسخرية، فلماذا لا يجني التجار والأطباء والقضاةُ وغيرهم حصاد تاريخ أسلافهم ويُكتب ذلك فقط على المدرسين؟! .. ثُم ألم يحمل لنا التاريخ –الحقيقي- عشرات القصص المشرّفة عما كان يحظى به المعلمون من إجلالٍ وتقدير على مر العصور، ولعل قصةً واحدة مشهورة لدينا جميعًا تقدم لنا أبلغ الدليل على ذلك وهي قصة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد رأى ذات مرة ابنيه الأمين والمأمون -الخليفتين من بعده- يتسابقان على حمل نعال مؤدبهما فقال لوزيره: “أتدري من أعزُ الناس؟” فقال الوزير: “ومن أعزُ من أمير المؤمنين؟!” فقال له: “أعزُ الناس من يقتتلُ وليا عهد المسلمين على حمل نعليه”.. هكذا كانت مكانةُ المعلمين لدى الملوك.
ثم يأتينا بعد ذلك من يقول لك: إن سبب التراجع في مستوى احترام وتقدير المعلم هو المعلم نفسه! .. فالكثير من مدرسي هذه الأيام غير جديرين بالتوقير فشخصيتهم ضعيفة وحصيلتهم العلمية متواضعة وقدراتهم التربوية متدنية.. وطبعًا نحنُ لا نجد في هذه الأعذار مبررًا للحط من مكانة المدرس، وإن أقررنا بوجود هذه السلبيات فعلاً في نسبة من مدرسينا.. ولكن المسئولية لا تقع على عاتقهم بل على الجهات التي اختارتهم.. فآلية اختيار المدرس ينبغي أن تكون على أعلى درجات الدقة والعناية.. بل وأن تبدأ مبكرًا قبل الالتحاق بكليات التربية ومعاهد المعلمين؛ لضمان انتخاب وتأهيل أفضل الكوادر للقيام بمهمة التدريس التي تعد –بلا منازع- أهم الواجبات في المجتمع .. ثم يأتي بعد ذلك دور التقييم المستمر من أجل التنقية والترقية والتوجيه والتدريب ليكون المدرسون في المجتمع هم -كما ينبغي- القدوة السلوكية والنخبة الثقافية والطليعة نحو بناء مجتمعٍ قادرٍ على التقدم ومواجهة تحديات التنمية.
وأخيرًا فهناك شبهة ركيكة واهية يزعم أصحابها من المتفرنجين أن التقليل من قدر احترام المدرس ناتج عن تناقص دوره في العملية التعليمية نتيجة تنامي دور التكنولوجيا في هذه العملية.. ولا أدري هل يتكلم صاحبنا عن بلادنا أم عن ميتشجان وميونيخ وأوزاكا.. فأين هي هذه التكنولوجيا في مدارسنا؟! .. ثم ما العلاقة بين هذه وتلك؟!.. وهل قيمنا وأخلاقنا وأعرافنا أصبحت كِباشًا علينا أن نريق دماءها على مذبح التحديث والتكنولوجيا؟!! إننا ندعو لاستخدام تقنيات التعليم الحديث في مدارسنا لما لها من آثار إيجابية على تطوير العملية التعليمية، ولا نتصور أن تكون لها آثارٌ سلبية على العلاقة بين المعلم والطالب حيثُ يبقى المدرس هو المرشد والموجه وهو محور العملية التعليمية الذي لا يمكن الاستغناء عنه.. ولو افترضنا جدلاً أن إدخال هذه التقنيات إلى مدارسنا سينتقص ما للمدرس من هيبةٍ واحترام في نفوس تلاميذه فلا مرحبًا بها وعودتنا إلى الكتاتيب والمحاظر أكرمُ لنا وأشرف.
وللذين يحسدون المدرس على راتبه الكبير وإجازته الطويلة نقول: إن المدرس يدفع ثمن ذلك من صحته وكرامته بل وعمره. ولمن يحمّلونه مسئولية تدني المستوى التعليمي للأجيال المعاصرة لتقصيره في العطاء نقول: إن المعلم جزءٌ من سياسةٍ تعليميةٍ شاملة تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة مستمرة.. أما الانتقاص من قدر المعلم فلن يعالج هذه المشكلة.
وختامًا للذين اعتادوا اعتلاء المنصات المزخرفة باللافتات الملونة وتدبيج الخطب المنمقة وكتابة المقالات المطولة في مناسبة يوم المعلم العالمي نقول: إن التكريم الحقيقي للمعلم يتمثل في تحقيق المعاملة الكريمة التي تليق برسالته ومكانته، ثم توفير الظروف المناسبة له للقيام بعمله، ليس في يومٍ سنوي بل على مدار دهرٍ عالمي.. واليوم الذي ستحققون فيه ذلك سيكون حقًا “اليوم العالمي للمعلم”.
إقرأ في نفس الزاوية:
قُمْ وَادْفَعِ الخَطْبَ عَنْ شـاشـانَ بالخُطَـبِ وَاسْـكُبْ مَـلاحِـمَها في دَمْـعِ قـافِيَـةٍ وَكُلُّ أَرْضٍ مِنَ القـوقـازِ مَـلْـحَـمَـة ِ مُـنْـذُ اسْـتَظَلَّتْ بِدينِ اللهِ فـي شَـمَمٍ كأنّ مـا بـات ردمًـا مـن مسـاجدهـا مُلُكٌ مُشـاعٌ فَلَمْ نَـأبَـهْ بِمِحْـنَـتِـهـا كَأنّـنـا رِمَـمٌ طـالَ الرّقـادُ بِـهــا أوأنّنـا غَـيْـرُ أحْفـادِ الألـى رَفَـعـوا o o o
ما طَـأطَـأتْ قَـفَـقـاسُ الهـامَ خاضِعَةً ***
أَحْرارَ شـاشـانَ إِنْ نَجْـزَعْ فَمَعْذِرَةً ***
شـاشـانُ يا أَرْضَ ثَوراتٍ تُشَـرِّفُنـا ***
يا صاحِ مَعْـذِرَةً إِنْ كُنْتَ ذا قَلَـمٍ |
فَقَـدْ هَجَرْنا دُروبَ الحَـرْبِ وَالغَلَــبِ أوْ لَحْنِ أغْنِيَـةٍ فـي مَـرْتَـعِ الطَّـرَبِ وَكُلّ شَـعْبٍ مِـنَ القـوقـازِ ذو حَسَبِ فَاسْـتَوْطَنَ العِزّ مِنْهـا قَلْـبَ كلِّ أَبـي أوْ باتَ مِـنْ أهْـلِهـا للنّـارِ كالحَطَـبِ بَـل نَحْـنُ يا حُرْمَةَ الشاشانِ في وَصَبِ(1) أوْ أنَّـنـا مِن مَـواتِ الحسّ كَالنُّـصُبِ لِلْحَـقّ ألْـوِيَـةً فـي كُلّ مُـرْتَـهَـبِيوماً لِغـازٍ .. وَلَمْ تَرْكـنْ وَلَـم تَهَبِ (2) تُعيـثُ في الأرْضِ ألْواناً مِنَ الشّـجَبِ (3) كَما اضْمَحَلّتْ جِبالُ المَوْجِ في الحَبَـب (4) وَكُـلّ أَعْـداءِ ديـنِ اللّـهِ في رَهَـبِ وَمرْبِـطُ الخَـيْـلِ مِنْ سيبَرْ إلى حَلَب (5) ردّوهُ بِالخِـزْيِ وَالخِـذْلانِ والتّـبَـب (6) وحَيْثُ حَـلّوا رَأيْـتَ الحَـقَّ في رَجَبِ (7) وَعاطِـرُ الذّكْرِ فـي المِحْرابِ وَالقِبَـبِ عُبّـادُ مِطْـرَقَـةٍ أَوْ حامِلو الصُّـلُبِ وهْـمْ دُروعٌ لأرْضِ العُجْـمِ والعَرَبِ (8) وَكانَ تـاريخُـهـا مِنْ قَبْلُ كَالقَـتَبِ (9) كَالوَحْشِ في الغابِ .. لكنْ دونَما سَـبَبِ سوداً وحُـمْراً وألْـواناً مِنَ النُّخَبِ <10)”> والحَرْبُ مَـجْـزَرَةٌ أوْ بَغْي مُـغْتَصِبِ وَمِنْ وَرائِـهِما ” يَلْسـيـن” كالعَـقِبِ وَالغَـيّ غَـيٌّ فَلَـمْ يَرْشُدْ وَلَمْ يَـثُـبِ لا حَـقَّ يَعْرِفُـهُمْ في أي مُـنْـتـَدَبِ بَلْ عَفّ عَنْ ذِكْرِهِمْ مِنْ شِدّةِ التّغَـبِ (11) وَشُرْعَـةُ اللَـهِ أَنْـوارٌ لِمُـكْتَـسِـبِ فَاسْـتَكْبَروا مُـؤْثِـرينَ العَيْشَ في نَكَبِ وَجـاهِلٍ رَدَّ مـا يُـهْـدى بِلا تَعَـبِ وَلا اسْـتَجابـوا وَجُلُّ النّاسِ فـي رَغَبِ يَسودُهُ السّـبْيُ فَالأحْرارُ كالـغُـرُبِ (12) وَدُرَّةً فـي جَـبيـنِ الدّهْـرِ والكُتُـبِ عَـنِ الوَصِيَّـةِ وَالأدْمـاءِ في الكُـثُـبِ فَعانَـقَ الجرْحُ جُـرْحاً عاطِـرَ السَّـكَبِ أَبْـوابِ قوقازَ وَالطاغوتُ في رُعُب.(13) تُشْرِقْ عَلى مِثْلِهِمْ شَمْسٌ وَلَمْ تَـغـِبِ فَالخَيْـلُ كَالريـحِ وَالأضْلاعُ كَاليَلَبِ (14) وَالعَـزْمَ وَالجِـدَّ بَـعْـدَ الهَـزْلِ وَاللَعِبِ لَمْ تُـنـْقِـذِ الرّوسَ مِنْ كُفْرِ وَلا ثَـلَبِ في أَرْضِ شـامِلَ ما شأوا مِنَ التَّـبّـبِ تُـنْـجي الغُزاةَ غَـداً مِنْ شَـرِّ مُنْقَلَـبِ بِزُخْـرُفِ القَـوْلِ أَوْ بادٍ مِنَ الكَـذِبِ وَكُـلُّ حَـقٍّ سَـماوِيٍّ وَمُـكْـتَسَـبِ سَـيُـزْهَـقُ الباطِـلُ المَغْـرورُ فَارْتَقِـبِ وَوَعْـدُ رَبّـكَ فَـوْقَ الشَّـكِّ وَالرِّيَـبِإِذْ أَقْـبَـلَ الرّوسُ بِالأحْقـادِ كالرُّقُب ِ(15) نَخْشـى القَنابِـلَ .. مِـلْءَ الجَوِّ في صَبَبِ إِذْ ماجَ حَوْلَـكُمُ الأَجْـنادُ في لَـجَـبِ هذا التَّنـائـي كَسِـجْنٍ حَوْلَ مُرْتَـقِبِ عَـجْـزٌ تَبَدَّى بِلا سِـتْـرٍ وَلا حُجُـبِ مِـنَ الهَـوانِ وَجَـوْرِ الأهْـلِ وَالغُـرُبِ فَكُلُّـنـا مِنْ هُدى الرّحْمـنِ في نَسَـبِ وَيَنْشُـرونَ خَـرابـاً غَيْـرَ مُحْـتَجِـبِ وَإِنْ تّمـادَوْا .. أَطَلْـنـا الصّبْـرَ في دَأَبِ نَهْـوى الخُنوعَ بِلا خَطْبٍ وَفي الخُطُبِ (16) وَالهُونُ في فَمِنـا كَالسّـلْسَـلِ العَـذِبِ لِلْحُسْـنَيَيْـنِ .. فَبِئْسَ العَيْشُ مِـنْ أَرَبِ فَقَـدْ وَصَـلْتِ حِبـالَ الدّينِ وَالنّسَـبِ وَلاحَ في شَـكْوَتـي طَيْـفٌ مِنَ العَتَـبِ |
انظر أيضًا:
– الشيشان .. الصراع المحتوم
– الشيشانيون .. الحرية أو الموت
أ.د. نادية محمود مصطفى
4- التطور في أنماط مطالب الأقليات في ظل التطورات المعاصرة:
لم تكن الأقليات دائمًا مفعولاً به فقط، فقد كانت لها مقاومتها ومطالبها واختلفت هذه وتلك أيضًا من حيث طبيعتها، ومن حيث درجتها باختلاف الأنماط السابق شرحها. وهذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي: أي كيف تختلف ردود أفعال الأنماط المختلفة؟، ولكن لن نتوقَّف عند التفاصيل بقدر ما سنتوقف عند مدلولات أساسية للتمييز بين هذه الأنماط. فإذا كانت النظم الشمولية تحاول القضاء قسرًا على العقيدة وعلى الهوية وعلى الشخصية المسلمة، فإن النظم الليبرالية التي تتوافر على صعيدها حرية العقيدة تسعى في المقابل، وبدأت مستمرة إلى امتصاص الأقليات واستيعابهم في ثقافة النظام ومنظومته القيمية. ولذا فكلتا الحالتين -وإن اختلفت الأدوات والسبل- خطرٌ على عقيدة وانتماء وهوية وشخصية المسلم، وإن كانت الحالة الأولى تبدو أقسى من الثانية وأكثر خطورة، وخاصة في الأجل القصير؛ إذ لا تتوافر فيها ما يبدو متوافرًا في الحالة الثانية من فرض المناورة وتقديم المطالب واكتساب الحقوق، إلا أن الأمر وخاصة في الأجل الطويل لابد وعلى هذا النحو. وهنا تبرز أمامنا إشكالية هامة حول الاختلاف بين طبيعة المطالب في الحالتين، وتتلخص في المقابلة بين النمطين التاليين: من ناحية ظهور مطالب الانفصال والاستقلال من جانب الأقليات المسلمة في الحالة الأولى، (وهي أيضًا من الأقليات في ديار إسلام سابقة ومن الشعوب الأصلية في مناطقها)، ومن ناحية أخرى: ظهور اتجاهات نحو قبول الاندماج في مجتمع غير مسلم، ولكن مع الحفاظ على الهوية الثقافية الدينية الإسلامية في الحالة الثانية، (وهي أيضًا من الأقليات في ديار لم تفتح سلطة إسلامية ومن الشعوب المهاجرة)، وتستدعي هذه الإشكالية –لأهميتها–الانتباه إلى مغزاها، وذلك على ضوء اختلاف الأسباب المنشئة للأقليات، واختلاف طبيعة النظم التي يعيشون في ظلها، ومن ثم اختلاف طبيعة التحديات التي تفرضها عليهم، وبالنظر إلى التطورات العالمية الإقليمية الجارية خلال العقد الأخير، وبدون إسقاط ملامح الخبرة التاريخية يمكن أن نتوقف لنتفهم مغزى هذه المقابلة بين هذين النمطين من المطالب. بالنسبة للنمط الأول: فتستدعي هنا خبرة تاريخ الأقليات في الاتحاد السوفييتي السابقة في النظر إلى تاريخ مسلمي القوقاز وآسيا الوسطى، وعلاقتهم بالقوة الروسية المحتلة في ثوبها القيصري أو ثوبها الشيوعي؛ إذ يمكن أن نلحظ الاتجاهات الثلاثة التالية من ناحية اندلاع المقاومة المسلحة ضد السلطات الروسية، ومحاولة الاستقلال من جديد كلما سنحت الفرصة، كما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفي أواخر الحرب العالمية الثانية. ومن ناحية أخرى.. في مواجهة خطر التصفية بالقوة العسكرية أو بالضغوط على العقيدة والهوية؛ إذ لم تفقد الأقليات المسلمة سبل المقاومة الذاتية للحفاظ على العقيدة والهوية. ولذا توالت موجات الإحياء الإسلامي التي كانت تعقبها محاولات للاستقلال. ففي أوائل القرن العشرين.. ظهرت الموجة الأولى من الصحوة الإسلامية التي تواكبت مع الصحوة في المشرق العربي، وطالبت بتجديد القيم الإسلامية، وإحياء الثقافة الإسلامية، وتحقيق قدر من الاستقلال السياسي والثقافي للشعوب الإسلامية. ثم جاءت الموجه الثانية منذ أوائل السبعينات عاكسة لحركة مطردة من نمو الشعور بالهوية الإسلامية، ومن الإحياء الثقافي الإسلامي؛ سواء في القوقاز أم آسيا الوسطى؛ ولذا حين تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهار غطاؤه الشيوعي كشفت القوة الكامنة النقاب عن نفسها لتبين للشعوب المسلمة أنها ما زالت باقية بالرغم من كل الأضرار، وهي مستعدة بل متلهفة للعودة إلى المنابع لإصلاح هذه الأضرار. ومن ناحية ثالثة.. سعت السلطات الشيوعية –وفقًا للأوضاع العالمية والإقليمية، ووفقًا لتوجهات السياسة الخارجية– للانتفاع بالأقليات المسلمة لتحقيق أهداف خارجية، فعقب اندلاع الثورة الشيوعية اعتقد قادتها إمكانية تطويع الأقلية المسلمة لجذب مساندة الشرق المسلم ضد القوى الإمبريالية العالمية. وتكرر السيناريو، ولكن في إطار مختلف في منتصف الخمسينات حين أراد جورباتشوف الانفتاح على العالم الثالث بصفة عامة، والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وأعتقد أن تحسين أوضاع مسلمي الاتحاد السوفييتي يمكن أن يساعده في ذلك. وقد انعكست مثل هذه الحالات بالتحسُّن المؤقَّت في ظروف المسلمين أو على الأقل خفة حدة السياسات المعادية للدين. ومن النماذج الأخرى الممثلة لهذا النمط من المطالب: مطالب مسلمي إقليم كشمير، ومسلمي بعض جزر الفلبين، وفي جنوب تايلاند وعلى حدود الملايو للانضمام إلى الوطن الأم ماليزيا، ومسلمي الصومال الكيني في شمال كينيا للانضمام إلى “الصومال الكبير” ومسلمي قبرص. وإذا كانت بعض هذه المطالب قد خبت وتراجعت.. فإن بعضها مازال يتأجَّج على مراحل، وخاصة في كشمير وقبرص. وأخيرًا.. فإن قضية البوسنة وقضية الشيشان تُعَدَّان تجسيدًا حيًّا لهذه المطالب في ظل التطورات العالمية والإقليمية الراهنة التي هيَّأت الساحة لانفجار هذه المطالب. إن المطالبة بالاستقلال والانفصال تفرض على مسلمي هذه المناطق تحدّيات خطيرة متجدّدة من جانب الأكثرية المخالفة قوميًّا ودينيًّا. وتطرح هذه التحديات الآن كل معضلات العلاقة بين الحفاظ على التكامل الإقليمي لبعض الدول المركبة وبين حقوق تقرير المصير للشعوب التي ضمّتها هذه الدول قسرًا. وتحظى هذه القضية الآن بكل الاهتمام في ظل ما يسمَّى “النظام الدولي الجديد” الذي يرفع شعارات حماية حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، وهي الشعارات التي يشهد تطبيقها ازدواجية في المعايير؛ إذ تميز بين الأقليات المسلمة وغيرها لغير صالح هذه الأقليات. أما بالنسبة للنمط الثاني من المطالب؛ أي مطالب الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية الليبرالية- العلمانية.. ففي ظل هذه المجتمعات التي تكفل حرية الاعتقاد، وتزخر بسمات التعددية، وقوى المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان تتعدّد أيضًا التنظيمات الإسلامية التي ترعى شؤون المسلمين داخل الدولة أو تنظيم جهود غير قومية. وتبرز الحاجة لهذه نظرًا للتناقض بين أنظمة وأحكام البلاد المضيفة والمبادئ والأحكام الإسلامية؛ ولذا يواجه المسلم المعضلة بين المحافظة على وجوده وذاتيَّته كمسلم في نطاق مجتمع غير مسلم من ناحية، واحترام تقاليد الآخرين وقوانين الدول التي يعيش بها من ناحية أخرى. وإذا كان الأمر لا يصل بالطبع بهذه الأقليات إلى مطالب الاستقلال فإنه أيضًا لا يصل بها إلى دعاوى التغيير الجذري لهذه المجتمعات المستضيفة لتصبح مجتمعات أو دولاً إسلامية؛ ولذا تظل مطالبها كوكزة في مجال الدفاع عن حماية الحقوق الدينية والاجتماعية الاقتصادية الإسلامية، شأنها شأن أي أقلية أخرى قومية أو دينية- وفي نطاق النظام القائم الذي تعترف بوجوده، وتسعى إلى استكمال دائرة الوجود في نطاقه بالمطالبة أيضًا بالحقوق السياسية الكاملة. ولذا فإن الأقليات المسلمة تطالب هذه المجتمعات – وخاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة – باعتماد بعض من التعددية في الحياة الاجتماعية لصالح “الإسلام الضعيف الآن”، والذي سبق له منذ مطلعه وإبان عنفوانه أن اعتمد التعددية لصالح غير المسلمين. بعبارة أخرى.. فإن هذه المطالب تعني رفض الذوبان والانصهار من جانب فئات الأقلية التي مازالت تقاوم؛ إذ لا ننكر أن فئات أخرى ذابت بطريقة أو بأخرى ولم يعد لها من الإسلام إلا الاسم. إن مطالب هذه الفئات الداعية بذاتيتها وما تتعرض له من مخاطر تزيد من شائكية وضع هذه الأقليات الآن في ظل ما يسمى أزمة الإسلام في أوروبا وفي الغرب بصفة عامة، وخاصة في الولايات المتحدة، وذلك في ظل التحولات العالمية والإقليمية التي تجتاح العالم، وعلى الساحة الأوروبية والأمريكية نفسها. ومن ناحية.. نجد أن نمو الوجود الإسلامي في أوروبا -ومع رفضه الذوبان– أضحى بمثابة تحدٍّ حضاري في عقر دارها يهدد المظهر المسيحي لأوروبا العلمانية، ويزداد هذا الشعور تبلورًا لدى الأوروبيين في ظل تداعيات انهيار النظام الشيوعي وتداعي الحضارة الغربية وانتقال أعمال العنف إلى قلب أوروبا والولايات المتحدة. وهي الأعمال التي تلقي مسئولياتها على انصهار الحركات الإسلامية النشيطة في الدولة الإسلامية والمقيمين في الغرب أو اللاجئين إليه فرارًا من حكوماتهم التي حظرت أنشطتهم وقمعتهم. ويؤدي الربط بين أعمال العنف هذه والإسلام إلى تدهور صورة الإسلام والمسلمين في الدول الغربية، وخاصة بعد ترويج مقولة أن عدو الغرب اللدود قد تحوَّل من الشيوعية إلى الإسلام، وبعد إلقاء مسئولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أيضًا على هذه الأقليات المسلمة، وبعد تفشِّي الاتجاهات العنصرية اليمينية المتطرفة في المجتمعات الأوروبية. ومن ناحية أخرى، ومع استمرار رفض الذوبان الثقافي والاجتماعي.. برزت اتجاهات مسلمة لقبول اندماج الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية، ولكن في ظل تعددية حقيقية في الحياة الاجتماعية يقبل بها الغربيون عن قناعة، وليس تحت ضغط. ومن هنا تبلورت الدعوة بين صفوف الأقليات؛ لتحسين مكانة المسلم في أوروبا ثقافيًّا وعلميًّا ومهنيًّا، حتى تتبدَّل صورته السلبية لدى الغرب، ويتحول من كونه المسلم الضعيف إلى المسلم القوي المبدع. كما أكَّدت الدعوة أيضًا على ألا يكون مسلمو أوروبا امتدادًا لكيانات خارجية، وأن يكونوا مستقلين عن أية دولة أخرى؛ وذلك ليستطيعوا اتخاذ جذور محلية في الدول المضيفة لهم، والذين يريدون التمتع بحقوق المواطنة الكاملة فيها. بعبارة أخرى.. برزت الاتجاهات التي تنبه على ألا يظل التركيز على ما يفعله الغرب بمسلمين فقط، ولكن أن يمتدّ إلى ما يجب أن يفعله هؤلاء المسلمون لأنفسهم أولاً حتى يمكنهم أن يحصلوا من الآخر على ما يريدون. وهنا نصل إلى السؤال عن أنماط المساعدة التي تحتاجها الأقليات، وليست له إجابة واحدة. فتعدد الإجابات لعدة اعتبارات بتعدد أنماط الأقليات، ومن ثم تعدد واختلاف أولويات المساعدة المطلوبة، كذلك بتعدد التنظيمات المحلية في الدول التي تعيش فيها الأقليات والتي ترعى شؤونها، وبتعدد التنظيمات التي تكونها الحكومات الإسلامية أو الجماعات الأهلية في الدول الإسلامية من أجل مساعدة الأقليات المسلمة. وإذ أن هذه المساعدة يمكن أن تثير إشكالية التدخل في الشئون الداخلية للدول التي تعيش فيها الأقليات، ومن ثم فإن المساعدات المتجهة إلى الأقليات في النظم الليبرالية تصبح أكثر سهولة من تلك المتجهة إلى النظم الشمولية، بعبارة أخرى.. هناك الكثير من الاعتبارات السياسية -وليس الفنية أو المالية فقط- التي يمكن أن تؤثِّر على مسار واتجاهات هذه المساعدات وعلى نتائجها، ولذا نجد أن أكثر التنظيمات عبر الإقليمية الإسلامية وهي منظمة المؤتمر الإسلامي لم تول قضية الأقليات قدر الاهتمام الذي تتطلّبه هذه القضية من مثل هذه المنظمة. وتتفاعل العديد من الاعتبارات وراء محدودية فعالية المنظمة في التعامل مع هذه القضية(8) ، وعلى رأس هذه الاعتبارات ما وصل إليه حال الدول الإسلامية ذاتها، وما وصل إليه وضعها في النظام الدولي المعاصر. ومن ثم تصبح ضرورات مساعدة الأقليات المسلمة، واكتسابها جزئية من قضية أكبر من قضية الأمة الإسلامية برمتها في صورة دول كانت أو أقليات.
(8) انظر تحليل للعلاقة بين المنظمة وهذه القضية في د. محمد السيد سليم : فاعلية منظمة المؤتمر الإسلامي، السياسية الدولية، يناير 1993 ص31-ص32. |
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
فالأضحية سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضحى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بكبشين أملحين أقرنين، عنه وعن آل بيته، قال: اللهم هذا عن محمد وآله وضحى عمن لم يضح من أمته صلى الله عليه وسلم . ويقول الإمام أبو حنيفة: إن الأضحية واجب، والواجب عنده فوق السنة ودون الفرض، فيرى أنها واجب على ذوي اليسار، والسعة، لحديث ” من كان عنده سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ” فأخذ من هذا أنها واجبة .
فإن لم يثبت وجوبها فهي سنة مؤكدة وفيها فضل عظيم.
وقت الأضحية
ووقتها يبدأ من بعد صلاة العيد، أسبق صلاة عيد في البلد، بعدها تشرع الأضحية، وقبل ذلك لا تكون أضحية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل صلاة العيد أن يعتبر شاته شاة لحم، ليست شاة نسك، وليست شاة عبادة قربة .. حتى لو تصدق بها كلها، فإنه يكتب له ثواب الصدقة ولا يكتب له ثواب الضحية، لأن التضحية عبادة، والعبادات إذا حد الشارع لها حدًا، ووقت لها ميقاتًا، لا ينبغي أن نتجاوزه أو نتقدم عليه، كالصلاة، هل يجوز أن تصلي الظهر قبل وقتها ؟ لا يجوز .. كذلك الأضحية لها وقت معين . هناك بعض الناس في بعض البلاد يذبحون في ليلة العيد، وهذا خطأ . وتضييع للسنة وتضييع لثواب الأضحية . وإذا عرف عليه أن يعيد الأضحية، خاصة إذا كان عليه نذر فيجب عليه وجوبًا أن يعيد ..فيبدأ من بعد صلاة العيد . ويجوز أن يذبح في يوم العيد نفسه، وفي ثاني يوم وفي ثالث يوم العيد .. بل هناك قول بالجواز في رابع أيام العيد .. أخر أيام التشريق . والأولى أن يذبح إلى الزوال، فإذا جاء وقت الظهر ولم يذبح، يؤخر لليوم الثاني، وبعض الأئمة يقولون: حتى بعد ذلك يصح الذبح ليلا ونهارًا ولهذا أرى أنه ليس من الضروري أن يذبح الناس كلهم في أول يوم العيد، حيث يكون هناك زحمة على الذبح، فيمكن أن يؤخر بعض الناس الذبح إلى اليوم الثاني أو الثالث، فيكون بعض الناس بحاجة إلى اللحم، فيستطيع أن يوزع في اليوم الثاني أو الثالث على أناس لعلهم يكونون أحوج إلى اللحم من أول أيام العيد.
هذا هو وقت الأضحية.
ما يجزئ في الأضحية
وما يجزئ في الأضحية هو: الإبل والبقر والغنم.. لأنها هي الأنعام .. فيصح أن يذبح أيًا من هذه الأصناف. والشاة عن الواحد .. والمقصود بالواحد: الرجل وأهل بيته . كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا عن محمد وآله.
وقال أبو أيوب: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الرجل عن نفسه وأهله شاة واحدة، حتى تباهي القوم فصاروا إلى ما ترى.
فهذه هي السنة.
وبالنسبة للبقر والإبل، فيكفي سبع البقرة أو سبع الناقة عن الواحد، فيستطيع أن يشترك سبعة أشخاص في البقرة، أو في الناقة، بشرط ألا تقل البقرة عن سنتين والناقة عن خمس سنوات، والماعز عن سنة، والضأن عن ستة أشهر . الضأن الجذع أباح النبي عليه الصلاة والسلام ذبحه ولو كان عمره ستة أشهر . واشترط أبو حنيفة أن يكون سمينًا، وإلا أتم السنة.
هذا ما يجزئ في الأضحية.
أوصاف الأضحية
وكلما كانت أسمن وأحسن كان ذلك أفضل، لأنها هدية إلى الله عز وجل .. فينبغي على المسلم أن يقدم إلى الله أفضل شيء، أما أن يجعل لله ما يكره.. فلا، ولهذا لا يجوز أن يضحي بشاة عجفاء هزيلة شديدة الهزال، أو عوراء بين عورها، أو عرجاء بين عرجها، أو ذهب أكثر قرنها، أو كانت أذنها مشوهة، أو ذات عاهة أيًا كانت هذه العاهة .. لا ! إنما ينبغي على المسلم أن يقدم الشيء النظيف لأنه – كما قلت – هدية إلى الله سبحانه وتعالى .. فليتخير العبد ما يهديه إلى ربه ..و ذلك من الذوق السليم والله سبحانه لن يناله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم.
هل يتصدق بثمن الضحية ؟.
أما سؤال السائل: أيهما أولى: الصدقة بثمن الضحية أم الذبح؟
أما بالنسبة للحي، فإن الذبح أولى، لأن الذبح شعيرة وقربة إلى الله عز وجل (فصل لربك وانحر) فنحن ننحر اقتداء بسنة أبينا إبراهيم، وتذكيرًا بذلك الحدث الجليل، حدث التضحية . إبراهيم حين جاءه الوحي في الرؤيا، بأن يذبح ولده إسماعيل واستجاب لهذا الوحي، وذهب إلى ابنه وفلذة كبده، إسماعيل بكره الوحيد الذي جاءه على الكبر، وعلى شوق وفي غربة، فبعد هذا كله، وبعد أن رزقه الله، وبشره بغلام حليم، وبلغ معه السعي، وأصبح يرجى منه، جاءه الوحي عن طريق الرؤيا الصادقة ليذبحه إنه امتحان .. وامتحان عسير .. على أب في مثل هذه السن، وفي مثل هذه الحال، وفي ولد ذكر نجيب حليم، وبعد أن بلغ معه السعي، في سن أصبح يرجى منه، كل هذا ويأتيه الأمر الإلهي: اذبحه ! يريد الله أن يختبر .. قلب خليله إبراهيم ؟؟ أما زال خالصًا لله عز وجل ؟ أم أ صبح متعلقًا مشغولاً بهذا الولد؟ هذا هو البلاء المبين .. والامتحان الدقيق العسير …..
الأمم دائمًا تحاول أن تخلد أحداثها، وتجسد ذكرياتها العظيمة وتحتفل بأيام مجدها .. يوم الاستقلال يوم الجلاء .. يوم النصر. -الخ فكذلك هذا اليوم من أيام الله، من أيام الإنسانية، من أيام الإيمان هذا يوم بطولة خالدة، خلده الله بشعيرة الأضحية .. فالمسلم يضحي بهذا اليوم، وذلك سنة وهو أفضل من التصدق بثمنها، لأنه لو تصدق كل الناس بثمن أضاحيهم، فمعنى ذلك أن هذه الشعيرة تموت، والإسلام يريد أن يحيها، فلاشك أن الذبح أفضل . ولكن هذا في حق الحي .. وهو من يضحي عن نفسه وعن أولاده.
ولكن إذا كان للإنسان ميت، ويريد أن يهدي إليه في قبره ثوابًا، فماذا يصنع ؟ هل يذبح ؟ أم يتصدق بالثمن؟
القول الذي أرجحه وأرتاح إليه، أنه في البلد الذي تكثر فيه الذبائح ويكون الناس في غني عن اللحم، يكون في هذه الحالة التصدق بثمن الأضحية عن الميت أفضل .. لأن الناس كلهم عندهم لحوم، وكلهم مستغنون يوم العيد وفي اليومين التاليين له، ولكن لعل أكثرهم بحاجة إلى دراهم يشتري بها ثوبًا لابنته، أو لعبة لابنه، أو حلوى لأطفاله أو غير ذلك، فهم في حاجة إلى من يوسع عليهم في هذه الأيام المباركة أيام العيد وأيام التشريق، فلهذا تكون الصدقة عن الميت أفضل من الضحية في مثل هذه البلاد.
أما في البلاد التي يقل فيها اللحم، ويكون الناس في حاجة إلى اللحوم، ففي هذه الحالة، إذا ضحى الإنسان عن الميت ووزع لحم الأضحية عن ميته يكون أفضل.
هذا هو الذي أختاره في هذه الناحية.
ثم هناك أمر آخر، وهو أن الميت تشرع الصدقة عنه بإجماع المسلمين، لم يخالف فيها أحد . فهنا أمران لم يخالف فيهما مذهب: الصدقة عن الميت، والدعاء والاستغفار له . أما ما بعد ذلك مثل: أن تقرأ عنه القرآن، أو تذبح عنه، أو غير ذلك، وكل هذه الأمور فيها خلاف.
ولذا فالمتفق عليه خير من المختلف فيه.
ولهذا أقول للأخ السائل :
بالنسبة للحي، الأفضل أن يذبح عن نفسه وأهله.
وبالنسبة للميت، إذا كان البلد في حاجة إلى اللحم يذبح عن الميت ويضحي عنه . وإذا كان البلد في غير حاجة إلى اللحم، فالأولى أن يتصدق بالثمن.
وطبعًا، من حيث توزيع الأضحية، معلوم أن الأولى توزيعها أثلاثًا، ثلث يأكله الإنسان، هو وأهل بيته (فكلوا منها ) وثلث لجيرانه من حوله، وخاصة إذا كانوا من أهل الإعسار أو ليسوا من أهل السعة، وثلث للفقراء .. ولو فرض أنه تصدق بها كلها، لكان أفضل وأولى، على شرط أن يأخذ منها قليلاً للسنة والتبرك، كأن يأكل من الكبد أو من سواها، ليصدق عليه أنه أكل منها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكما كان يفعل أصحابه.
والله أعلم
العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي |
أ. د. مسلم شلتوت
منذ مائتي عام كان هناك اعتقاد عند الفلكيين في العالم بأن هناك كوكبًا مفقودًا (مجهولًا)، فحسب التسلسل الرقمي الذي وضعه الفلكي تيتوس، والذي عُرف بقانون بود بعد ذلك (لأن مدير مرصد برلين في ذاك الوقت “بود” هو الذي أشاع هذا القانون بين الفلكيين الألمان): يجب أن يكون هناك كوكب ما بين المريخ والمشتري، ويقع على مسافة قدرها 2.8 وحدة فلكية من الشمس؛ حيث إن الوحدة الفلكية هي متوسط بُعد مسافة الأرض عن الشمس، ومقدارها مائة وخمسون مليون كيلو متر. وفي عام 1802م اكتشف الفلكي بيازي وجود كويكب يدور حول الشمس في مدار متوسط قطره 2.8 وحدة فلكية في المسافة ما بين المريخ والمشتري، ويبلغ قطر هذا الكويكب حوالي ألف كيلو متر – أي أقل من ثلث قطر القمر – وقد سماه سيرس – وبعد هذا الاكتشاف أعلن بود أن نبوءة تيتوس عن وجود كوكب مفقود قد تحققت؛ حيث تتالى اكتشاف حزام الكويكبات في المسافة ما بين المريخ والمشتري؛ حيث وصل عدد هذه الكويكبات إلى ثلاثمائة كويكب عام 1890م.
وفي عام 1980م بلغ عدد الكويكبات التي تم اكتشافها وتحديد مداراتها حول الشمس إلى 2289 كويكبًا، ومن المتوقع بعد استعمال أكبر تلسكوب في العالم، والذي يبلغ قطر مرآته 200 بوصة أن يصل عدد هذه الكويكبات لأكثر من مائة ألف كويكب.
ويعتقد أن أصل هذه الكويكبات هو وجود كوكب ما بين المريخ والمشتري، ولكنه انفجر، وكان حزام الكويكبات الحالي هو ناتج الانفجار. وأكبر هذه الكويكبات هو سيرس، ثم يليه حوالي مائتي كويكب يبلغ قطر كل منها مائة كيلو متر، ثم حوالي خمسمائة كويكب تتراوح أقطارها ما بين الخمسين والمائة كيلو متر، أما باقي الكويكبات فأقطارها أقل من خمسين كيلو مترًا. أما أصغر كويكب يمكن رصده من الأرض فلا يزيد قطره عن مائة وخمسين مترًا. إلا أن مركبة الفضاء الأمريكية فوجير التي اخترقت هذا الحزام أثناء ذهابها إلى المشتري سجلت وجود كويكبات تدور حول الشمس تتراوح أقطارها ما بين عشرين سنتيمترًا إلى حبيبات في حجم حبيبة الرمل. والكويكبات ليس لها شكل منتظم، وليست كروية الشكل نتيجة لضعف الجاذبية على تلك الكويكبات.
وضعف الجاذبية يؤدي إلى هروب ذرات وجزيئات الغازات من هذه الكويكبات؛ فلذلك فهي بدون أغلفة جوية. ثم إنه نتيجة لبعدها الكبير عن الشمس فإنها أجرام باردة، وتبلغ درجة حرارتها في المتوسط مائتي درجة مطلقة، أي حوالي سبعين درجة مئوية تحت الصفر، وهي تماثل درجة حرارة أقطاب الأرض في الشتاء القارس.
وتتحرك هذه الكويكبات في مدارات، قد يبلغ بعدها عن الشمس 0.83 وحدة فلكية أو 5.8 وحدات فلكية، ولكن في المتوسط 2.8 وحدة فلكية، وهي مدارات إهليجية تميل بحوالي عشر درجات على دائرة البروج السماوية في الغالب.
وقد لاحظ العالم الفلكي كيرك وود في عام 1866م أنه نظرًا للكتلة الهائلة لكوكبي المشتري وزحل، فإن هناك قوى جذب لهذه الكواكب العملاقة على الكويكبات مما يؤثر على حركتها في مدارها حول الشمس (أقلاق) ويُخرج هذه الكويكبات عن مداراتها الأصلية، ويُحدث تصادما بينها وبين بعضها الآخر، مما يؤدي إلى حدوث انشطار لبعض هذه الكويكبات.
وهناك مجموعة من الكويكبات تُسمى مجموعة أبوللو وهي الكويكبات التي تتأثر بالجاذبية لكوكب الأرض وكوكب المريخ، ويبلغ عددها حتى الآن 23 كويكبا منها أربعة كويكبات تخترق مداراتها مدار دوران كوكب الأرض حول الشمس. كما تم إحصاء عدد الكويكبات التي تتأثر بجاذبية الأرض، ويبلغ قطرها أكثر من كيلومتر بحوالي 1300 كويكب وهي كويكبات تم تصادم عدد منها منذ أزمنة بعيدة مع الأرض، ويحتمل تصادم عدد آخر منها مع الأرض في المستقبل.
تصادم الأرض مع المذنبات أمر يكاد يكون مستحيلا، و المذنبات هي أجرام سماوية قادمة من خارج نطاق المجموعة الشمسية، وتأتي لزيارة المجموعة والدوران حول الشمس لأقرب نقطة في دورات زمنية محددة والسباحة في مدارات ثابتة حول الشمس لا تخرج عنها كالمذنب هالي الذي يقترب من الأرض والشمس كل 76 عام، وقد زارنا خلال هذا القرن مرتين في عامي 1910م و 1986م.
ولكن الوضع مختلف بالنسبة للكويكبات؛ نظرًا لأن الأخيرة ذات كتلة صغيرة، ويمكن التأثير عليها بجاذبية الكواكب وإخراجها من مداراتها الأصلية حول الشمس. كما أن الكويكبات هي مصادر النيازك التي تسقط بتأثير جاذبية الأرض، وتحترق في غلافها الجوي، ويمكن مشاهدتها بالعين المجردة في السماء المظلمة ليلاً، وينتج هذا الاحتراق نتيجة للسرعة الهائلة لهذه النيازك داخل الغلاف الجوي للأرض؛ حيث تتراوح ما بين 12 إلى 72 كيلو مترا في الثانية، مما يؤدي إلى احتكاك هذه النيازك مع مكونات الغلاف الجوي ينتج عنه حرارة عالية تؤدي إلى تلاشي هذه النيازك غالبًا في حالة ما كانت كتلتها صغيرة، أما إذا كانت كتلتها كبيرة فإنها تصل إلى الأرض، وهناك حفرة في ولاية أريزونا الأمريكية يبلغ قطرها 1.3 كيلو متر وعمقها 180 مترا مع تكوين حافة حول الحفرة ترتفع بمقدار 45 مترا عن سطح الأرض المحيطة، كما وجد ما يزيد عن خمسة وعشرين طنا من حجر النيازك محطمة وموزعة داخل الحفرة وخارجها.
وهذه النيازك التي تتلاشى في الغلاف الجوي للأرض تعتبر من الأمور العادية؛ حيث يبلغ عددها نحو خمسة وعشرين مليون نيزك يوميًا، يمكن رصدها بالعين المجردة في الليالي الدامسة الظلام إذا كانت أوزانها تزيد عن جرام واحد لما تحدثه من مسار مضيء في السماء لأقل من ثانية خلال النجوم.
ويتلاشى يوميًّا في الغلاف الجوي ما بين عشرة إلى مائة طن من هذه النيازك، وهذه إحدى نعم الله سبحانه وتعالى –حيث إنه لولا هذا الغلاف الجوي لكانت هذه النيازك هي المدمر الأول لكل أنواع الحياة على الأرض عند وصولها للسطح.
وأكبر حجر نيزكي وجد في العالم على سطح الأرض هو ذلك الذي تم اكتشافه في جنوب إفريقيا ويبلغ وزنه حوالي 45 طنا. وأكبر حجر نيزكي وجد في الولايات المتحدة الأمريكية بلغ وزنه 13 طنا بمنطقة أورجون. ولكن هناك عدة حفر وجدت في العالم يرجع تكوينها إلى ارتطام نيازك عملاقة بالأرض، كالحفرة الموجودة في ولاية أريزونا بأمريكا.
ولكن لم يستدل حتى الآن، أن أحجار النيازك قد تسببت في قتل أي إنسان حتى الآن، اللهم إلا امرأة واحدة وجدت مقتولة داخل منزلها المحطم في الأباما عام 1954م وفسرت على أساس ضربة بحجر نيازك.
وقد أثير في أحد المؤتمرات العالمية للعلوم الفلكية الذي عقد بالولايات المتحدة الأمريكية في العام الماضي بأن أحد الكويكبات يقترب من الأرض، وأن هناك احتمالا لتصادم هذا الكويكب مع كوكبنا الأرض. ووصلت الأمور بأحد المتحمسين لهذا الاحتمال أن دعا إلى استصدار بوليصة تأمين للراغبين ضد مخاطر الكارثة التي ستحدث نتيجة لاصطدام الكويكب بالأرض.
أولاً: يجب أن نورد هنا أن خلال هذا المؤتمر نفسه كان هناك رأي معارض تمامًا لاحتمال حدوث التصادم ما بين الكويكب والأرض من علماء من داخل الولايات لمتحدة وخارجها.
ثانيًا: إذا أخذنا بفرضية أن الاحتمال ضئيل جدًا ولكنه قائم، فإن معظم الكويكبات التي تخرج عن مدارها نتيجة للإقلاق الحادث عليها من جاذبية الكواكب العملاقة، هي كويكبات صغيرة الكتلة، وهذه عند خروجها من المدار تصطدم بكويكبات أخرى، فتنشطر فتقل كتلتها وعند وصولها للأرض بتأثير الجاذبية الأرضية، فالاحتمال الأكبر هو أنها ستتلاشى في الغلاف الجوي للأرض، والاحتمال الأصغر هو إفلات أجزاء منها من التلاشي الكامل بالجو ووصولها إلى سطح الأرض.
في حالة وصولها إلى سطح الأرض فإن هناك احتمالين:
الأول: هو سقوطها داخل محيط أو بحر، وفي هذه الحالة سوف يؤدي ذلك إلى حدوث موجات مائية عالية الارتفاع، قد تضرب بعض الشواطئ –تتوقف شدة هذه الموجات المغرقة وقسوتها على الكتلة التي ستسقط في المحيط أو البحر- وعن بعد الشواطئ عن منطقة السقوط.
الثاني: هو سقوطها على اليابسة… فإذا كانت المنطقة بها غابات فسوف يؤدي ذلك إلى حريق هائل قد ينتج عنه كمية من السناج (الهباب) يحول دون وصول أشعة الشمس بالقدر اللازم لسطح الأرض محدثًا شتاء عالميًّا قد يطول وقد يقصر… أما إذا كان السقوط في منطقة صحراوية… فسوف يكون هو ألطف القضاء والقدر.
بقي أن نعرف أن هذه الفرضيات والاحتمالات قد ترددت كثيرًا عبر تاريخ الجنس البشري كله، ولكن الله كان خير حافظ ومعين، وهناك من العلماء المعاصرين من يؤمن ببعض هذه الاحتمالات في تفسير أمور كثيرة في التاريخ الطبيعي كظواهر انقراض الديناصورات، وفي تاريخ البشرية كطوفان نوح وتدمير بعض المدن التي انتشر الظلم والفسق بين أهلها.
ونعود الآن لنقرأ في كتاب الله؛ ليعطينا السكينة والطمأنينة، وبأن كل شيء مقدر بعلمه وأمره، وأن نسلم له أنفسنا وجميع أمورنا حلوها ومرها؛ فهو خالقنا ومولانا، وهو أرحم الراحمين، يقول الله تعالى في محكم آياته:
– “إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكها من أحد من بعده إنه كان حليمًا غفورًا”. (صدق الله العظيم) سورة فاطر: الآية 41.
– “وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين”. (صدق الله العظيم). سورة الأنبياء: الآية 16.
– “ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم”. (صدق الله العظيم). سورة الحج: الآية 65.
الفن للفن فقط تلك كانت شعارات عصور النهضة الفنية في جميع الدول الأوربية وعليها نشأت كل المدارس الفنية التي أثارت ثورة ونهضة كبري في تلك العصور، ولكن الفن الإسلامي الذي كان له السبق دائما كان له شعار أخر وهو الفن في خدمة الحياة أي أن الفن هو فن تطبيقي يشترك في كل جوانب الحياة فيزين المنازل بعمارة إسلامية رائعة، ويزخرف الأواني والأثاث وكل ما يستخدمه الإنسان في مختلف أوجه الحياة.
وتتميز الفنون الإسلامية بأن هناك وحدة عامة تجمعها بحيث يمكن أن تتميز أي قطعة أنتجت في ظل الحضارة الإسلامية في أي قطر من أقطار العالم الإسلامى، ولعل هذا السر من أسرار تفوق الحضارة الإسلامية وقدرتها الفائقة على صبغ المنتجات الفنية في جميع الأقطار بصبغة واحدة، على أن هذه الوحدة لم تمنع من وجود طرز إسلامية تتميز بها الأقطار الإسلامية المختلفة في عصور تطورها الفنى.
ويمكننا أن نقول بوجه عام: إن الطراز الأموي ساد العالم الإسلامي أولاً متأثرًا بالفنون المحلية، ثم ساد الطراز العباسي منذ قيام الدولة العباسية عام 750م، وعندما ضعفت الخلافة العباسية منذ القرن السابع الميلادي سادت طرز أخرى إقليمية فكان هناك الطراز الأسباني المغربي في شمال أفريقيا والأندلس، وطراز مصري سوري في مصر وسوريا، وطراز عثماني في تركيا والبلاد التي كانت تتبعها، ثم طراز هندي في الهند.. ومن واجبنا أن نكون على معرفة بهذه الطرز الفنية، وكيف تميزت بميزات خاصة في إطار الوحدة الفنية الإسلامية الكبرى.
اتخذ بنو أمية مدينة دمشق عاصمة للعالم الإسلامي، وكانت السيادة الفنية في عصرهم للبيزنطيين والسوريين وغيرهم من رجال الفن والصناعة الذين أخذ عنهم العرب الفاتحون، وقام على أكتاف الجميع الطراز الأموي في الفن الإسلامي، وبذلك فهو طراز انتقال من الفنون المسيحية في الشرق الأدنى إلى الطراز العباسي، على أن هذا الطراز كان متأثرًا إلى حد ما بالأساليب الفنية الساسانية التي كانت مزدهرة في الشرق الأدنى عند ظهور الإسلام.
وهكذا كانت العناصر الزخرفية لهذا الطراز مزيجًا من جملة عناصر ورثها عن الفنون التي سبقته، فبينما تظهر فيه الدقة في رسم الزخارف النباتية والحيوانية، ومحاولة تمثيل الطبيعة وغير ذلك مما امتازت به الفنون البيزنطية، نجد تأثير الفن الساسانى في الأشكال الدائرية الهندسية وبعض الموضوعات الزخرفية الأخرى كرسم الحيوانين المتقابلين أو المتدابرين تفصلها شجرة الحياة المقدسة أو شجرة الخلد.
الطراز العباسي
والواقع أن هذا الطراز، الذي يعتبر أول مرحلة واضحة في تاريخ الفن الإسلامي أخذ الكثير من أصوله عن الفن الساساني، كما أن الحفائر التي أجريت بمدينة سامرا -التي كانت عاصمة للخلافة بين عامي 222 و276 هـ (836 – 889م)- كان لها كل الفضل في الكشف عن منجزات هذا الطراز الذي بلغ أوج عظمته في القرن الثالث الهجري (9م) وظهر أثره في الإنتاج الفني في مختلف الأقطار الإسلامية في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (9-10م).
ويمتاز الطراز العباسى، كما تمتاز الأساليب الفنية المأخوذة عنه ومنها الطراز الطولوني في مصر، بنوع من الخزف له بريق معدني كانت تصنع منه آنية يتخذها الأغنياء عوضا عن أواني الذهب والفضة التي كان استعمالها مكروها في الإسلام لما تدل عليه من البذخ والترف المخالفين لروح الدين الإسلامي. هذا فضلاً عن استخدام الجص بكثرة في تهيئة الزخارف حتى أصبح من المواد ذات الصدارة في هذا الطراز الإسلامي. والتحف التي تنسب إلى هذا الطراز متأثرة إلى حد ما بالأساليب الفنية الساسانية، وأكثر ما يظهر هذا في التحف المعدنية وفى المنسوجات التي كانت تصنع في العراق وإيران في القرنين الثاني والثالث الهجريين (8،9م).
كما أن طريقة حفر الزخارف في الخشب أو الجص اتخذت طابعًا خاصًا كان وقفًا على هذا الطراز دون غيره وهى طريقة الحفر المائل أو منحرف الجوانب.
والخلاصة أن الموضوعات الزخرفية التي تتمثل في هذا الطراز يظهر فيها التحوير والتنسيق والبعد عن الطبيعة وتنحصر عناصرها في الأشرطة والجدائل والأشكال الحلزونية والخطوط الملتوية وكلها مرسومة بوضوح وحجم كبير.

وعندما أتيح للسلاجقة في القرن 5 هـ (11م) أن يستقروا في إيران، ظهر طراز سلجوقي، امتاز بالإقبال على استخدام الكائنات النسخية المستديرة، فضلا عن الكتاب

وامتازت إيران في الفنون الإسلامية بالمحافظة على قسط وافر من أساليبها الفنية القديمة، ومن ميل إلى رسوم الكائنات الحية والزخارف النباتية الرشيقة، ومن ثم يمكن اعتبار هذا العصر من الناحية الفنية أقوى العصور في إيران على الإطلاق.
وذاع صيت إيران في إنتاج المصاحف الفنية الفاخرة، وتذهيب صفحاتها الأولى والأخيرة، فضلا عن رؤوس السور وعلامات الأحزاب، وقد نجح المذهبون في دقة مزج الألوان، وإتقان الرسوم الهندسية والفروع النباتية اتقانًا يبدو فيه التوازن والتماثل، وقد كان لازدهار فن النقش والتصوير صداه في سائر ميادين الطراز الصفوى، فامتد نفوذ المصورين إلى رسوم السجاد والمنسوجات والخزف في القرن 10-11هـ (16-17م)، فأصبحنا نرى السجاجيد الثمينة، ذات الألوان الفنية والرسوم المختلفة، التي تشبه رسوم المخطوطات. كما ظهرت أنواع من الخزف ذي البريق المعدني، أما التحف المعدنية في الطراز الصفوي، فقد غلبت عليها رسوم الفروع النباتية والصور الآدمية والحيوانية.

وقد وفق الفاطميون في دقة التصوير والحركة دقة لم يصبها الفنانون في مصر من قبلهم، كما كثر رسم الإنسان والحيوان على التحف التي ترجع إلى عصرهم، وازدهر فن التصوير، ولعل خير النماذج في فن التصوير والنقوش المرسومة على الجص التي وجدت على جدران الحمام الفاطمي بمصر القديمة.
وللتحف الخزفية الفاطمية لمعان وبريق أخاذ، أما تغير ألوانها فمرجعه البريق المعدني الذي تمتاز به، أما الزجاج فلم تكن زخارفه في بداية العصر الفاطمي تختلف كثيرًا عن زخرفته في عصر الطولونين ولكنها أخذت تتطور بعد ذلك في خطوات سريعة ليكون لها الطابع الفاطمي الخاص، ومن أرق المصنوعات الزجاجية الفاطمية وأكبرها قيمة فنية الزجاج المزين بزخارف ذات بريق معدنى.

أما المنسوجات الفاطمية فقد كانت عناية الخلفاء بها عظيمة، كما أصاب النساجون أبعد حدود التوفيق في توزيع ألوانها واختيارها حتى صارت منتجاتهم آية في الجمال والإتقان، كما كان ابتكارهم عظيما في الرسوم والزخارف النباتية التي صورت بدقة سواء في تفرعها أو التواءاتها، وقد كانت هذه المنسوجات ترسم في أشرطة أو داخ جامات. وقد كانت هذه الأشرطة تنحصر أحيانًا بين سطرين في الكتابات الكوفية أحدهما عكس الأخر، ثم أخذت هذه الأشرطة تتسع وتزداد عددًا حتى أصبحت تكسو سطح النسيج كله.
أما الخشب فلدينا من تنوع الزخارف وجمال الصناعة، ما لم يصل إليه الفنانون بعد ذلك، وحسبنا محراب السيدة رقية والأبواب الفاطمية الضخمة المزينة برسوم آدمية وحيوانية وطيور، وقد تحفر الرسوم أيضا على مستويين مختلفين، وهو أسلوب يدل ولا شك على براعة الفنان ومهارته.
وقد كان لصناعة التحف النحاسية المكفتة بالذهب والفضة منزلة خاصة لدى المماليك، وقد وصل إلينا من هذا العصر تحف معدنية عظيمة من أبواب وكراسي وصناديق ومقلمات، وتمتاز بما يبدو عليها من خطوط نسخية تشير إلى اسم السلطان وألقابه أو إلى العبارات الدعائية التي يسجلها الصانع على التحفة المقدمة إلى الأمير أو السلطان، هذا إلى جانب بعض الزخارف الهندسية متعددة الأضلاع ومن بينها أطباق نجمية مملوكية.
وأبدع ما وصل إليه صناع الزجاج المسلمون في العصر المملوكي يتجلى في المشكاة المموهة بالمينا، وأشكال هذه التحف الزجاجية وأحجامها وهيئاتها.
وذاعت في العصر المملوكي زخرة الحشوات بالتطيعم، وذلك بإضافة خيوط أو أشرطة رفيعة من العاج أو الخشب النفيس كانت تكسى بها التحف المختلفة، كالأبواب والمنابر، هذا فضلا عن ازدهار صناعة الشبكيات من الخشب المخروط التي كانت تستعمل فى صناعة المشربيات والدكك والكراسى.
ومن الصناعات الدقيقة التي حذقها الفنانون في عصر المماليك صناعة الفسيفساء الرخامية وتتكون من مكعبات صغيرة من الرخام مختلفة الألوان وتعشق في الأرضية على هيئة الأشرطة أو المعينات أو المثلثات أو الخطوط المتقاطعة والمتشابكة، وكان أكثر استعمالها في المحاريب والوزارات بالمساجد.
وازدهر في عصر المماليك الخط النسخ واحتل مركزًا ساميًا وصار من أهم العناصر الزخرفية على التحف من معدن وخزف وعاج ونسيج، كما استخدموه في كتابة المصاحف المملوكية التي كانت تكتب للسلاطين لتوقف بأسمائهم في المساجد.
ومن أبدع العمائر التي خلفها لنا هذا الطراز قصر الحمراء بغرناطة الذي يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ويمتاز بجمال مبانيه ورشاقة أعمدته ذات التيجان المزخرفة بالمقرنصات، والجدران المغطاة بشبكة من الزخارف الجصية والكتابات الجميلة.
ومن المنتجات الفنية التي ازدهرت في الطراز المغربي تجليد الكتب وصناعة التحف الجلدية عامة، أما صناعة الخزف فقد ازدهرت في الطراز المغربي أيضًا.
ويعتبر الطراز المغربي أقرب الطرز إلى الطراز المملوكي.

أما الخزف التركي فيمتاز بألوانه الجميلة وما فيه من رسوم الزهور والنباتات، أما السجاجيد التركية فهي تعد بحق من أبدع الفنون الشرقية، والتي تمتاز بالزخارف الهندسية البحتة، وسجاجيد الصلاة الصغيرة النفيسة ويمتاز معظمها برسم محراب في أرض السجادة.
وهكذا وعلى مر كل تلك العصور نجد أن الفن الإسلامي كان يتميز دائمًا بأنه فن يخدم الحياة في كل أساليبه وطرقه، وأنه خلق لأجل متعة الإنسان المسلم، ولأجل تذوقه للقيم الجمالية أينما كان، ولهذا ظلت الفنون الإسلامية باقية معنا حتى يومنا هذا نستخدمها في حياتنا ونتمتع بما بقي من آثارها السابقة من عمائر وتحف وأوانٍ ذات قيم جمالية وفنية عالية
اقرأ أيضا:
– نقاط فوق الحروف
– فنون إسلامية.. العين تسمع.. والأذن ترى..!!
أحمد فضل شبلول
طبعة جديدة من كتاب الشاعرة والناقدة الرائدة نازك الملائكة “سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى” ، بعد أكثر من عشرين عامًا من صدور الطبعة الأولى في بيروت عام 1979م.
ولأن ما تثيره “نازك الملائكة” في هذا الكتاب، يُعَدُّ ساري المفعول حتى الآن، فإن طبعته الثانية تُعَدُّ طبعة أولى، فحديث “نازك” لا يزال مطروحًا على الساحة الأدبية، والقضايا التي تثيرها لا تزال طازجة، والكتاب بأبوابه الأربعة لا يزال قابلاً للعرض والطرح والنقاش، خاصة أن هناك أجيالاً شعرية جديدة نَمَت وتَرَعْرَعت في السنوات السابقة، وربما لم يُتَح للكثيرين منهم قراءة كتاب “نازك” في طبعته الأولى الذي يكاد يكون الجزء الثاني من كتابها المهم “قضايا الشعر المعاصر”، وهي تؤكد ذلك بقولها في المقدمة: “يكاد كتابي هذا يكون الجزء الثاني من كتابي “قضايا الشعر المعاصر”؛ لأنني أتناول فيه بقية القضايا التي لم تَرِد في الكتاب الأول”.
صدر الكتاب في طبعته الجديدة عن سلسلة “كتابات نقدية” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، وأخذ رقم 98 في هذه السلسلة الشعبية التي يرأس تحريرها الناقد الدكتور مجدي توفيق، ووقع في (382 صفحة)، وتعرضت الشاعرة في الفصل الأول إلى الجانب السيكولوجي من الشعر، فتحدثت عن الشاعر واللغة، والقافية في الشعر العربي الحديث، وسيكولوجية القافية، وسيكولوجية القصيدة المُدَوَّرَة.
وعن الشاعر واللغة ترى “نازك” أن الشاعر لا بد أن يُوَثِّق صلته باللغة وقوانينها بحيث تصبح مَلَكَة اللغة فطرة في نفسه يغرف منها بلا انتهاء، فيبدع الصور والموسيقى، ويأتي بأروع الأنغام دون أن يخرج على أسس اللغة وقواعدها. وبهذا تَرُدُّ “نازك” على شائعة انتشرت بين أدباء الوطن العربي – وقت تأليف الكتاب وأعتقد أنها ما زالت منتشرة حتى الآن – مضمونها أن الغلط في قواعد النحو واللغة مباح كل الإباحة في الشعر.
وعن القافية في الشعر العربي الحديث، تدعو الشاعرة – بل تتمنى – أن يتمسك الشاعر المعاصر بالقافية ولا يتفلت منها؛ لأنها جزء أساسي من موسيقى الشعر لا يصح الاستغناء عنه. وفي هذا الفصل رصدت “نازك” بعض محاولات الخروج على القافية الموحدة بدأت منذ العصر الجاهلي، حيث نسب إلى امرئ القيس نوع من أنواع الموشح سَمُّوه “المُسْمَط” كان فيه خروج مبكر على نظام القافية الموحدة.
ويُعَدُّ حديث المؤلفة عن سيكولوجية القافية من أهم فصول الكتاب؛ حيث ترى أن تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي فني مُلِحّ، وتتحدث في هذا عن تسعة عوامل مهمة تجعل من القافية تلك الضرورة التي لا سبيل إلى أن يستغني عنها الشعر. ومن أهم هذه العوامل: أن القافية تُقَوِّي بصيرة الشاعر تَقْوِية عجيبة، وتفتح له الأبواب المغلقة الغامضة، وتقوده في دروب خلابة تموج بالحياة، وأنها تفتح كنوز المعاني الخفية، بل إنها تُنْبِتُ الأفكار، وتغير اتجاه القصيدة إلى مجالات خصبة مفاجئة، وأن القافية وسيلة أمان واستقرار لمن يقرأ القصيدة، ووجودها يُشعر بوجود نظام في ذهن الشاعر وبتنسيق الفكر لديه ووضوح الرؤية، وقوة التجربة.
وهي في كل ذلك تأتي بنماذج شعرية تُدلِّل بها على رأيها وتقنع بها قارئها. وعلى سبيل المثال عندما تتحدث عن أثر القافية في شعر النضال والمقاومة تأتي بنموذج من شعر نزار قباني يقول فيه:
يا آلَ إسرائيل لا يَأْخُذْكُمُ الغُرور
عقارب الساعات إن توقفت لا بد أن تدور
إن اغتصاب الأرض لا يُخِيْفُنا
فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يخيفنا
فالماء يبقى دائمًا في باطن الصخور
هنا ترى “نازك” أن ترادف القافية يعطي إحساسًا بأن الشاعر مجهز بعزيمة صلبة لا تلين، فالقافية قتال ومصاولة، وهي تنزل على السمع نزول الرعود، وكل قافية قنبلة تنفجر في آخر الشطر.
وفي ختامها لهذا الفصل تذهب إلى القول: إن الشاعر المبدع هو الذي يُلْهِمُهُ حِسُّه الفني المواضع التي يتخلى فيها عن القافية والمواضع التي يلتزم بها فيها. وإن القافية ليست مجرد كلمات عابرة موحدة تُرْوى، وإنما هي حياة كاملة.
هذا عن أثر القافية وأهميتها في الشعر الحديث، فما بالنا إذن بالشعر المُدَوَّر أو بالقصيدة المُدَوَّرَة التي لا يظهر فيها أثر للقافية أو التي تُعَدُّ ثورة على القافية، فالتدوير والتقفية أمران متعارضان لا يمكن أن يجتمعا. وقد ظهر التدوير في الشعر العربي منذ عام 1953م، وأصبح الشاعر يوقع نفسه في هذا التدوير. وعلى الرغم من أن “نازك” لا ترتاح للقصيدة المدورة، فإنها ترى أن انتشار هذه القصيدة أمر يمتلك دلالات اجتماعية وسياسية معينة، فهو يشير إلى أن الشاعر الحديث يُحِسُّ بأنه مسلوب الإرادة تحت ظل موقف تسيطر فيه الإمبريالية التي تعترف بعدوتنا إسرائيل وتؤمن بما تسميه حقها في البقاء، وأن القافية التي هي عنصر القوة والقتال في القصيدة قد كسرها التدوير وطردها خارج مملكته. ولا أحسب أن “نازك” قد وضعت يدها على السبب الحقيقي للجوء الشاعر المعاصر إلى التدوير المستمر في قصيدته. ذلك أن هناك شعراء يكتبون القصيدة المدورة بعيدًا تمامًا عن الإمبريالية وإسرائيل وما إلى ذلك. وأعتقد أن الشاعر المعاصر قد يلجأ إلى التدوير بسبب لهاثه في الحياة، فكما يلهث الشاعر المعاصر في ذلك العصر سريع الإيقاع، يلجأ إلى اللهاث أيضًا في قصيدته تعبيرًا عن لهاثه الخارجي، فيمزج الخارجي بالداخلي أثناء إبداعه لقصيدته. وهو في لهاثه هذا يقوم بوصل همزة القطع، ويُكثر من الجمل الاسمية، إلى آخر تقنيات القصيدة المدورة. وعمومًا فقد بدأ يخفت صوت القصيدة المدورة الآن، ولم يَعُدْ يجد قبولاً حسنًا لدى القارئ أو السامع، وبدأ يعود الشاعر المعاصر تدريجيًّا إلى التقفية من جديد.
وفي الفصل الأول من الباب الثاني توجه الشاعرة رسالة إلى الشعراء الناشئين الذين كتبوا إليها يسألونها كلمة توجيه ونصح تعينهم على درب القوافي. أما الفصل الثاني فكان بعنوان “الإبرة والقصيدة” وهو عبارة عن قصيدة حوارية بين الشاعرة “هدى” التي نسيت إبرة على المكتب وانساقت وراء القصيدة الجديدة، وزوجها “نبيل” الذي لم يقبل في البداية عذرها عن النسيان، فيقول لها: إن النسيان نقيصة في الإنسان، وكل نقيصة لا يصح أن تُقَدَّم على أنها عذر. ولكن بعد أن أفاضت الشاعرة في الدفاع عن المعاناة الشعرية والأشواك التي تسير عليها إلى أن تبدع القصيدة، يقتنع زوجها بمبرراتها ويطلب منها سماع القصيدة الجديدة. وهي عمومًا حوارية لطيفة تفجر السؤال الأزلي: كيف نبدع ؟!
وتأخذ “نازك الملائكة” في فصل تالٍ دور المدافع عن شعرها، فتقوم بالرد على الباحث عبد الجبار داود البصري الذي ينقد قصيدتها “أغنية لطفلي”، ويكشف هذا الفصل عن أن “نازك” كتبت شعرًا للأطفال مثلها في ذلك مثل فَدْوى طوقان وغيرها من شواعرنا العربيات.
ثم تتعرض في الباب الثالث إلى بعض الجوانب العروضية، فتتحدث عن الخليل والدوائر الشعرية مُسْتَبْعِدَة الأصول غير المألوفة لبحور الشعر العربي المألوفة، فتقول: “إن علينا اليوم أن نستعمل البحور على أساس الوزن العربي الموجود القائم الذي استعمله شعراؤنا في كل عصورهم دون أن نفترض لكل بحر مألوف أصلاً غير مألوف، فذلك ما لا نفع له، وإنما هو شيء يقرب من التعجيز للشعراء والنقاد وطلاب العروض”. ثم تخوض بعد ذلك حديثًا عروضيًّا في مسرحية شوقي “مصرع كليوباترا” تحصر فيه أخطاء القافية التي وقع فيها شوقي.
وفي الباب الأخير – وهو بعنوان “في النقد التطبيقي للشعر” – تجلس الشاعرة في مقعد النقد، فتتناول بالنقد والدراسة والتحليل موضوع الحب والموت في شعر ابن الفارض، ثم تتوقف طويلاً عند شعر إيليا أبي ماضي، فتخصه بفصلين، الأول ملامح عامة في شعره، والثاني كان عن ديوانه “الجداول”، وتخرج من هذين الفصلين بنتيجة مؤداها أن إيليا أبي ماضي فتح نمطًا جديدًا يضعه في مكان مقابل مكان شوقي في فضله على بعث الحياة في الشعر، فإذا كان شوقي هو خالق الغنائية المبدعة في شعرنا المعاصر، فإن إيليا بحق صانع الاتجاه الحديث كله “فهو الشاعر المجدد الذي قدم في شعره وجهة نظر جديدة تحدد علاقات لم تؤلف سابقًا بين القصيدة والشاعر من جهة، والقصيدة والعصر كله من جهة أخرى”.
اقرأ حول الشعر
شعر الجاهلية.. ميراث العرب الثمين
قصيدة “لا تُصالِح” لأَمَل دُنْقُل
قصيدة “الجِسْر” للشاعر محمود درويش
ظلَّت السيدة “إيرينا فولفجانج” تحلم بالمعاش الذي ستحصل عليه خلال شهرين والرخاء الذي سيحققه لها؛ بدأت أحلامها بشراء بيت بحديقة صغيرة ترعاها، ولكن -ونظرًا لارتفاع الأسعار بصورة مذهلة- تحوَّلت الأحلام لشراء شقة صغيرة تقيم بها، ثم تحوَّلت الشقة بعد ذلك إلى حجرة، حتى مر الشهران وتسلَّمت معاشها لتجد أنه -ولله الحمد- يكفي لشراء عشاء الليلة!!
إن ما حدث لهذه السيدة الألمانية إنما هو نقطة في بحر المعاناة التي عاشها الشعب الألماني بعد الحرب العالمية الأولى حينما جنحت الأسعار إلى الارتفاع بسرعة الصاروخ. هذا الارتفاع في الأسعار يمثل ظاهرة مالية تعرف بـ “التضخم”.
التضخم: “هو الارتفاع في المستوى العام للأسعار” ويُقاس هذا المستوى العام بمتوسط سعر السلع والخدمات في اقتصاد ما؛ وهو متوسط بين أسعار المستهلك والمنتج، وذلك الارتفاع لا يكون بالضرورة في جميع الأسعار، فحتى في أوقات التضخم الشديد فإن بعض الأسعار المعينة قد تكون -نسبيًا- ثابتة، والبعض الآخر قد ينخفض فعلا. وليس هذا هو ما يقصده مذيع النشرة الاقتصادية حين يقدم تقريره الشهري عن معدل التضخم؛ فهو فقط يوضح -بنسبة مئوية- أن مستوى التضخم تغيّر عن الشهر الماضي؛ على سبيل المثال عندما تسمع أن معدل التضخم الشهري 1%، فهذا يعني فقط أن مستوى الأسعار زاد بـ 1% هذا الشهر وهو قد يكون تغيرًا طارئًا؛ فإذا ما استمر معدل التضخم عاليًا لفترة زمنية طويلة (أكثر من 1% شهريًا لعدة سنوات) يعتبر الاقتصاديون أن التضخم أصبح عاليًا.
أي أن الأسعار ترتفع نتيجة لزيادة الطلب عن الطاقة الإنتاجية للاقتصاد القومي، وفي هذه الحالة فإن زيادة الإنفاق في الاقتصاد القومي لا تمثل زيادة في الإنتاج الحقيقي بقدر ما تكون نتيجة زيادة الأسعار؛ فلو أن سلعة ما تباع بسعر جنيه للوحدة، فإن زيادة في الإنفاق قدرها 10 جنيهات يجب أن يترتب عليها زيادة في الناتج بمقدار 10 وحدات، أما في حالة ارتفاع سعر السلعة إلى جنيهين فإن زيادة الإنفاق بـ 10 جنيهات يترتب عليها زيادة في الناتج قدرها 5 وحدات فقط.
ثانيا: التضخم الزاحف:
ويقصد به الارتفاع بمقدار 1 أو 2 أو 3% سنويًا في المستوى العام للأسعار، وهذا النوع من التضخم عليه خلاف بين الاقتصاديين حيث يرى بعضهم في نسبة الارتفاع البسيطة في الأسعار نماءً للاقتصاد، ففي أوقات التضخم الزاحف ترتفع أسعار السلع قبل ارتفاع أسعار الموارد فيؤدي ذلك إلى زيادة الأرباح مما يدفع رجال الأعمال إلى زيادة الاستثمارات. بينما يرى البعض الآخر أن الآثار التراكمية لمثل هذا التضخم تكون شديدة؛ فارتفاع سنوي قدره 3% في المستوى العام للأسعار إنما يعني مضاعفة المستوى العام للأسعار في حوالي 23 سنة، كما أن التضخم الزاحف يتضاعف بسرعة ويؤدي إلى التضخم الشديد الجامح.
ثالثًا:التضخم الجامح:

هذا كله نتيجة العبث الذي يحدثه التضخم في منظومة الأسعار النسبية؛ أي أنه لو كانت جميع أسعار السلع والخدمات ترتفع بنسبة واحدة وفي نفس الوقت، ما كانت هناك مشكلات. لكن ما يحدث أنه في غمار موجة الغلاء توجد طائفة من السلع والخدمات ترتفع أسعارها بسرعة كبيرة، وطائفة أخرى قد تتغير ببطء، وهناك طائفة ثالثة تظل جامدة بلا تغيير، ولهذا هناك من يستفيد وهناك من يُضار من هذا التضخم المستمر.
وينقلنا هذا إلى أثر آخر من آثار التضخم وهو إعادته لتوزيع الدخل القومي بين طبقات المجتمع وبطريقة عشوائية، وأصحاب الدخول الثابتة والمحدودة مثل: موظفي الحكومة والقطاع العام هم المتضررون من التضخم؛ حيث إن دخولهم عادة ما تكون ثابتة، وحتى لو تغيرت فإنها تتغير ببطء شديد وبنسبة أقل من نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار، وبهذا تكون دخولهم حقيقة في حالة تدهور. أما أصحاب الدخول المتغيرة مثل: التجار ورجال الأعمال، فدخولهم عادة ما تزيد مع موجة التضخم، بل إنها في كثير من الحالات ترتفع بنسبة أكبر من نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهم بذلك المستفيدون من هذا التضخم.
وبالمثل يتم توزيع الثروة القومية؛ فالمدخرون لأصول مالية كالودائع طويلة الأجل بالبنوك؛ غالبا ما يتعرضون لخسائر كبيرة؛ ذلك أن القيمة الحقيقية لمدخراتهم تتعرض للتآكل سنة بعد الأخرى مع ارتفاع الأسعار، أما من يجسد مدخراته في أشكال عينية كالأراضي والمعادن النفيسة؛ فهو المنتفع من ارتفاع الأسعار على هذا النحو.
ومع الارتفاع المستمر للأسعار يدرك الناس أن الشراء اليوم عند مستويات الأسعار السائدة أفضل من الشراء في الغد حيث ترتفع الأسعار؛ فيسارعون إلى “الاكتناز” أي شراء السلع والتحف والمعادن النفيسة، واللجوء لعملة أجنبية أكثر ثباتًا في قيمتها، وهو أمر ينعكس على تدهور سعر الصرف للعملة المحلية، وسرعان ما يضر التضخم الآخذ في التصاعد بميزان المدفوعات للدولة، ومن ثم باقتصادها ككل ويتمثل ذلك في ثلاثة أوجه:
1 | – | تعرّض الصناعة المحلية لمنافسة شديدة من الخارج (فبسبب ارتفاع أسعار السلع المنتجة محليًا مقابل السلع المستوردة يقل الطلب على المنتج المحلي)، وما ينجم عن ذلك من طاقات عاطلة وبطالة وانخفاض في مستوى الدخل المحلي. |
2 | – | نتيجة لزيادة الطلب على السلع المستوردة وانخفاض الطلب على السلع المحلية يزداد العجز في ميزان المدفوعات التجاري والذي تتطلب مواجهته إما استنزاف احتياجات البلاد من الذهب والعملات الأجنبية، أو اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، أو تصفية ما تملكه الدولة من أصول بالخارج. |
وما حدث للولايات المتحدة الأمريكية مثال على ذلك؛ فالارتفاع السريع في الإنتاجية في اليابان ودول السوق الأوروبية المشتركة، وارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة الأمريكية بمعدل أسرع من ارتفاعها في الدول الأخرى؛ أدى إلى تقليل الفائض في الميزان التجاري الأمريكي، وأدى في النهاية إلى تحقيق عجز في ميزان العمليات التجارية.
ومع نمو العجز في الموازنة العامة للدولة ربما تلجأ إلى زيادة ضخ عملتها المحلية فتتزايد كمية النقود دون أن يقابل هذه الزيادة زيادة مناظرة في حجم الناتج، مما يدفع الأسعار إلى مزيد من الارتفاع وتدخل الدولة في حلقة مفرغة.
أما الأثر الاجتماعي الذي لا يمكننا إغفاله هو أن الغلاء المستمر يؤدي إلى تفشي الرشوة والفساد الإداري والتكسب غير المشروع وما إلى ذلك من معاملات فاسدة؛ حيث يلجأ الناس إلى هذه الأمور كخط دفاع لمواجهة التدهور المستمر الذي يحدث في دخولهم الحقيقية، ومن ثم في مستوى معيشتهم.. ولهذا فليس عجيبًا أن تكون البلاد المصابة بالتضخم هي أكثر البلاد تعرضًا للفساد.
وقد قال لينين يوما: “إن أفضل طريقة لتحطيم النظام الرأسمالي هي إفساد العملة، وإنه بعملية تضخم مستمرة تستطيع الحكومات أن تصادر- سرًا وبطريقة غير ملحوظة- جزءًا هامًا من ثروات مواطنيها”
راجع: النسب المئوية للمتوسط السنوي للتضخم (من البنك الدولي)
نعم ! حدث بالفعل .. حدث أن رأت أذني وسمعت عيني!!.. حدث لي وربما يكون يحدث لك دون أن تدرى ولا تشعر. فهذا الاختلاط في الأحاسيس بل في الحواس يحدث دائمًا عندما تشاهد الجمال وتشعر به وتذوب فيه وتعيش معه، يحدث عندما تتأمل تلك المنظومة الرائعة من الفنون الإسلامية، وتقدرها حق تقدير؛ فيتحقق لك الإشباع الجمالي والحسي، عندما تتذوق الوحدة والتناغم بين العلاقات الشكلية فتختلط عليك حواسك فتسمع بعينيك وترى بأذنيك.
ذلك أن الإنسان ظاهرة طبيعية من ظواهر هذا الوجود، خلقه الله سبحانه وتعالى ليُعمِّر الأرض. وسائله في التعبير هي أدواته وعدده وآلاته المستمدة مما يحيط به من ظواهر طبيعية أخرى، يستعمل جميع حواسه وخاصة البصر والسمع، ومن ثم فالفن الإسلامي في الزخرفة والعمارة، هو أحد تلك الظواهر التي نتحدث عنها، والتي يختلط فيها الحس بالإحساس بالحواس. ولغة الفن الإسلامي مستعارة من الطبيعة، فالخط واللون والظل والنور وملامس السطوح (الملمس الناعم، والملمس الخشن) والأحجام والسطوح والفراغات، كلها مستمدة من الطبيعة وتحليلها، وهذه العناصر هي بمثابة حروف وكلمات الفنون التشكيلية الإسلامية ، تمامًا مثل كلمات اللغة التي نصوغ منها الشعر والأدب، ومثل أصوات الطيور والرياح والمياه الجارية، وهى العناصر الأولية التي نصوغ منها الموسيقى وهكذا …
ودعونا نحاول فيما يلي أن نستكشف سويًا معالم هذا الفن الجميل، وعناصره من بداية ظهوره مع ظهور وانتشار الدين الإسلامي وحتى يومنا هذا

وقد أجمع الباحثون والدارسون على أن العقيدة الإسلامية التي انتشرت في هذه المنطقة الشاسعة بسرعة غريبة، كانت ذات أثر قوي في تحقيق هذه الوحدة؛ بحيث تغلبت على فوارق الجنس والتقاليد الوطنية المتوارثة. ولعل السر الكامن في قوة وفاعلية العقيدة الإسلامية أنها ليست قاصرة على العبادات؛ وإنما هي نظام للحياة: نظام يقوم على دعامات قوية ومتينة في المثل والقيم والمبادئ. وأن هذه العقيدة تمتد إلى شئون الفكر والآداب والعادات والمعاملات، وهناك عامل آخر هو أن القرآن الكريم أُنزل باللغة العربية، وأصبحت عاملاً مشتركًا ورباطًا مميزًا في كل أعمال الفن، وبخاصة أن كراهية تمثيل الكائنات الحية جعل للغة العربية منزلة خاصة، وهكذا أصبحت اللغة العربية والكتابة عاملين جوهريين في كل ما أُبدع من أعمال فنية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وهناك عوامل أخرى ساعدت على تكوين وحدة الفنون الإسلامية الزخرفية، منها تجميع العمال والفنيين من مختلف البلاد الإسلامية للتعاون في إقامة المنشآت العامة: كالمساجد الجامعة أو قصور الخلفاء؛ فعندما استقرت الخلافة الأموية في دمشق وضع نظام لاستيراد المواد الخام، واستقدام الأيدي العاملة الممتازة من كافة أنحاء الدولة، وكان المعلمون من المصريين والسوريين والفرس والروم يعملون جنبًا إلى جنب يتعاونون في تحقيق حركة البناء النشطة التي كانت تتزايد مع الأيام.
ويعتبر المسجد رمزاً للفن الإسلامي؛ فهو مكان بسيط على شكل مربع أو مستطيل مستمد من المسجد الأول للرسول (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة المنورة، وقد انعكست بساطة العقيدة، وعدم وجود قرابين أو تأليه لشخصيات دينية على المسجد؛ فكان -ولا يزال- بسيطًا في تخطيطه وتجهيزاته، ويُزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية والهندسية المجردة، وأصبحت مسئولية المهندس المعماري المسلم تأكيد الهيكل البنائي بإثرائه بالزخارف النباتية المجردة والهندسية، والخط العربي بأنواعه. كما حرص الفنان المسلم على إثراء هذه البساطة المعمارية بالتنويع في الخامات المستعملة، فهو عندما يُقسِّم السطوح الموجودة أمامه على جدران المسجد إلى مساحات مختلفة الأشكال يملأ كل مساحة بعناصر زخرفية نباتية مجردة أو هندسية، كما يستعمل الحجر والرخام والجص والفسيفساء وبلاطات القيشاني بحثاً عن القيم الجمالية التي تتميز بها كل خامة، ذلك إلى جانب فتحات النوافذ التي تشكل بدورها علاقة جمالية مع الجدران، وتزين في نفس الوقت بالزجاج الملون الذي يضفي على المكان روعة وجمالاً. هذا الأسلوب لم يكن قاصرًا على المساجد وحدها؛ بل يمتد بزخارفه المتعددة ونوافذه المُحلاة بالزجاج الملون إلى البيوت والقصور وإلى جميع أنماط العمائر الإسلامية، فهو أسلوب عام لكل الإنتاج الفني الإسلامي بما في ذلك المنتجات الفنية الصناعية التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية
اقرأ في هذه الزاوية: حكايات بعد الإفطار
ا.د.يوسف القرضاوى |
الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.
كما أنبأت عن ذلك: رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فقد آتاه الله: العقل والحكمة “وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا”[البقرة:269]، والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال -عز وجل- “ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”[النحل125].
ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.

وآتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه، وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي ذكرتها في كتابي “ثقافة الداعية” وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية، بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف، وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟” الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.
وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) -رضي الله عنه-.
وقد ساعده على ذلك: تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأوردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة “نزهة الخواطر” في تراجم رجال الهند وعلمائها، ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب “ندوة العلماء” ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه، ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.

وآتاه الله: البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله، وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى، ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.
ولقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها، فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي -رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعييا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.
وقرأنا ما كتبه في مجلة “المسلمون” الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد “الطريق إلى المدينة” الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن! لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.
ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.

وآتاه الله: القلب الحي، والعاطفة الجياشة بالحب لله العظيم، ولرسوله الكريم، ولدينه القويم، فهو يحمل بين جنبيه نبعًا لا يغيض، وشعلة لا تخبو، وجمرة لا تتحول إلى رماد.
ولا بد للداعية إلى الله أن يحمل مثل هذا القلب الحي، ومثل هذه العاطفة الدافقة بالحب والحنان والدفء والحرارة، يفيض منها على من حوله، فيحركهم من سكون، ويوقظهم من سبات، ويحييهم من موات.
وكلام أصحاب القلوب الحية له تأثير عظيم في سامعيه وقارئيه، فإن الكلام إذا خرج من القلب دخل إلى القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان، ولهذا كان تأثير الحسن البصري في كل من يشهد درسه وحلقته، على خلاف حلقات الآخرين، ولهذا قيل: ليست النائحة كالثكلى!
هذا القلب الحي، يعيش مع الله في حب وشوق، راجيًا خائفًا، راغبًا راهبًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، كما يعيش في هموم الأمة على اتساعها، ويحيا في آلامها وآمالها، لا يشغله هم عن هم، ولا بلد عن آخر، ولا فئة من المسلمين عن الفئات الأخرى.
وهذه العاطفة هي التي جعلته يتغنى كثيرًا بشعر إقبال، ويحس كأنه شعره هو، كأنه منشئه وليس راويه، وكذلك شعر جلال الدين الرومي، وخصوصا شعر الحب الإلهي، كما جعلته يولي عناية خاصة لأصحاب القلوب الحية، مثل: الحسن البصري والغزالي والجيلاني وابن تيمية والسرهندي وغيرهم.

وآتاه الله: الخلق الكريم والسلوك القويم، وقد قال بعض السلف: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف! وعلق على ذلك الإمام ابن القيم في “مدارجه” فقال: بل الدين كله هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.
ولا غرو أن أثنى الله على رسوله بقوله: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”[القلم:4]، وأن أعلن الرسول الكريم عن غاية رسالته، فقال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
ومن عاشر الشيخ -ولو قليلاً- لمس فيه هذا الخلق الرضي، ووجده مثالاً مجسدًا لما يدعو إليه، فسلوكه مرآة لدعوته، وهو رجل باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكيه على الله -عز وجل-.
ومن هذه الأخلاق الندوية: الرقة، والسماحة والسخاء والشجاعة، والرفق، والحلم، والصبر، والاعتدال، والتواضع، والزهد، والجد، والصدق مع الله ومع الناس، والإخلاص، والبعد عن الغرور والعجب، والأمل والثقة والتوكل واليقين والخشية والمراقبة، وغيرها من الفضائل والأخلاق الربانية والإنسانية.
وهذا من بركات النشأة الصالحة في بيئة صالحة في أسرة هاشمية حسنية، (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ).
فما أجدره بقول الشاعر:
من الرجال المصابيح الذين هم أخلاقهم نورهم، من أي ناحية |
كأنهم من نجوم حية صنعوا أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا |
إن الداعية الحق هو الذي يؤثِّر بحاله أكثر ممّا يؤثر بمقاله، فلسان الحال أبلغ، وتأثيره أصدق وأقوى، وقد قيل: حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل! وآفة كثير من الدعاة: أن أفعالهم تكذب أقوالهم، وأن سيرتهم تناقض دعوتهم، وأن سلوكهم في وادٍ، ورسالتهم في وادٍ آخر. وأن كثيرًا منهم ينطبق عليه قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2،3].
العقيدة السليمة:
وآتاه الله قبل ذلك كله: العقيدة السلمية: عقيدة أهل السنة والجماعة، سليمة من الشركيات والقبوريات والأباطيل، التي انتشرت في الهند، وكان لها سوق نافقة، وجماعات مروجة تغدو بها وتروح، تأثروا بالهندوس ومعتقداتهم وأباطيلهم، كما هو الحال عند جماعة “البريليوين” الذين انتسبوا إلى التصوف اسمًا ورسمًا، والتصوف الحق براء منهم، وقد حفلت عقائدهم بالخرافات، وعباداتهم بالمبتدعات، وأفكارهم بالترهات، وأخلاقهم بالسلبيات.
ولكن الشيخ تربى على عقائد مدرسة “ديوبند” التي قام عليها منذ نشأتها علماء ربانيون، طاردوا الشرك بالتوحيد، والأباطيل بالحقائق، والبدع بالسنن، والسلبيات بالإيجابيات. وأكدت ذلك مدرسة الندوة – ندوة العلماء – وأضافت إليها روحًا جديدة، وسلفية حية حقيقية، لا سلفية شكلية جدلية، كالتي نراها عند بعض من ينسبون إلى السلف، ويكادون يحصرون السلفية في اللحية الطويلة، والثوب القصير، وشن الحرب على تأويل نصوص الصفات.
إن العقيدة السلفية عند الشيخ هي: توحيد خالص لله تعالى لا يشوبه شرك، ويقين عميق بالآخرة لا يعتريه شك، وإيمان جازم بالنبوة لا يداخله تردد ولا وهم، وثقة مطلقة القرآن والسنة، مصدرين للعقائد والشرائع والأخلاق والسلوك
منير عتيبة
تَلَذُّ لي قراءة أشعار ابن زيدون لعذوبتها ورقتها وصدقها.. فهو بحق “أهم شاعر وجداني ظهر في الأندلس.. إذ كان أول من اعتصر فؤاده شعرًا عذبًا فيه جوى وحرقة وهوى ولوعة” كما يقول الدكتور شوقي ضيف عنه.. وإذا كنت تريد التيقن من هذا الرأي فاقرأ قصيدته الملحقة بهذا المقال التي عارضها شعراء كثيرون( قالوا على نفس وزنها وقافيتها) منهم أمير الشعراء أحمد شوقي، فلم يبلغوا ما بلغه ابن زيدون فيها.. والقصيدة مطلعها:
أَضْحىَ التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا وَنابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنا
وأحب قراءة حياة ابن زيدون؛ لأنها ترسم صورة لعصر من أكثر عصور الأندلس إثارة وهو عصر ملوك الطوائف، فبعد سقوط الدولة الأموية الموحدة القوية انقسمت الأندلس إلى دويلات متناحرة يستعين بعضها بالنصارى لمحاربة البعض الآخر..
وفي مثل هذه العصور المضطربة لا يحكم المنطق أي شيء.. بل هي الأهواء والظروف والمصادفات تجعل ابن زيدون عاشقًا مقربًا اليوم.. ومهجورًا غدًا.. وتجعله في السجن اليوم .. وفي كرسي الوزارة بعد أيام..
وُلِدَ ابن زيدون في قرطبة سنة 1003م (394هـ) واسمه أحمد بن عبد الله بن زيدون أبوه فقيه من سلالة بني مخزوم القرشيين، وجدُّه لأمه صاحب الأحكام الوزير أبو بكر محمد ابن محمد بن إبراهيم، وكلمة صاحب الأحكام تعني أنه اشتغل بالفقه والقضاء.
تعلَّم ابن زيدون في جامعة قرطبة التي كانت أهم جامعات الأندلس يَفِدُ إليها طلاب العلم من الممالك الإسلامية والنصرانية على السواء.. ولمع بين أقرانه كشاعر.. وكان الشعر بداية تعرُّفه بفراشة ذلك العصر ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي الضعيف المعروف “بالتخلف والركاكة، مشتهرًا بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة” كما يقول عنه أبو حيان التوحيدي.
كانت ولادة جميلة مثقفة شاعرة مغنية، لها مجلس بقرطبة يضم أشهر مثقفي وشعراء هذا العصر، أحبها ابن زيدون حبًّا ملك عليه حياته، وأحبته هي أيضًا، وعاش معها في السعادة أيامًا، ثم هجرته لسبب تافه اختلف فيه المؤرخون بغناء إحدى جواريها في حضورها فأغضبها منه ذلك.. ولكي تغيظه وجدت عاشقًا جديدًا هو الوزير أبو عامر بن عبدوس.. وحاول ابن زيدون إبعادها عن ابن عبدوس واستعادة الأيام الجميلة الماضية، لكنها رفضت، واتهمه ابن عبدوس بأنه ضالع في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم وزُجَّ به في السجن.. وكتب ابن زيدون قصائد كثيرة يستعطف فيها “أبا الحزم جهور” حاكم قرطبة، كما كتب قصائد أخرى لأبي الوليد بن أبي الحزم ليتوسط لدى أبيه، وكان أبو الوليد يحب ابن زيدون، لكن وساطته لم تنفع، فهرب ابن زيدون من السجن، واختبأ في إحدى ضواحي قرطبة وظل يرسل المراسيل إلى الوليد وأبيه حتى تمَّ العفو عنه، فلزم أبا الوليد حتى تُوُفِّيَ أبو الحزم وخلفه أبو الوليد الذي ارتفع بابن زيدون إلى مرتبة الوزارة.
أثناء ذلك كله لم يَنْسَ ابن زيدون حبه الكبير لولادة التي أهملته تمامًا، فجعله أبو الوليد سفيرًا له لدى ملوك الطوائف حتى يتسلى عن حبه بالأسفار وينساه، لكن السفر زاد من حب ابن زيدون لولادة وشوقه إليها، فعاد إلى قرطبة.. وما لبث أن اتهم مرة أخرى بالاشتراك في محاولة قلب نظام الحكم على أبي الوليد بن جهور الذي غضب عليه، فارتحل ابن زيدون عن قرطبة وذهب إلى بلاط المعتضد بن عباد في أشبيلية، وهناك لقي تكريمًا لم يسبق له مثيل، ثم زادت مكانته وارتفعت في عهد المعتمد بن المعتضد، ودان له السروروأصبحت حياته كلها أفراحًا لا يشوبها سوى حساده في بلاط المعتمد أمثال “ابن عمار” و “ابن مرتين” اللذين كانا سببًا في هلاكه في الخامس عشر من رجب سنة 463 هجرية؛ إذ ثارت العامة في أشبيلية على اليهود فاقترحا على المعتمد إرسال ابن زيدون لتهدئة الموقف، واضطر ابن زيدون لتنفيذ أمر المعتمد رغم مرضه وكبر سنه، مما أجهده وزاد المرض عليه فدهمه الموت.
ظل ابن زيدون حتى آخر يوم في حياته شاعرًا عاشقًا، فبالشعر عشق، وبالشعر خرج من السجن، وبالشعر نال حظوظه من الحياة.. ولم ينس أبدًا ذكرى ولادة وأيامه الجميلة معها.. وقد كانت حياته المتقلبة، وحبه الكبير لولادة بالإضافة إلى أعماله الشعرية والنثرية المتميزة موضوعات لدراسات وإبداعات كثيرة لعل أشهرها مسرحية الشاعر المصري فاروق جويدة “الوزير العاشق” التي قام ببطولتها عبد الله غيث وسميحة أيوب.
ومن أهم أعمال ابن زيدون الباقية للآن غير أشعار “الرسالة الجدية” التي استعطف فيها ابن جهور ليخرجه من السجن، و”الرسالة الهزلية” التي كتبها على لسان ولادة ذمًّا في ابن عبدوس حبيبها الجديد، وهي الرسالة التي زادت الهوة بينه وبين ولادة وعجلت بابن عبدوس ليزج بالشاعر في السجن.. وقد بقيت هاتان الرسالتان علامة على الموهبة الكبيرة والثقافة المتنوعة التي تميز بها ابن زيدون في أعماله الشعرية والنثرية على السواء.
نونية ابن زيدون
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا | وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا |
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا | حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا |
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم | حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا |
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا | أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا |
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا | بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا |
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا | وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا |
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم | رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا |
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد | بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا |
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه | وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا |
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا | شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا | يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا |
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ | سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا |
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا | وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا |
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية | قطوفُها فجنينا منه ما شِينا |
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما | كنتم لأرواحنا إلا رياحينا |
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا | أن طالما غيَّر النأي المحبينا |
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً | منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا |
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به | من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا |
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا | إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا |
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا | من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا |
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً | منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا |
ربيب ملك كأن الله أنشأه | مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا |
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه | مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا |
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَة | تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا |
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه | بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا |
كأنما أثبتت في صحن وجنته | زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا |
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا | وفي المودة كافٍ من تَكَافينا |
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا | وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا |
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها | مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا |
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته | في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا |
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة | وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا |
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ | فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا |
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها | والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا |
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا | والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا |
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا | حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا |
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ | عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا |
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا | مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا |
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله | شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا |
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه | سالين عنه ولم نهجره قالينا |
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ | لكن عدتنا على كره عوادينا |
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعةً | فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا |
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا | سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا |
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً | فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا |
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا | ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا |
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه | بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا |
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً | فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا |
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به | بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا |
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ | صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا |
اقرأ في نفس الزاوية:
وإذا كان المقام لا يتسع للإطالة ولا للتفاصيل، فضلاً عن استقراء أفكار الرجل وأعماله في هذا الميدان -وهي التي سيجدها القارئ في نصوص “إسلامياته” التي نعدها للطبع- فإن وقفات أمام “محطات” في حياة السنهوري كانت مناسبات طرَق فيها الحديث عن هذا المشروع، هي ضرورية لمزيد من الأضواء على هذا المنهاج الإصلاحي الذي قدمه هذا الرجل في هذا الميدان.
فلقد كان إحياء الشريعة الإسلامية، لتتأسس عليها المدنية الإسلامية الحديثة، والجامعة الإسلامية الجديدة، حلم حياة السنهوري باشا، والمشروع الفكري الذي لازمه عبر سنوات عمره المديد.. في المذكرات… والمقالات… والمحاضرات العامة، وفي الجامعات… وفي مؤتمرات القانون -القومية والدولية-، وفي المؤلفات الفكرية والقانونية.. وعلى منصة القضاء… وفي صروح القوانين المدنية التي بناها هذا المشروع العظيم لمصر والعراق وسوريا والكويت ….إلخ.
ففي أوراقه الشخصية، يكتب عن غدر أوروبا بالدولة العثمانية – في أكتوبر سنة 1918م- أي: عقب تخرجه من مدرسة الحقوق مباشرة… وفي يناير سنة 1922م يكتب عن مشروعه لإحياء الشريعة الإسلامية، وعن الجامعة الإسلامية… ثم يلازمه هذا الحلم العظيم بالإحياء الإسلامي طوال سنوات عمره، في الفكر والممارسة والتطبيق.
ومع هذه الاستمرارية للعلاقة بين السنهوري والشريعة الإسلامية فقد برزت في سنوات عمره “محطات” زاد اهتمامه فيها بهذا المشروع لملابسات اقترنت بهذه “المحطات”.
واعتماد الشريعة الإسلامية مصدرًا للقانون الدولي
وعاد السنهوري من “لاهاي” وهو يحمل هذا “التكليف الدولي” ببعث الشريعة الإسلامية وتجديد وتقنين فقه معاملاتها، وانضم هذا “التكليف الدولي” إلى الدافع الذاتي، والباعث الديني، والعامل الحضاري، والعزة القومية، لتزيد من عزم الرجل وجهاده على هذا الطريق.
ولقد اعتبر السنهوري باشا أن هذا “التكليف الدولي” -الذي مثّل اعترافًا عالميًا بتميز وعظمة الشريعة الإسلامية- هو بمثابة “إشارة الابتداء” لتكثيف الجهود على هذا الطريق، فكتب- في تقريره عن هذا المؤتمر- يقول: “لقد حان الوقت، وأعطانا مؤتمر لاهاي إشارة الابتداء، لقد آن الأوان لدراسة القانون بنفحات التجديد. وإن علينا أن نرد إلى الشريعة الإسلامية -بدراسة تاريخية ومقارنة عميقة جادة- صفة التواؤم مع حاجات النظام الاجتماعي القائم، وإن نقطة الابتداء من هذا العمل يجب أن تكون -كما سبق أن قلته في كتابي عن [الخلافة]- الفصل بين الجزء الديني والجزء الزمني في الشريعة الإسلامية، ذلك أن الجزء الديني يجب أن يفلت من دائرة دراساتنا ليبقى حكرًا لرجال الدين من المسلمين.
“ولأن علينا أن نعنى في دراستنا بجعل الشريعة الإسلامية ممكنة التطبيق على السواء بالقياس للمسلمين وغير المسلمين، كان واجبًا أن نميز في نظام القسم الزمني من الشريعة نفسه القواعد ذات الصبغة الدينية من القواعد ذات الصبغة القانونية البحتة”.
“إنني لا أعني بالإسلام -في ميدان الدراسة القانونية- مجموعة من القواعد الدينية، وإنما نظامًا للحضارة يعتمد على أساس من التنظيم القانوني، هذا هو إسلام الثقافة لا إسلام العبادة، وإني لزعيم بأن المصريين جميعًا -مسلمين وغير مسلمين- يجتمعون على إقرار ضرورة النهوض بحركة ترمي إلى التمكين لهذا النظام القانوني العتيد من الانطباق في العصر الحاضر، وهو ذلك النظام الذي اشترك في بنائه من رجال القانون الإسلامي من لا يقاربهم في عظمتهم غير فقهاء الرومان”.
“إن على كليِّتنا-[الحقوق]- أن تخطو الخطوة الأولي في سبيل هذا الإصلاح، بل في سبيل هذا “الرنيسانس” Renaissance -أي: نهضة، ولقد شاع استخدام “الرنيسانس” وصفًا للنهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من عصورها المظلمة، وتخلفها الحضاري، واستخدم المصطلح وصفًا للنهضات الحديثة في العلوم والفلسفات- مهما تتكلف في هذه السبيل، إن كلمة “الرينسانس” قد تكون كلمة طموحًا، ولكنها يبررها ما في هذا العمل من عظيم الخطر”.
“إن علينا أن نعيد إلى مصطلح الحضارة الإسلامية المرونة التي فقدها، وألا نعتبرها مجرد مجموعة من القواعد الدينية، بل صورة بديعة من صور المدنية يقدمها التاريخ إلينا -على حد قول “لامبير”- كثمرة للنشاط المشترك الذي ساهمت فيه جميع الوحدات الدينية التي تعيش منذ قرون بعيدة تعمل جنبًا إلى جنب في ظل راية الإسلام”.
هكذا نقل السنهوري -بعد توصيات مؤتمر لاهاي- مشروعه لإحياء وتجديد الشريعة الإسلامية، من الإطار “الذاتي” إلى الإطار “العام” طالبًا من كلية الحقوق أن تخطو الخطوة الأولى في سبيل النهضة الإسلامية- “الرنيسانس” المؤسسة على الشريعة الإسلامية، قانوناً قوميًا لكل الذين استظلوا عبر القرون الطويلة برايات الإسلام.
الأخ الفاضل ياسر،
بلغتنا رسالتك التي تتساءل فيها عن الجهاد الإلكتروني، في إ طار رغبتك في ترشيد سلوك مجموعة ممن النشطين السيبريين الذين يسعون لمهاجمة بعض المواقع الإسلامية المبتدعة. والمدخل للإجابة على استفسارك تكمن في عدة مداخل نعتبرها الأهم في هذا الترشيد.
* التحرك من النطاق الخاص إلى النطاق العام :
أول المداخل التي نود الحديث عنها في إطار الجهاد الإلكتروني هو الانتقال من هذا النطاق الضيق الذي أشرت إليه إلى نطاق أكثر رحابة هو نطاق الجهاد ضد الفكرِّ المعادي للعدالة والإنسانية، وهذا المدخل يرتبط بالتحرك وفق نظام أولويات، ووفق فقه موازنات يضع نصب عينه ترتيب قائمة الأعداء ترتيبًا يحقق الصالح الإنساني.
نحن في توقيتٍ نواجه فيه تحركاتٍ عالميةً تستهدف قلب الحقائق الإنسانية، وسلب حقوق بعض الجماعات البشرية، بحيث لا يصير التفاعل الصراعيُّ معبرًا عن تدافع مصالح، بل علاقة يتصارع فيها الحق الإنسانيُّ العام في مواجهة مجموعة من المصالح الاقتصادية الضيقة.
فلو أخذنا حالة قيام قوات الاحتلال الصهيونية بالتوسع خارج نطاق الأراضي التي احتلتها سابقا، لتحتل أراضٍ جديدة، أو سعيها للانفراد بامتلاك أسلحة الدمار الشامل في المنطقة العربية، أو حالة العدوان الأمريكي غير المشروع على دولة العراق وشعبه.. هذه الحالات الثلاث كمثال، تجد ثلةً من المجموعات والتنظيمات التي تساند هذه الحالات غير المشروعة لاستخدام القوة للقضاء على مجموعة من الحقوق المختلفة لجماعات بشرية متعددة، بالإضافة إلى المواقع الحكومية التي تمثل رموزًا للدول الراعية للعدوان على حقوق الجماعات البشرية المختلفة.
يأتي هذا في الوقت الذي يرى فيه البعض أن مهاجمة بعض المواقع الإسلامية المبتدعة عمل له الأولوية على مهاجمة ما عداها من المواقع، ولا شك في أن الابتداع في الدين بالغ الخطورة، ويسهم في تشويش العقيدة، لكن..
عندما يهاجم الناشط الإلكتروني الإسلامي مواقع عقائدية ينظر العالم لهذا العمل باعتباره قمع للرأي الآخر والنظرة الأخرى للأمور؛ في حين أن مهاجمة المواقع المهاجمة للحقوق المستقرة للحقوق الإنسانية عملٌ لا يمكن لأحد أن ينقده إلا لكونه متكبرًا أو ذا مصلحة.
الخلاصة .. أن مهاجمة النوع الثاني من المواقع عملٌ لا يمكن أن يكون محل نقدٍ جذريٍّ، بل هو عملٌ يكاد يكون محل اتفاق بين المسلمين وغيرهم من التيارات الإنسانية المساندة للحقوق المطلقة للإنسان، والرافضة لكل الأنشطة المنافية للعدالة والحرية الحقيقية.
يترتب على هذا توفر قدرة تعبوية عالية بين النشطين الإلكترونيين في كل أنحاء العالم ضد المواقع المنافية للحقوق، في مقابل قدرة تعبوية منخفضة في مواجهة حركة مقاومة المواقع الإسلامية التي تعبر عن الفكر المبتدع.
أضف إلى ذلك أن المواقع الإسلامية المبتدعة قد تكون مبتدعة في العقيدة؛ لكنها تصب في النهاية في صالح إقرار حركة الحقوق العالمية وتثبت هذه الحقوق، وترفض حركة البغي والعدوان على الحقوق.
ولو نظرنا لمقصد الشريعة الإسلامية في إجراء الموازنة بين أولويات مهاجمة هذين الصنفين من المواقع سنجد أن الشريعة استهدفت إعمار الأرض، وإثبات الحقوق.
ألا ترى – أخي ياسر – أن للكافر في الإسلام حقوقًا ثابتةً لا يمكن إنكارها؛ لكن يرفض الإسلام من المسلم وغير المسلم العدوان على الحق والبغي عليه .
يبقى أن نشير إلى أن هذه المقدمة لا تعني تفضيل هذه النوع من الأنشطة الإلكترونية التي تسمى بلغة الحاسب “Hacking” وذلك للأسباب الآتية:
أ- المواقع الإلكترونية هي تمثيل رمزي للقوى المعبرة عنها، والإضرار بها إضرار رمزي لا فاعلية حقيقية له.
ب- يمكن لأي موقع أن ينشر مواده على أكثر من موقع، فيفتح جبهة جديدة أمام النشطين الذين يريدون ممارسة هذا النوع من الجهاد.
ج- يمكن للتقنية أن تلتف على قدرات هؤلاء النشطين فتقوم بتأمين المواقع ضد هجمات هؤلاء الـHackers .
د- التطور التكنولوجي قد يصل لدرجة متقدمة تعمل على تقليص مساحة الملمين به من عامة الجمهور المسلم، ومن ثم يكون عدد من لديهم قدرة على القيام بهذه الأنشطة قليل جدا.
هـ – قد يكون هذا العمل مجرَّمًا قانونا، ويؤدي لملاحقة النشطين في هذا النوع من أنواع الجهاد الإلكتروني.
لكن يظل هذا الباب مفتوحًا لمن يستطيع المشاركة فيه في ظل الضوابط الشرعية، لكن يجب أن نراجع هذا النشاط ضمن سلم أولوياتنا، وهذا يفتح الباب أمام مدخل آخر للحكم على الأمور.
* التحرك من سلبية العمل إلى إيجابيته:
ونحن هنا نقصد العمل السلبي، والعمل السلبي يعني في منظورنا اعتماد الأدوات الصراعية في إدارة العلاقة مع الآخر، والمقابل هو الأداة الإيجابية، والمقصود بالأداة الإيجابية هنا هي القدرة على النشر وتقديم المعلومات، وعرض وجهة النظر الصائبة، وتجميل عرضها من ناحية الشكل، وتجويد عرضها من حيث تنقيح الحجج المعلوماتية والمنطقية.
الواقع أن لدينا ثلاثة روافد في ترجيح الموازنة بين النهجين الصراعي والمعلوماتي:
أ- رخص تكلفة المواقع المبسطة.
ب- التطور التكنولوجي، وتقدم وسائل تأمين المواقع.
ج- الإفراط والتعددية العائلة في المواقع.
هذه الروافد الثلاثة تجعل من متابعة المواقع والتعامل الصراعي معها عملية مرهقة ومكلفة، في الوقت الذي يمثل فيه التعامل الإيجابي المعلوماتي جانبًا أقل تكلفة وأقل جهدًا، بما يفسح المجال لمزيد من الموارد المستخدمة في العمل الإيجابية المعلوماتي.
وفي هذا الإطار أيضا يمكننا الإشارة إلى أن التعددية من الخصائص المباحة على شبكة الإنترنت في حين أن مهاجمة المواقع من الأعمال غير المباحة، ومن ثم فاللجوء لمثل هذا اللون من الأنشطة يرفع التكلفة الأمنية لممارسة مثل هذا النشاط.
* التحرك من سلبية الموضوع إلى إيجابيته:
نريد هنا الإشارة لمحدد هام أيضا في توجيه الجهاد الإلكتروني، فإذا كان البند السابق يخص الأداة التي يتم العمل وفقها، والأسلوب الذي يتعين على الجهاد الإلكتروني الالتزام به؛ فإن هذا البند اختص بتناول موضوع هذا الجهاد.
والقصد هنا أن يكون هذا الجهاد بناءً لا هدامًا، يحاول أن يضيف للعمل الإلكتروني المسلم ولا يخصم منه، وأن يتفرع لمناقشة الجزئيات ولا يكتفي بمناقشة الخطوط العريضة.
وفي رأيي أن من سوءات العمل الإلكتروني أمران:
– الأول: التحرك للجرح في الرأي الآخر، في حين الأولى أن تدعم رؤيتك وموقفك ودعم رؤوس الأطياف الاجتهادية المسلمة، وتجويد طرحها وعرضها، وتأمين هذا الطرح يجب أن يتقدم على التوجه نحو التهجم على الفكر الآخر، مهما كانت درجة خطئه.
* تنمية الاهتمام بالتفاصيل، وإليك المثال:
الفكر الذي يتناول حقوق الإنسان في مرجعيته الليبرالية يتناول مثلا قضية الحرية فيتجه نحو تفريعها وتناقل قضايا مثل حرية الرأي والاعتقاد والتعبير والترشيح والانتخاب والتجمع.. إلخ.
ولا يقف عند حدود ذلك، بل يتناول في فكرة المجتمع المدني الأوجه المؤسسة اللازمة لتطبيق هذه الحريات، ثم يتجه لمناقشة قضايا تمويل هذه التنظيمات، ثم يضع لها جداول أعمال فرعية صغيرة، ويظل يُشعب في موضوعاته حتى يتناول أدق التفاصيل في هذا الأمر، مع خصوصيات التطبيق في المجتمعات غير الغربية.
قارن هذا بحديث المجتهدين الإسلاميين عن الحرية تجده قد توقف عند حدود المصطلح الجدّ من دون الوصول لأحفاده.
إن انشغال الفكر الإسلامي اليوم هو للتفرع، وبناء تفاصيل التفاصيل، بل لا تزال الجهود حثيثة في هذا المجال تسرع في السير حينا، وتتباطأ حينا.
إن على الشباب أن يبحثوا عن أئمة للفكر يلتقون بهم، ويتعلمون منهم، وينقدونهم، ويقدمون هذه الأفكار ونقدها لغيرهم عبر الإنترنت، ويلتحق بهم من لديه فكرة جديدة أو إضافة أو نقد، فهذا السبيل سيثري الحركة الفكرية الإسلامية على شبكة الإنترنت، ويأتي دور الفنيين ليصونوا ويدعموا هذا الوجود على الإنترنت، ويثرونه شكلاً وتعبيرًا عبر آليات الجرافيك والصوت والصورة.
– الثاني: الانغلاق والعزلة:
فمن أهم خصائص الانتشار الإسلامي عبر الإنترنت أن من لديه فكرًا وطرحًا جديدًا ومتمايزًا يقوم بإنشاء موقع فقط يبث من خلاله فكره، وتقوم فكرة الولاء لجهةٍ ما، وفكرة برامج الحظر بمنع هؤلاء من التواصل مع من يؤيدونهم في بعض الجزئيات، وإليك المثال:
بالنظر إلى القضية العراقية، سنجد أن هناك تحركات عالمية رافضة للحرب، وتناضل من أجل الضغط العالمي لمنع هذه الحرب (هذا كان قبل الوقوع)، ومحاولة تحجيمها (الآن بعد الوقوع)، فهل يعقل أن يتعامَل مع هؤلاء بمنطق أن “الكفر ملة واحدة” ؟؟
إن هذه الحرب شارك في الوقوف ضدها كنائس وحركات حقوقية علمانية، وحركات دينية من مختلف الأديان، والتعامل مع هذه الاتجاهات بمنطق أن الكفر ملة واحدة، يؤدي إلى ردَّيْ فعل:
أ- نحن نفقد مساهمة هؤلاء في مناصرة قضايانا، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم شهدت الاستعانة بأعمامه وهم على الشرك، والاستجارة بمشركين عقب عودته من رحلة الطائف بعد وفاة عمه.
ب- دفع هؤلاء الشركاء إلى التكتل ضد المشروع الإسلامي العادل بكافة أطيافه وتنويعاته، في الوقت الذي تمدنا فيه سيرة نبينا بحرصه على تفتيت تكتلات أعدائه، ولعل غزوة الأحزاب خير شاهد على ذلك.
إن على النشطين ضمن تصور الجهاد الإلكتروني العمل على هذين الصعيدين معا.
يا أيها الشباب،
الساحة ليست منغلقة على التنظيمات والجماعات الإسلامية للتتحرك لنصرة دين الله ونشره، وتطوير صور الجهاد، وفي إطار ذلك فإن علاقات الشللية والزمالة والجيرة والصداقة أطر أخرى للعمل والحركة.
أيها الشاب،
كون شلةً ممن تلمس فيهم الاهتمام بكرامة أمتهم، وقدم لهم أنت بنفسك مشروعًا يقومون عبره بتحقيق ذاتهم وإثبات وجودهم بدلا من العيش بلا رسالة وبلا هدف.
* تعدد صور الجهاد الإلكتروني: أولويات معتبرة:
بقي هنا أن أشير إلى نقطة مهمة أخي ياسر.. ألا وهي أن سبل الجهاد الإلكتروني عديدة، ويمكن ترجمتها في صور متعددة.
أ- شراء المواقع بداية، وتقديم مشروع فكري محدود خلالها.
ب- استثمار المواقع المجانية، وما أكثرها.
ج- استثمار البريد المجاني، وما أكثره.
د- استثمار المجموعات والقوائم البريدية المنتشرة بصفة خاصة في المواقع الأجنبية مجانًا، من حيث إنشاء المجموعات والقوائم، والالتحاق بمجموعات وقوائم جاهزة وموجودة بالفعل.
هـ- تجميع الطاقات المستعدة لهذا البذل عبر وسائل الاتصال بالإنترنت كمنتديات الحوار والماسنجر.
والأهم من هذا كله الإسهام في تركيز هذه الجهود.
أخي الغالي، وكل من يقرأ هذه السطور؛
الملاحظ في العالم أن كل المؤسسات ذات الحيثية تسعى للتوحد والاندماج، وأولى بالباحثين عن العدل والحق أن يقوموا بممارسة هذه التجربة، فلو أن لديك طاقة متوفرة ساهم بدفعها ضمن مشروع كبير، وما أكثر المشاريع.
ولعلي أكون بادئًا بهذا من خلال هذا البريد: [email protected]
وتفضل بقبول تقديري لجهود نظرك الثاقب.
نشكر الأستاذ الفاضل على ما قدم وأضاء السبيل برده المحكم في هذا الموضوع المستحدث على ساحتنا الإسلامية، فقط يجب أن نوضح الموقف الشرعي في مسألة مهاجمة المواقع الأخرى، وأن الأمر مبني على قياس المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك، وهذا يجعل كل حالة منفصلة عن الأخرى في هذا المجال، ومما يجب الانتباه إليه هو قدرة الآخرين على القيام بمثل ذلك، وهذا بالتبعية يشعل نار الحرب الإلكترونية بيننا، ويهدم بعضنا بعضا، لذا يجب أن ننتبه لما طرحة الأستاذ الفاضل من إيجابية تبني لا تهدم، وتحدد العدو الأولى بالمهاجمة إن كنا فاعلين.
وفي هذا الإطار يجب ألا نغفل أنه يملك نفس الأدوات التي تملكها، وقد يتفوق عليك في ذلك، وهذا قد يستفز المحايد لمساعدته، فتضر من حيث أردت النفع، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في شرعنا، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وكن على تواصل معنا، واشترك معنا في جهودنا في إطار فتح آفاق الجهاد أمام شباب هذه الأمة، وذلك في مواجهة التحديات الحقيقة التي تواجهنا.
استشارات ذوات صلة:
– غزو المواقع اليهودية.. بل أحسن عرض سلعتك
– تحريف القرآن الكريم.. والدور المطلوب
– جهاد الإنترنت.. “ولكن جهادٌ ونيَّة”
– وللإنترنت رجالٌ يدعون
– مجموعات الإنترنت الدعويَّة.. اقتراحٌ جميل
– الدعوة بإنشاء المواقع.. ولا تنسَ ما تُحسِن
– فكرة دعوية عبر الرسائل الإلكترونية
الأستاذ وسام فؤاد |
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإذا كنت تقصد من سؤالك أن عليك دين ( أقساط ) وتريد الحج فالاصل أن تؤدي الدين الذي عليك ثم تحج ، لكن يجوز لك الحج وعليك دين إذا غلب على ظنك أداء الدين الذي عليك بعد رجوعك ، او كان عندك مال يكفي لسداد هذا الدين ، ولم تؤثر نفقات الحج على سداد الدين بعد رجوعك .
وإليك تفصيل ذلك في فتوى الدكتور القرضاوي حفظه الله :
المفروض أن المسلم إذا كان عليه دين فلا يجوز له أن يحج حتى يوفي دينه لأن الحج حق الله والديون حق العباد؛ وحقوق العباد مبنية على المشاحة وحقوق الله مبنية على المسامحة، الله يسامح في حقه ولكن العباد لا يسامحون في حقهم، ولذلك لا يجب على الإنسان أن يحج إذا كان عليه دين حتى يقضي دينه ويسدده لأصحابه.
فإذا كان أصحاب الدين متسامحين وقالوا له نحن مسامحين أن تذهب إلى الحج وتنازلوا عن حقهم و قالوا له لو مت فنحن مسامحين في المال فجزاهم الله خيرًاً؛ إنما إذا لم يفعلوا ذلك فلا يجوز له.
وإذا كان على الإنسان دين ومشتاق جداً إلى الحج يذهب ويستأذن أصحاب الدين، فإذا سمحوا له جاز له أن يحج بشرط أن يكون واثقاً من نفسه بالقدرة على تسديد الدين، إنما إذا كان يعرف أنه إذا حج فلن يستطيع أن يسدد الدين فلا يجوز له أن يحج لأن تسديد الديون أولى حتى ولو كان ديناً مؤجلاً، إلا إذا كان ديناً مؤجلاً مثل ديون الحكومة، فبعض البلاد تعطي قرض طويل الأجل ويعطوا بيت أو أرض أو شيء من هذا على 30 سنة، فهذا معروف أنه يأخذوا من راتبه حتى ينتهي من سداد الدين فمثل هذا لا يمنع، إنما إذا كان دين عليه أن يسدده خلال سنتين أو ثلاثة وقد يؤدي حجه إلى تعطيل أداء الدين في وقته فليس عليه أن يحج، إلا إذا استسمح أصحاب الدين وسامحوه وكان واثقاً من نفسه بالقدرة على الوفاء بهذا الدين .
ملاحظة : إذا سافرت للحج بعد توافر الشروط التي ذكرتها لك فينبغي عليك أن توصي بالمال الذي عليك قبل سفرك، تقبل الله منك ووفقك ورعاك .
والله أعلم .
أ.د يوسف القرضاوي |