كل ما كتبه badori519
في «التسامح» وإشكالية المفهوم: المجال الحديث والمجال الاسلامي
خالد يونس
تعتبر مشكلة الكتلة المفقودة من أعقد المشكلات التي تواجه علماء الفلك، ويطلقون على هذه الكتلة اسم المادة القاتمة، فهي معتمة ولا يمكن رؤيتها رغم أنها تمثل 90% من كتلة الكون المفترضة.
فحسب تقديرات العلماء يضم الكون المنظور حوالي 100 ألف مليون مجرة، وكل مجرة تحوي على الأقل 100 ألف مليون نجم، ولكن هذا كله لا يشكل سوى 10% من الكتلة المفترضة للكون، وفي ظل هذا الوضع تُعَدُّ كثافة الكون طبقًا للمتوقع المرصود قليلة جدًّا عن الكثافة الحرجة، وهي نموذج محدد بالحسابات الرياضية مقداره من 3 – 4 ذرات هيدروجين لكل متر مكعب من الفضاء، حتى يمكن للمادة بهذا المقدار الحفاظ على مستوى من الجاذبية لوقف تمدد الكون.
ولكن كثافة الكون الحالية لا تزيد عن 1 – 2 ذرة هيدروجين في المتر المكعب من الفضاء الكوني، وهذا يعني أن هناك كتلة مفقودة في الكون، ولا نعلم عنها شيئًا، قد تكون كما يقول الباحث نبيل عبد الفتاح في كتابه “الكون ذلك المجهول” عبارة عن جسيمات أو عناصر كيمائية لا نعلم عنها شيئًا، ولا تخضع لقياس الأجهزة الحالية المستخدمة في قياس العناصر الكيمائية أو نظائرها؛ لأنها مصممة أصلاً طبقًا للنظرية الذرية الحديثة.
ولا أحد يعرف طبيعة تكوين هذه المادة القاتمة، فبعض العلماء يقول: إنها باردة إلى الحد الذي لا تطلق معه أية إشعاعات أو أضواء يمكن رصدها مثل النجوم والمجرات التي تموج بالتفاعلات النووية، مصطلح الجسيمات الباردة في علم الفيزياء يعني أنها جسيمات بطيئة الحركة، فإذا كانت كذلك فلا يمكنها بالتالي جمع ملايين النجوم في المجرات، وجمع آلاف المجرات في تجمعات ضخمة.
أما إذا كانت المادة القاتمة ساخنة فهذا يعني أن جسيماتها سريعة الحركة، وأنها حقًّا تقوم بالمهمة، ويتولد عنها جاذبية كبيرة تشدُّ النجوم داخل المجرات، وتعمل على توازن الكون، ولكن لو كان هذا صحيحًا لتَمَّ اكتشاف جسيمات هذه المادة بما يخرج منها من إشعاعات وحرارة، وهذا لم يحدث، وهنا وجد العلماء أنفسهم أمام مأزِق.
أعاد العلماء حساباتهم بالنسبة لكتلة مادة الكون المنظور، فأضافوا إليها المادة الموجودة في الثقوب السوداء المنتشرة في الفضاء الكوني، والمادة الناشئة عن انفجار النجوم بين المجرات، وجسيمات النيوترينو السابحة في الكون، وكذلك الأشعة الكونية، وبعد هذه الإضافات لم تزد كتلة الكون المنظور عن 30% في أحسن الافتراضات من الكتلة التي ينبغي أن يكون عليها الكون؛ حيث هناك 70% من الكتلة مفقود.
وأمام استمرار هذا المأزق اقترح بعض العلماء تفسيرًا لطبيعة تكوين المادة القاتمة، مفاده وجود جسيمات من نوع جديد تدخل في تركيبه، وتعرف باسم الجسيمات الثقيلة ضعيفة التفاعل weakly interactive massive paticles التي تعرف اختصارًا باسم WIMP، ولكن هذه الجسيمات لم تُكتشف بعد بكافة الأجهزة المتاحة.
واقترح علماء آخرون أن هذه المادة قد تكون نوعًا من الأربطة الكونية Cosmic Strings، وهي تشبه إلى حد ما الأشرطة الطويلة للحامض النووي DNA التي تحمل العوامل الوراثية للجنس البشري داخل كل خلية، فكذلك الأربطة الكونية تربط بين المجرات وبين النجوم داخل المجرات.
ومنذ أوائل الثمانينيات أخذ العلماء في البحث عن أشياء غير مألوفة لنا قد تدخل في تركيب هذه المادة القاتمة، وترتب على ذلك ظهور نظرية الثقوب البيضاء White Holes على أساس أن كل مجرة تحوي في قلبها ثقبًا أبيض ذا كثافة عالية جدًّا تعمل على مَدِّ المجرة بالمادة، ولكننا لا نرى هذه الثقوب أو نلاحظها بعكس الثقوب السوداء التي نلاحظها خاصة الإشعاعات العارمة التي تنطلق عند حافتها عند ابتلاعها لنجم عملاق مجاور.
فالثقوب البيضاء لا نراها ولا نلاحظها؛ لأن كثافتها لا نهائية تأسر الضوء، ولكنها تمد المجرة بالتوازن والاستقرار والجاذبية اللازمة للاحتفاظ بالنجوم في مجالها، ولكن المشكلة أن هذه النظرية لم تشرح لنا كيف تكونت الثقوب البيضاء مثلما نعرف عن الثقوب السوداء.
وتبقى مشكلة المادة القاتمة والكتلة المفقودة لغزًا لا زال يحير علماء الفلك ويبحثون عن تفسير له.
د. زغلول النجار
إن القرآن الكريم كتاب هداية أنزله الله – عز وجل – لتوضيح أمور لا يستطيع عقل الإنسان وحده أن يعلمها مثل جوهر الإيمان والعبادات ومبادئ الأخلاق والقوانين التي تحكم تعاملات الناس بعضهم مع بعض.
بالإضافة إلى هذه الأمور، فإن القرآن الكريم يتعرض إلى الكون بما فيه من السماوات والأرض وعناصرها المتعددة وسكانها وظواهرها في أكثر من 1000 آية بهدف الاستشهاد بقدرة الخالق – عز وجل – غير المحدودة وعلمه وحكمته تعالى الذي خلق هذا الكون والقادر أن يخسف به ثم يعيده تارة أخرى، وبالتالي لم يكن الهدف من آيات القرآن الكريم التي لها علاقة بالكون توفير بعض المعلومات العلمية؛ حيث عنى الله – عز وجل – أن يتم عملية اكتساب العلم عن طريق الملاحظة والاستنباط والتجربة والذي يحدث على فترة طويلة من الزمان بسبب محدودية حواس الإنسان وطبيعة العلم التراكمية، ومع ذلك فلا بد لآيات القرآن الكريم أن تحمل عدة حقائق علمية غير قابلة للجدل عن الكون بما أنها كلمة موحاة من الخالق –عز وجل- وبالتالي الحقيقة المطلقة.
من هذه الآيات 461 آية تذكر الكرة الأرضية لوصفها ككل أو لوصف قشرتها الصخرية الخارجية أو التربة الواقعة فوق تلك القشرة، أما الآيات التي لها مدلول جيولوجي فهي أكثر من 110 آيات، ويمكن تقسيمها إلى 11 مجموعة:
1 – آية واحدة تأمر الناس بالسير في الأرض والملاحظة والقيام بالاستنباط من خلال ملاحظاته عن أصل الخلق: “قُلْ سِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَانْظُرُوْا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر” (العنكبوت:2)
2 – مجموعة من الآيات التي تشير إلى شكل الأرض (الرعد:31، الحجر: 19، الشعراء: 28، الزمر: 5، ق: 7، الرحمن: 17، الطلاق:12، الملك: 15، المعارج:40،41) وحركاتها: (الأنبياء: 33، يس: 40، النمل: 88، الرعد:3، الشمس: 1-4، الليل: 1-2، يونس: 67، النبأ: 10-11، النمل: 61-63، آل عمران: 27، العنكبوت: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6، يس: 37، البقرة: 164، آل عمران: 190، يونس: 67، المؤمنون: 80، الجاثية: 5، إبراهيم: 33) وأصلها: (الأنبياء:30)، حيث توصف السماوات والأرض بوضوح بأنهما كانتا وحدة واحدة في الماضي البعيد حتى فتقهما الله عز وجل (وهذا ما يوصف بنظرية الـ BIG BANG (الانفجار العظيم) الحالية لتكوين الكون، تتضمن هذه المجموعة أيضًا آيات تشير إلى مواقع النجوم المتباعدة (الواقعة: 75،76) وطبيعة الكون الدائم التمدد (الذاريات: 47) وطبيعة السماء المدخنة في أول خلقها (فصلت: 11،12) ووجود مادة ما بين النجوم (المائدة: 17،18)، الحجر:85، طه: 6، الأنبياء: 16، الفرقان: 59، الشعراء: 24، الروم:8، السجدة:4، الصافات:5، ص:10،27،66، الزخرف:85، الدخان:7،38، الأحقاف: 3، ق:38، النبأ: 37) وطبيعة الكون (الملك:3، نوح:15، الطلاق:12).
3- آية واحدة تقرر أن الحديد أنزل إلينا، وتقرر بالتالي مصدره الكائن خارج الكرة الأرضية (الحديد:25).
4- آية واحدة تصف الأرض بأنها متصدعة (الطارق:12).
5- مجموعة من الآيات تصف بعض الظواهر البحرية المكتشفة حديثًا:
أ- الطبيعة المتوهجة لقيعان بعض البحار والمحيطات والتي تصف نشاطًا بركانيًّا تحت بحري شديدًا مما يؤدي إلى تمدد قاع البحر (الطور: 6)
ب- الفصل التام بين المياه المختلفة مثل المياه المالحة والمياه العذبة، أو بين المياه المالحة ذات المكونات المختلفة بعضها عن بعض التي لا تختلط بتاتًا أو مباشرة بسبب وجود دائم لسدود بينهما لا يمكن اجتيازها (الفرقان: 53، الرحمن:19-20).
ج- الظلام الدامس الكائن في أعمق أعماق المحيطات بسبب التيارات العميقة تعلوها التيارات السطحية تعلوها السحب (النور:40).
6- آية تصف الجبال بأنها أوتاد (النبأ: 7) مشيرة إلى الحجم الأصغر الكائن فوق سطح الأرض مقارنة بالجزء الأكبر منها المدفون تحت سطح الأرض كالجذور ودورها في تثبيت القارات والكرة الأرضية ككل.
يؤكد هذا الدور للجبال عشرة آيات أخرى التي تصف أدوارًا أخرى للجبال كدورها في تكثيف البخار إلى مطر وفي تكوين منابع الأنهار (الرعد: 3، الحجر:19، النحل: 15، الأنبياء:31، النمل:61، لقمان:10، ق:7، المرسلات:27، النازعات:32) في سورة الغاشية آية 19 يحض القرآن الكريم الإنسان على ملاحظة كيفية انتصاب الجبال لكي تقف فوق سطح الأرض، أدت هذه الملاحظة إلى تكوين نظرية التضاغطية (وهي الخضوع لضغط متساوٍ من جميع الجهات) والتي يفسر بها انتصاب الجبال والمرتفعات الأرضية الأخرى فوق سطح الأرض.
أما في آية 27 من سورة فاطر فيصف القرآن الكريم الجبال بأنها مكونة من أجزاء بيضاء وحمراء تتباين درجات ألوانها وأخرى شديدة السواد.
تشير هذه الآية بشكل صريح إلى الجبال الحمضية التي يغلب على تكوينها الجرانيت الذي يظهر في جميع درجات اللونين الأبيض والأحمر، والجبال القلوية وفوق القلوية التي يغلب على تكوينها البازلت والجابرو بالإضافة إلى معادن حديد المغنيسيوم السوداء اللون، كل من هذه المجموعات الصخرية الأولية الرئيسية لها تكونيها الكيميائي والمعدني الخاص بها بالإضافة إلى درجة الحرارة أيضًا في نتاجها الثانوي والثالثي من الصخور الرسوبية والمتحولة وبالتالي تظهر أهمية هذه الألوان الثلاثة (الأبيض والأحمر والأسود) في تصنيف الصخور البركانية ومشتقاتها.
7 – مجموعة من الآيات تركز على الغلافين المائي والجوي للكرة الأرضية اللذين يذكر القرآن الكريم بشكل واضح أنهما أخرجا من الكرة الأرضية (النازعات:30–31) وهي حقيقة لم يكتشفها العلم إلا قريبًا.
آيات أخرى في هذه المجموعة تذكر خاصية الغلاف الجوي في حماية الحياة على وجه الأرض (الأنبياء:32، الطارق:11) وطبيعة الفضاء الخارجي الدامس الظلام (الحجر:14-15) وانخفاض الضغط الجوي مع الصعود (الأنعام: 125) والطبيعة المتوهجة لليالي في أول الخلق قبل تكوين الأغلفة الجوية الواقية للكرة الأرضية (الإسراء:12).
8- مجموعة من الآيات تصف رقة القشرة الأرضية (نوح: 19) والتسوية والتعرية المستمرة التي يتعرض لها سطح الأرض، والتغيير التدريجي للأبعاد الجغرافية للقارات، وحتى عملية الانكماش التي تتعرض لها الكرة الأرضية ككل بالإضافة إلى تشويه سطحها (الرعد:41، الأنبياء: 44، النبأ:6).
9- آيات تؤكد أن أصل المياه الجوفية من الأمطار مشيرة إلى الدورة المائية الجيولوجية (الحجر:22، الحج:5)، وأخرى تربط بين الحياة على الأرض والماء (الأنبياء:30، النور: 45)، وأخرى تشير إلى إمكانية تصنيف أنواع الحياة على الأرض (الأنعام:38).
10- آيات تؤكد أن عملية الخلق حدثت على فترات زمنية طويلة وفي مراحل متتالية (فصلت: 9-12، السجدة:5).
11- آيتان تصفان نهاية كوكبنا والكون كله عن طريق انعكاس عملية الخلق أو ما يسمى علميًّا بالـ Big Crunsh أو (السحق الكبير) (الأنبياء: 104) ثم خلق الكون الأبدي بعد ذلك (إبراهيم:48).
لم يكن هذا العلم متوفرًا قبل بداية القرن الماضي، ولم نبدأ في فهم إلا القليل من الملاحظات العلمية عن طريق تحليل دقيق لها.
تشير أسبقية القرآن الكريم إلى هذا العلم الدقيق الشامل إلى واحد فقط من دلائل الإعجاز لهذا الكتاب الكريم والذي يمثل آخر رسالة إلهية للبشرية والرسالة الوحيدة التي تم الحفاظ عليها في نفس لغة الوحي كلمة كلمة وحرفًا حرفًا لأكثر من 14 قرنًا من الزمان.
يتضح من المناقشة السابقة أن الآيات القرآنية التي لها إشارات جيولوجية تزيد عن 110 آيات وتحتاج إلى كتب ضخمة لشرحها، وبالتالي نركز في المقالات القادمة فقط على بعض هذه الآيات التي تمثل معلومات ومفاهيم مؤكدة في مجال علوم الأرض ونذكرها فقط كأمثلة للطبيعة الإعجازية للقرآن الكريم.
أحميدة النيفر
لا غرابة أن يكون معنى التسامح في المعجم العربي بمعنى السماحة والجود والكرم فمعناه أن تتغاضى عن خطأ غيرك، أو تتساهل في حق، أو تصبر على إساءة ما. بينما المفهوم نفسه في لغات أخرى مثل الفرنسية يحمل دلالة أوسع.
لكن ما يؤكده الاستعمال الفرنسي من معنى المساواة لم يكن هو الطابع «الأصلي» الذي ميّز عبارة (Tolérance) التي أصبحت تفيد قبول التفكير والسلوك المغايرين لما عليه عموم الناس. ما يعبر عنه معجم روبير الفرنسي يتعلق بما انتهت إليه هذه العبارة بعد أطوار وتحولات بدأت منذ القرن السابع عشر إلى القرن العشرين. لقد شحنت الكلمة بمضامين جديدة فتجاوز التسامح المجال الفردي والتطوعي ليصبح دالاً على طاقة المجتمع وقدرته على استيعاب الاختلاف والمعارضة واحترامهما. مثل هذا المعنى ليس «أصلياً» ودائماً من ثم فإننا نجد في المعجم الفرنسي معاني عدة للكلمة نفسها كالتفهّم والتساهل والإحجام عن المنع. لكن المعجم يؤكد أن ما بلغته هذه العبارة من دلالة عن احترام حرية الآخر في معتقداته الدينية أو أفكاره الفلسفية أو آرائه السياسية إنما تحقق في فترة متأخرة.
فاللغات ومنها اللغة الفرنسية أو أي لغة أخرى لها تاريخ وصيرورة والعبارات المتصلة بالجوانب الحضارية والفكرية والاجتماعية تعكس تلك الصيرورة. وهذا يثير مسألة المعاجم عندنا. ففي العربية لا نملك إلى الآن معجماً تاريخياً شاملاً، ولقد حاول ذلك المستشرق الألماني فيشر Fisher لكنه توفي قبل أن ينظم كامل المواد التي جمعها. ما أقصده هو أن المعجم التاريخي يدعّم وعينا بمدى التحوّل الذي شمل اللغة والفكر في آن واحد فهو من هذه الناحية عنصر يساعد على إدراك طبيعة الموقع الذي تحتله أمة ما مقارنة بما كانت عليه في أطوار سابقة ومقارنة بما بلغته الأوضاع نفسها لدى أمة أخرى.
من جهة أخرى فإن البحث عن مفهوم التسامح في المعجم العربي لا ينبغي أن يتوقف عند مادة (س م ح) بل يحتاج أن يشمل مادة (ع ف و) أو مادة (د ر أ) وما حفّ بالتسامح والعفو والصبر من عبارات مصاحبة ورديفة حتى نتمكّن من تحديد خصوصية المفهوم في اللغة العربية. مع هذا فإن البحث اللغوي – الفكري ينتهي إلى أن عبارة التسامح في اللغة العربية ما تزال دالة على سلوك ذاتي واختياري فهي بذلك لا تشمل قبول المساواة التامة بين حقوق الطرف الغالب والأطراف الأخرى. إنها بذلك بعيدة من أن تكون أساساً للتنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمع.
لكن هذه الخصوصية لا تتصل بأي صورة بخصوصيات «عرقية» إذ إن الاستناد إلى مثل هذه النظريات العرقية قد وقع تجاوزه علمياً، ولقد بات من اليقيني أن الثقافة هي التي تصنع العرق وليس العرق هو الذي يصنع الثقافة، ومن ثم فإن ما نعالجه من قضية اللاتسامح في مجتمعات عربية إسلامية يعود إلى ظاهرة التمركز الثقافي في ذلك الفضاء، فهي التي تحول دون بلوغ حدّ التكافؤ بين الذات والآخر. هذا مع العلم أن التمركز ليس خاصية عربية وان الفرنسيين وغيرهم على رغم التحولات المهمة في هذا الموضوع يدركون أن أنساقهم الثقافية ورؤيتهم لذواتهم ولغيرهم لا تزال محمّلة بمعانٍ ثقافية ضاربة في القدم وفي اللاتكافؤ.
لذلك فإن السؤال عن شكل التسامح الذي تفصح عنه آيات القرآن الكريم يثير من جهة أولى مضمون التسامح في الخطاب القرآني أي أن المطلوب هو قراءة المسألة وتأصيلها في ضوء ما بلغه الفكر المعاصر من قيم التنظيم الاجتماعي والسياسي. من جهة ثانية يتناول السؤال المنهجَ الذي ينبغي أن يُعتمد اليوم في دراسة المفاهيم القرآنية وما يمكن أن يفضي إليه هذا المنهج من مراجعات لمعنى قدسية النص القرآني.
إن بدأنا بجانب المضمون فإن عبارة التسامح لا ترد في القرآن الكريم. لكنها تتوافر ضمن حقل دلالي تحدده عبارات أخرى مثل «العفو» و”الإكراه” و”التذكير” وما اتصل بمجال الإيمان والكفر. تتقاطع ضمن هذا الحقل جملة من الدوائر مجسّدة قيمة جديدة بالنسبة إلى مجتمعات قديمة كانت لا تفصل بين التدين والروابط الاجتماعية المقيدة قاصرة مفهوم الإنسان على فرديّة آسرة وعشائرية طاغية.
لقد كان مبدأ «لا إكراه في الدين» خطوة جديدة تحدى بها الخطاب القرآني النسق الثقافي السائد سواء أكان متمثلاً في الوثنية أم في النصرانية أم في اليهودية أم في غير ذلك. نجد أساس التسامح متعلقاً بالأفراد وبالجماعات متمركزاً في قضية «الحق» ضمن البنية القرآنية: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». تتدعم قيمة التسامح في دوائر أخرى مثل قوله تعالى: «ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار» أو قوله: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً». أما في جانب العلاقات بين المجموعات فالآيات التي تؤكد على مساواة الناس أياً كانت معتقداتهم لافتة للنظر.
هناك إقرار بمبدأ التعددية: «وإن من أمة إلا خلا فيها نذير» أو قوله: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». هذه الدوائر تثبت أن الإيمان واتباع الحق لا ينفصل عن الصيرورة التاريخية. في هذا التركيز على تعدّد الرسالات الإلهية دعوة لتجنب الحصرية وروح الطائفية. يتأكد هذا من خلال آيتين مدنيتين :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون».
– «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون».
لذلك فإن الإقرار بمبدأ تعدد الرسالات الإلهية التي ُتختَم برسالة محمد (صلى الله عليه وسلّم) يفضي إلى أن الخطاب القرآني جعل معاييرَ لحقية أة رسالة: إنها الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح.
آية مدنية ثالثة تؤكد هذا التوجه: «ليس بأمانيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب من يعملْ سوءاً يجزَ به ولا يجدْ له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعملْ من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً».
لقد عالج القرآن الكريم مسألة التسامح معالجة متأنية وواضحة في المرحلة المدنية وذلك بمواجهة «الحصرية» المتربصة بالرسالات السابقة وبعقيدة التوحيد بخاصة مما يؤول إلى نوع من انحسار الرحمة في حدود ضيقة. «التسامح القرآني» يبرز من خلال مقاومة «الحصرية» التي تجعل أن ليس هناك خلاص لأحد خارج هذه الملة أو تلك.
لكن المسألة تبرز أيضاً في الجزء المكّي من القرآن الكريم. في هذا المجال نجد أن هذه المرحلة أسست لقيمة التسامح من مداخل عقدية مختلفة. هذه المسالك تتناسب والوضع التاريخي الذي كانت تعيشه الجماعة المؤمنة الأولى ونوع التحديات التي تواجهها من جهة وطبيعة التحديات التي تنتظرها في مستقبلها من جهة ثانية. لذلك فإن الحقل الذي استُنبتت فيه هذه القيمة الجديدة في هذا الطور من الخطاب القرآني ينبغي أن يُسعى إليه في الآيات المتحدثة عن «آدم» وعن مواجهة أبنيه. ضمن هذه الدوائر المكية للخطاب القرآني وُضِع أساس للمساواة من خلال الأصل الجامع في بعده الانطولوجي المتعلق بطبيعة تحقق المعقول في وجود الإنسان في اعتباره فاعل ذاته.
يبقى – نتيجة لما ذكرته – الجانب المنهجي المتصل بالتمشي الذي ينبغي أن يعتمد في معالجة هذه القضية وغيرها لتحديد طبيعة الخطاب القرآني. نكتفي بالقول إن المنهج التزامني Synchronique مهمّ لأنه يولي أهمية كبرى للشروط الثقافية والفكرية الخاصة بتلك اللغة في فترة زمنية محددة. إنه يتيح بمعالجة متعيّنة تاريخياً التوصّل إلى ضبط أوّلي للمفهوم الذي يراد تحديده. لكن المنهج التعاقبي Diachronique قادر أن يكشف من خلال التفاته لتطور مفهوم ما وتواصل دلالته أو تغيرها عبر فترات مختلفة إلى نتائج في غاية الأهمية.
فيمكن أن نقول في كلمة بأن الغلو والتكفير ظواهر تاريخية قابلة للتجدد لكنها محكومة برؤية يظن البعض أنها من جوهر الدين في حين أن الإيمان هو طريق مميزة للقاء بالله لكن العقائد والفهوم التي نؤسس عليها إيماننا لا يمكن أن تستنفد غنى كلام الله وعلمه ورحمته. لذلك فإن ذلك الإيمان نفسه يفترض الإقرار بحق الاختلاف في الفهم والرؤيا والتأويل.