X
  • Living Shari`ah
  • Art & Culture
  • Ask About Islam
  • Discover Islam
  • Family
  • Health & Science
  • عربي
Logo

ارشيف - إسلام أون لاين

Archive - islamonline

Logo islamonline

إسلام أون لاين

ISLAM ONLINE

كل ما كتبه arabic_user

رسالة إلى أبي..
    8 September، 2016
سليمان القانوني.. وعصر القيادة والريادة
    21 April، 2016
تخصيص يوم للاجتماع على قيام الليل
    21 February، 2016
متى فرض الحج إلى بيت الله الحرام ؟
    4 April، 2015
المفكر المغربي محمد عابد الجابري: السلفية في طريق النهضة.. مشكل أم حل؟
    18 October، 2014
كم مرة حج الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
    8 September، 2014
ماهي المواقيت المكانية للحج والعمرة ؟
    4 September، 2014
الحج وتكفير الذنوب
    22 August، 2014
مبطلات الصيام
    3 July، 2014
الشذوذ الجنسي.. أمراض وعلاج
    9 November، 2011
الأمة بين الاختلاف المحمود والتفرق المذمومً
    22 February، 2011
ابن الهيثم.. عبقري في ثوب الجنون (في ذكرى مرور 992 سنة على وفاته)
    22 October، 2010
(ذكرى وفاة عثمان بن عفان: صاحب الجمع العثماني) جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق
    22 October، 2010
ابن الأثير.. صاحب “الكامل” في التاريخ (في ذكرى ميلاده: 4 من جمادى الأولى 555هـ)
    20 October، 2010
أهداف الزكاة وآثارها
    12 October، 2010
عبد الحليم محمود.. مواقف شيخ أزهر (في ذكرى مولده: 2 من جمادى الأولى 1328هـ)
    12 October، 2010
أبو بكر.. رقة بغير ضعف (بمناسبة ذكرى وفاته: 21 من جمادى الآخرة 13هـ)
    11 October، 2010
نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ التعريف بظاهرة الاستنساخ ومداراتها
    11 October، 2010
نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ الأحكام الشرعية للاستنساخ
    11 October، 2010
نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري
    11 October، 2010
/نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري

نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري

يمان أفندي – 22 – سوريا

 

أبي..

كلمة نُقشت في التاريخ… إن لم يكن في تاريخ الإنسانية، فهو في تاريخي أنا كجزء من هذه الإنسانية، ولعله تاريخ ضئيل ما تجاوز العقد الثاني إلا بصفحات، ولكن كلمة خالدة كهذه تستحق التسطير بها.. بل تاريخي هو من ازدان بمثل هذه الكلمة. كلمةٌ توجز لك معاني الحب والدفء والأبوة، كلمة لصيقة باسمي لأستوحي منها القوة والثبات، فإذا ما حرّكتُ بها شفتاي نطقتها بغير ما تنطق به الكلمات، أقولها: “أنا ابنة أبي”، فأشعر أني غارقة في بحر هذه الأبوة، “أبي” التي أحملها في تاريخي المتواضع ما لا يحمله غيري، فشتان بين حب تجبله الفطرة، وحب “تجبله” الفؤاد والفطرة، نعم يا “أبي”.. فأنا مجبولةٌ على حبك، مجبولة بكل ما أراه منك وما لا أراه، مجبولة بكلمة أنطقها فكيف بمن هو حقيقة “أبي”..!

أبي الحبيب..

ها هو قلمي قد انثنى وتذلَّل، لا يعرف سوى أن يطيش باسمك كيفما كان، تراه يبدي ويعير، ولكن تخذله الاستعارة أبدًا، فيظهر ما في قلبي ضئيلاً أمام حبك وحنانك الأعظم..

أرأيت يا “أبي” “للجبل” وقساوته؟ أرأيته كيف يصمد كيف يجلد؟..

أرأيته بحلته البيضاء تكسو رأسه فتخفي بياضًا آخر في سريرته؟..

أرأيته كيف يزداد ارتفاعًا فيزداد مهابةً؟ وهو مع مهابته ترتاح الناس لرؤيته..

أرأيته كيف يمد أياديه أسفل الوادي فيُلهم من حوله الثبات والحلم؟

أما وإني يا أبي قد رأيت أعجب من هذا.. رأيتكَ تجمع همَّ الجبال وهمَّ الأبوة، تلك الأبوة المضاعفة التي تحملها، فتحمل في قلبك مجموع ما نحمله جميعًا في قلوبنا؛ ولذلك ترانا نحيا بنبضك، وبجسور حبك أضحينا شبابًا تفتخر بهم، فإن مالك الشيء يعطي ما لا يعطيه فاقده.. بل إن حنانك لم يكن يومًا مُلكًا إنما هو مَلكة وخُلة، فإنه لو كان مُلكًا لانتهى حقيقةً، ولكنه لا ينتهي..

أبي الحبيب..

نَغَم الطفولة يسيغ لي دومًا التلذذ بالضحكِ والقفز حولك.. فاعذرني اليوم إن تمايلت طربًا بحبك.. واعذرني إن كانت الكلمات لم تفِ بالتعبير، فإن ما كان في القلب لا تستقطبه الشفاه، وإنما هي لغة القلوب فحسب..

والسلام على أغلى ما نظرتْ عيناي..

لا حرمني الله دفء النظر إليك..

ابنتك الحبيبة…


النقد والتعليق:

أهلاً بك يا “يمان” صديقة دائمة تثري النادي بأعمالها الإبداعية المتوالية، هدفك نبيل وغايتك راقية، ولكن ليت نبل الهدف ورقي الغاية كافيان لصناعة العمل المتميز.

الموضوع الذي كتبت حوله غاية في العذوبة والرقة والإنسانية، وهو من الموضوعات التي تتسرب إلى النفس بتؤدة وهدوء، فتؤثر فيها وتمتلكها ببساطة؛ لأنها تخاطب في النفس فطرتها النقية، وعواطفها الشفافة البريئة.. حب الأب والإفضاء إليه بهذه العاطفة.. قليل من يفعل ذلك.. قليل من يكتب لأبيه؛ فالأم في آدابنا تأخذ نصيبًا حقيقيًّا وافرًا من الأعمال.. ولكن الأب يقل الاهتمام به وبمناجاته، والحديث حوله في آدابنا، وهذا ليس في الأدب العربي فحسب، ولكن في الآداب العالمية -على قدر معرفتي-، والفتيات بصفة خاصة أميل إلى التعلق بآبائهم وحرارة عاطفتهم تجاههم.

كل هذا جميل وعذب ومحلق، لكن في العمل الذي بين أيدينا.. غلبت أفكارُك عاطفتَك يا يمان، فجاء العمل ينزع إلى الرؤية الفلسفية التأملية، لا غبار عليها، لكن المشكلة الحقيقية أن القصة التي تعتمد على التأمل والفلسفة تحتاج إلى قلم خبير وشخصية مجربة.. وعمر أكبر من عمرك يا (يمان)؛ لذا فقد جاءت القصة وبها قدر من اضطراب الأفكار، وتعقيد الصياغة، بما جعل القارئ يعاني -كثير معاناة- في استمتاعه بالقراءة وتواصله مع العمل؛ فالقلم في يديك لم يكن بانطلاقه وتدفقه الذي عهدناه في كتابتك السابقة؛ لأن العقل لم يساعده، وإنما وقف أمامه وعرقله عن مهمته، بينما نجد أن عاطفتك حين تسوق قلمك فإنه يتدفق وتنهمر منه الجمل والكلمات سلسة ورشيقة.

ولو راجعتِ مقدمة القصة حتى كلمة (القوة والثبات) فستشعرين أنها مقدمة عقلية ذهنية تقترب من المقال كثيرًا، ولو راجعت عملك في ضوء هذه الإشارة لوجدتِ أعمالاً كثيرة منطقية ومحكمة عقليًّا، لكنها لم تصف جديدًا.. “مالك الشيء يعطي ما لا يعطيه فاقده”، وهذه مسلّمة مثل أن “الشمس تشرق من الشرق”.. وجمل مثل “فشتان بين حب تجبله الفطرة وحب تجبله الفؤاد والقطرة..”، مجبولة بكل ما أراه منك ولا أراه.. مجبولة بكلمة أنطقها فكيف بمن هو حقيقة أبي..

فعذرًا يا يمان إن كنا أثقلنا، لكنني واثق أن هذا سيدفعك لمزيد من الاتفاق والحرفية، خاصة أن لديك جملاً وفقرات عذبة ورشيقة، منها صورة الجبل التي رسمتها في منتصف العمل، وكيف يجمع المتناقضات.. “المهابة” و”ارتياح الناس” وهذه إشارة رائعة للأب، وكذلك الدفء الذي شاع في آخر العمل في جملة (نغم الطفولة…).

فأنت قادرة -بإذن الله- على صنع الأعمال القيمة الراقية، فلا تقعي في ملف الاستسهال و”التسرع”، وعليك بالدأب والتأني..

وفي انتظار الجديد من أعمالك.

(في ذكرى فكه حصار فيينا: 20 من صفر 937هـ)

أحمد تمام

سليمان القانوني صاحب العهد الذهبي للعثمانيين
سليمان القانوني صاحب العهد الذهبي للعثمانيين

ثمانية وأربعون عامًا قضاها السلطان سليمان القانوني على قمة السلطة في دولة الخلافة العثمانية، بلغت في أثنائها قمة درجات القوة والسلطان؛ حيث اتسعت أرجاؤها على نحو لم تشهده من قبل، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث، وامتدت هيبتها فشملت العالم كله، وصارت سيدة العالم يخطب ودها الدول والممالك، وارتقت فيها النظم والقوانين التي تسيّر الحياة في دقة ونظام، دون أن تخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم، وارتقت فيها الفنون والآداب، وازدهرت العمارة والبناء.

تولى السلطان سليمان القانوني بعد موت والده السلطان سليم الأول  في (9 من شوال سنة 926 هـ= 22 من سبتمبر 1520م)، وبدأ في مباشرة أمور الدولة، وتوجيه سياستها. والأعمال التي أنجزها السلطان في فترة حكمه كثيرة وذات شأن في حياة الدولة، وسنحاول الإلمام بها، جاهدين في إبراز صورة الدولة على نحو لا يخل بملامحها العامة، وقسماتها المميزة.

في الفترة الأولى من حكمه نجح في بسط هيبة الدولة والضرب على أيدي الخارجين عليها من الولاة الطامحين إلى الاستقلال، معتقدين أن صغر سن السلطان الذي كان في السادسة والعشرين من عمره فرصة سانحة لتحقيق أحلامهم، لكن فاجأتهم عزيمة السلطان القوية التي لا تلين، فقضى على تمرد “جان بردي الغزالي” في الشام، و”أحمد باشا” في مصر، و”قلندر جلبي” في منطقتي قونيه ومرعش، وكان شيعيًا جمع حوله نحو ثلاثين ألفًا من الأتباع للثورة على الدولة.

ميادين الجهاد

تعددت ميادين الجهاد التي تحركت فيها الفتوحات الإسلامية في عهد سليمان فشملت أوروبا وآسيا وأفريقيا، فاستولى على بلجراد سنة (927 هـ= 1521م)، وحاصر فيينا سنة (935 هـ= 1529م) لكنه لم يفلح في فتحها، وأعاد الكَرّة مرة أخرى، ولم يكن نصيبها أفضل من الأولى، وضم إلى دولته أجزاء من المجر بما فيها عاصمتها “بودا”، وجعلها ولاية عثمانية.

وفي آسيا قام السلطان سليمان بثلاث حملات كبرى ضد الدولة الصفوية، ابتدأت من سنة (941 هـ= 1534م) وهي الحملة الأولى التي نجحت في ضم العراق إلى كنف الدولة العثمانية.

وفي الحملة الثانية سنة (955هـ= 1548م) أضيف إلى أملاك الدولة “تبريز”، وقلعتا: وان وأريوان.

وأما الحملة الثالثة فقد كانت سنة (962هـ = 1555م) وأجبرت الشاه “طهماسب” على الصلح وأحقية العثمانيين في كل من أريوان وتبريز وشرق الأناضول.

وواجه العثمانيون نفوذ البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، فاستولى “أويس باشا” والي اليمن على قلعة تعز سنة (953هـ= 1546م)، ودخلت عُمان وقطر والبحر في طاعة الدولة العثمانية، وأدت هذه السياسة إلى الحد من نفوذ البرتغاليين في المياه الإسلامية.

وفي إفريقيا، دخلت ليبيا والقسم الأعظم من تونس، وإريتريا، وجيبوتي والصومال، ضمن نفوذ الدولة العثمانية.

البحرية العثمانية

خير الدين بارباروسا قائد بحري عثماني

كانت البحرية العثمانية قد نمت نموًا كبيرًا منذ أيام السلطان بايزيد الثاني، وأصبحت مسئولة عن حماية مياه البحار التي تطل عليها الدولة، وفي عهد سليمان ازدادت قوة البحرية على نحو لم تشهده من قبل بانضمام “خير الدين برباروسا “، وكان يقود أسطولاً قويًا يهاجم به سواحل إسبانيا والسفن الصليبية في البحر المتوسط، وبعد انضمامه إلى الدولة منحه السلطان لقب “قبودان”.

وقد قام خير الدين -بفضل المساعدات التي كان يتلقاها من السلطان سليمان القانوني- بضرب السواحل الإسبانية، وإنقاذ آلاف من المسلمين في إسبانيا، فقام في سنة (935 هـ= 1529م) بسبع رحلات إلى السواحل الإسبانية لنقل سبعين ألف مسلم من قبضة الحكومة الإسبانية.

وقد وكل السلطان إلى خير الدين قيادة الحملات البحرية في غرب البحر المتوسط، وحاولت إسبانيا أن تقضي على أسطوله، لكنها تخفق في كل مرة وتتكبد خسائر فادحة، ولعل أقسى هزائمها كانت معركة بروزة سنة (945 هـ= 1538م).

وقد انضم أسطول خير الدين إلى الأسطول الفرنسي في حربه مع الهابسيورج، وساعد الفرنسيين في استعادة مدينة نيس (950 هـ= 1543م).

واتسع نطاق عمل الأسطول العثماني فشمل البحر الأحمر، حيث استولى العثمانيون على سواكن ومصوع، وأخرج البرتغاليين من مياه البحر الأحمر، واستولى العثمانيون على سواحل الحبشة؛ مما أدى إلى انتعاش حركة التجارة بين آسيا والغرب عن طريق البلاد الإسلامية.

النواحي الحضارية

جامع السليمانية

كان السلطان سليمان القانوني شاعرًا له ذوق فني رفيع، وخطاطًا يجيد الكتابة، وملمًا بعدد من اللغات الشرقية من بينها العربية، وكان له بصر بالأحجار الكريمة، مغرمًا بالبناء والتشييد، فظهر أثر ذلك في دولته، فأنفق في سخاء على المنشآت الكبرى فشيد المعاقل والحصون في رودس وبلجراد وبودا، وأنشأ المساجد والصهاريج والقناطر في شتى أنحاء الدولة، وبخاصة في مكة وبغداد ودمشق، غير ما أنشأه في عاصمته من روائع العمارة.

وظهر في عصره أشهر المهندسين المعماريين في التاريخ الإسلامي وهو سنان باشا ، الذي اشترك في الحملات العثمانية، واطلع على كثير من الطرز المعمارية حتى استقام له أسلوب خاص، ويعد جامع السليمانية الذي بناه للسلطان سليمان في سنة (964هـ= 1557م) من أشهر الأعمال المعمارية في التاريخ الإسلامي.

وفي عهده وصل فن المنمنمات العثمانية إلى أوجه. وقد قدّم “عارفي” وثائق الحوادث السياسية والاجتماعية التي جرت في عصر سليمان القانوني في منمنمات زاهية، ولمع في هذا العصر عدد من الخطاطين العظام يأتي في مقدمتهم: حسن أفندي جلبي القره حصاري الذي كتب خطوط جامع السليمانية، وأستاذه أحمد بن قره حصاري، وله مصحف بخطه، يعد من روائع الخط العربي والفن الرفيع، وهو محفوظ بمتحف “طوبي قابي”.

وظهر في عهد السلطان سليمان عدد من العلماء، في مقدمتهم: أبو السعود أفندي صاحب التفسير المعروف باسم “إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم”.

غير أن الذي اشتهر به واقترن باسمه هو وضعه للقوانين التي تنظم الحياة في دولته الكبيرة.. هذه القوانين وضعها مع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، وراعى فيها الظروف الخاصة لأقطار دولته، وحرص على أن تتفق مع الشريعة الإسلامية والقواعد العرفية، وقد ظلت هذه القوانين التي عرفت باسم “قانون نامه سلطان سليمان” أي دستور السلطان سليمان تطبق حتى مطلع القرن الثالث عشر الهجري- التاسع عشر الميلادي.

ولم يطلق الشعب على السلطان سليمان لقب القانوني لوضعه القوانين، وإنما لتطبيقه هذه القوانين بعدالة، ولهذا يعد العثمانيون الألقاب التي أطلقها الأوروبيون على سليمان في عصره مثل: الكبير، والعظيم قليلة الأهمية والأثر إذا ما قورنت بلقب “القانوني” الذي يمثّل العدالة.

ولم يكن عهد القانوني العهد الذي بلغت فيه الدولة أقصى حدود لها من الاتساع، وإنما هو العهد الذي تمت فيه إدارة أعظم دولة بأرقى نظام إداري.

وتوفي السلطان وهو يحاصر مدينة سيكتوار البحرية في (20 من صفر 974 هـ= 5 من سبتمبر 1566م).

هوامش ومصادر:

  • يلماز أورزتونا ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ منشورات مؤسسة فيصل للتمويل ـ إستانبول ـ 1988.
  • عبد العزيز محمد الشناوي ـ الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها ـ مكتبة الأنجلو ـ القاهرة ـ 1986م.
  • محمد فريد بك ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية ـ تحقيق إحسان حقي ـ دار النفائس ـ بيروت ـ 1403 هـ: 1983م.
  • علي حسون ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ 1415 هـ: 1994م.
  • محمد حرب ـ العثمانيون في التاريخ والحضارة ـ المركز المصري للدراسات العثمانية ـ القاهرة ـ 1414 هـ: 1994م.

  باحث مصري في التاريخ والتراث.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

فالاجتماع على الذكر أمر مطلوب شرعا ودلت على ذلك السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما الاجتماع على قيام الليل وتخصيص يوم بعينه للقيام فقد أجازه جمهور الفقهاء خلافا للحنفية، وهذا ما ذكره سماحة المستشار فيصل مولوي -نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء- وإليك نص فتوى فضيلته:

إن الاجتماع على الذكر أمر مطلوب شرعاً والدليل عليه من الكتاب والسنة أكثر من أن يعد. والإمام النووي رحمه الله عقد فصلاً في (رياض الصالحين) بعنوان (فضل حلق الذكر). وذكر فيه أربعة أحاديث كلها من رواية البخاري ومسلم منها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله….إلى أن قال: أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة) رواه مسلم.
وهذا رد واضح على من يزعم أن الاجتماع على ذكر الله بدعة.

أما التجمع لصلاة القيام في غير رمضان فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي رواية ابن مسعود قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه) متفق عليه. ومثل ذلك ما رواه حذيفة قال: (صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة…) ثم وصف بقية صلاته. رواه مسلم. فكيف يقال: إنه بدعة؟

أما تحديد يوم للقيام فهو، وإن لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه يوافق سنته في التشجيع على قيام الليل، فلا يمكن اعتباره بدعة طالما أن له أصلاً في الدين، وقد أجازه جمهور العلماء، وما منعه إلا الحنفية.

وهؤلاء الذين عابوا عليكم هذا الفعل، الأولى أن يعيبوا على أنفسهم منع الخير الذي تضافرت آيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية على شرعيته.

والله أعلم.
وللمزيد طالع ما يلي:
الذكر في جماعة
الذكر الجماعي وضوابطه

الشيخ فيصل مولوي

قال الشيخ عطية صقر رحمه الله :

الحَجّ إلى مكان مقدّس أمر معروف عند الأمم منذ القِدَم كما قال سبحانه: (لِكُلِّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوه) (سورة الحج : 67) وكما قال (ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا لِيَذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِنْ بَهيمةِ الأنعامِ )   [سورة الحج :34 ]

والحَجّ في جَزيرة العرب عِبادة قديمة ترجع إلى عهد بناء البيت الذي جعله الله أول بيت وضع للناس، والذي رفع قواعدَه أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام، وأمره أن يُسْكِنَ أسرته الصغيرة عنده، وأن يؤذِّن في الناس بالحجِّ استجابة لدعاء ربِّه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليه ويرزُق أهله من الثمرات، وبهذا أصبح الحجّ شريعة متّبعة وموسِمًا حرَص العرب عليه ليشهدوا منافع لهم.

وجاء الإسلام وما يزال الحجُّ تُمارس فيه شعائره القديمة، وكان النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ يشهد الموسم كعادة العرب، وبعد البعثة عرض نفسَه على القبائل الوافدة إلى مكّة يبلغهم الدعوة، وكانت قلّة من المُسلمين تُمارِس الحج كميراث قديم ولم يكن فُرِضَ عليهم كما فُرضت الصّلاة في مكّة حتى هاجروا إلى المدينة وكانت الحروب هي التي حالت دون زيارتهم للبيت الحرام.

لقد قال بعض المؤرخّين للتشريع: إن الحج الذي فرض بقوله تعالى: (وللهِ عَلى النّاس حِجُّ البيتِ مَنِ استَطَاع إليه سَبِيلًا) [ آل عمران : 97] كان في السنة السادسة للهجرة، وعلى أثره قام النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وجماعة معه بالسّفر إلى مكّة لأداء العمرة، فصدّهم المُشركون وكان صلح الحديبية، وقضى الرسول هذه العمرة في السنة التالية.

وقال جماعة: إن الحجّ لم يُفرَض إلا بعد السنة الثامنة، حيث فُتِحَتْ مكة وأمن الطريق الذي لم يكن آمنًا قبل ذلك، وإنّما كان فرضه في السنة التاسعة حيث أوفَد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثة الحج على رأسها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ليؤذِّن في الناس يوم النحر ألا يحج بعد العام مُشْرِك ولا يطوف بالبيت عُريان، وكانت هذه البعثة تمهيدًا لحجّة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجّة الوداع في السنة العاشرة، وهي الحجّة الوحيدة التي حجها كما رواه مسلم وفيها نزلت آية (اليومَ أكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) ]سورة المائدة : 3[ وأشهد الناسَ على أنه بلغ الرّسالة، وأمرَهم أن يبلِّغوها للعالم كلِّه.

حسام تمام

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري

السلفية مشكل أم حل؟ سؤال لم يبرح أذهان كل المسكونين بأسئلة النهضة وهمومها، وهو سؤال فيه من الأهمية ما يفرضه كون معظم الحركات النهضوية في عالمنا العربي أو الإسلامي داعية للسلفية أم معادية لها!

المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري حاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال سلسلة مقالات متفرقة نشرت بملحق وجهات نظرالذي يصدر عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، ضمن سلسلة مقالات مميزة عن قضية ومفهوم الإصلاح.

وقد اخترت أن أعرض لخمسة مقالات يمكن أن تمثل رؤيته لقضية السلفية وموقعها في جدل النهضة.

والجابري غني عن التعريف؛ فقد قدم للمكتبة العربية 30 مؤلفا في قضايا الفكر المعاصر؛ أهمها كتابه الشهير “نقد العقل العربي” الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوربية وشرقية، وهو يعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي الإسلامي بكلية الآداب في جامعة محمد الخامس.

السلفية أم التجربة التاريخية؟

افتتح الجابري النقاش بمقالة تأسيسية (طالع: “السلفية أم التجربة التاريخية للأمة؟ “) توقف فيها أمام السلفية وفعلها في حركة الأمة نحو النهضة ليرصد ويقرر كيف أن جميع الحركات السلفية التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي كانت بمثابة تعبير عن عملية إعادة التوازن الذاتي.. وأن السلفية كانت دائما ذلك الجزء من التجربة التاريخية للإسلام السني الذي تستعيد منه هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار.

فالسلفية -كما يقرر الجابري- نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ.. ومن ثم تتسع -عنده- حمولة مفهوم “السلفي” ليشمل في آن واحد: “محاربة الاستعمار، ومحاربة البدع والتقاليد الاجتماعية (الشعبية)، والدعوة إلى التجديد والتحديث في كل مجال في الفكر والسياسة والاجتماع”.

غير أنه حين يؤكد هذه الحقيقة يتخذها منطلقا يتجاوز به رؤية أنصار السلفية الذين يرونها وجها وحيدا لأي إصلاح أو نهضة؛ فهو يؤكد “أن جميع التيارات السلفية من الحسن البصري إلى محمد بن عبد الوهاب إلى الأفغاني ومحمد عبده إنما كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية للأمة، أحد مظاهرها الإصلاحية، بل أحد مظاهر الإصلاح فيها”، ومن ثم فيجب ألا ينظر إليها كوجه وحيد، ويخرج من ذلك إلى القول بأن “التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية تجربتها الراهنة مع الحضارة المعاصرة لا يكفي فيها استلهام نموذج السلف الصالح وحده. فهذا النموذج إنما كان نموذجا كافيا لنا يوم كان التاريخ هو تاريخنا”.. فالنموذج المنشود “ينبغي ألا يكون من نوع (النموذج السلف) الذي يقدم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته؛ بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضا -ولم لا؟- من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع”.

ويؤسس رؤيته على أن “السلفية كانت كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا قي بيت هو بيتنا وبيت لنا في الوقت نفسه”، أما الآن فلا بد من التعامل بمنطق جديد تفرضه التغيرات “منطق الحضارة المعاصرة، ويتلخص في مبدأين: العقلانية والنظرة النقدية العقلانية في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة؛ للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والأيديولوجيا”.

وعلى هذا فإن منطق “سيرة السلف الصالح” التي تمثل “المدينة الفاضلة” في التجربة التاريخية للأمة كان يقوم على أن الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط وليس عصر علم وتقنية ومصالح وأيديولوجيات وصراعات دولية وطموحات للهيمنة العولمية.

السلفية في سياقاتها التاريخية

الأفغاني.. أول حلقات التجديد والاجتهاد المعاصر

ويتتبع الجابري تجليات السلفية من خلال سياقاتها التاريخية في مقالة ثانية (طالع: “ من الوهابية إلى السلفية الإصلاحية.. إلى الجهادية “)، فيتوقف عند السلفية الوهابية التي تتبنى الفهم السلفي للعقيدة لمواجهة البدع التي تنحرف بها، ثم ينتقل إلى ما يسميه بالسلفية الإصلاحية التي مثلها الأفغاني ومحمد عبده؛ فيرى أنها تواصلت مع سلفية محمد بن عبد الوهاب فيما يخص تصحيح العقيدة، ثم قفزت بها فيما يتعلق بمشروع التقدم والنهضة، ويميز داخلها على مستوى الإستراتيجية بين سلفية الأفغاني التي تعتمد الثورات الجماهيرية وسلفية عبده التي تعتمد الوسائل السلمية ونبذ سياسة العنف واجتناب معاداة الحكام المسلمين، والانصراف بدلا من ذلك إلى تكوين أجيال تحمل الدعوة وتنشر التربية الإسلامية، حتى لو اضطرها ذلك لمهادنة ومداهنة الاحتلال ما دام ذلك يدرأ المفاسد؛ إذ إن سلفية محمد عبده كانت إصلاحية نهضوية ولم تكن ثورية ولا جهادية.

وفي هذا الإطار ينسب الجابري إلى محمد عبده نوعا من اعتماد نمط من الفصل بين الدين والسياسة، قوامه تأجيل العمل السياسي إلى أن يتم تكوين ما يكفي من الرجال تكوينا صحيحا في الدين وغيره من علوم الوقت.

ويرصد الجابري عددا من الحركات ذات الامتداد السلفي لجأت إلى خيار الثورة المسلحة (مثل حركة الأمير عبد القادر في الجزائر، المهدوية في السودان، حركة عمر المختار في ليبيا، ثورة ابن عبد الكريم الخطابي في المغرب…)، ولكنه يؤكد على سمة فارقة غلبت على هذه الحركات؛ هي أنها لم تكن تتحرك في أفق عولمي، بل كانت قُطرية محلية الطابع.

يؤكد أن هذا الملمح كان مما ميز الإسلام السياسي النهضوي؛ فهو نهض لمقاومة الغزو الاستعماري لبلاد الإسلام، معتمدا العمل المباشر قُطريا، ومقتصرا على التضامن المعنوي (وأحيانا المالي) عالميا. كما لم يكن يضع الغرب كله في سلة واحدة؛ بل كان يركز مناهضته -التي كانت قُطرية الطابع- على الدول التي مارست الاستعمار، وأكثر من ذلك استغلاله المنافسة والخلاف بين الدول الاستعمارية، سالكا مسلكا براغماتيا، قوامه عدو عدوي صديقي.

ويخلص الجابري من قراءته لتطور الحركة السلفية والإسلام السياسي المرتبط بها إلى أن الإسلام السياسي المعاصر الذي ينسب إليه ما يعرف اليوم بـ الإرهاب ليس امتدادا للسلفية النهضوية التي حملت مشعل الإصلاح الديني، ورفعت راية مقاومة الاستعمار.. رغم أنه يقع على الخط والمسار نفسيهما.

وينتهي الجابري إلى أن سلفية الأفغاني وعبده النهضوية كانت نقلة نوعية قياسا مع سلفية محمد بن عبد الوهاب. أما السلفية التي تسمي نفسها اليوم بـالسلفية الجهادية فهي نقلة نوعية مغايرة: ترتبط بالوهابية على صعيد السلف؛ فهي من هذه الناحية نكوص بالنسبة للسلفية النهضوية الإصلاحية، ولكنها من ناحية أخرى تجاوز لها من حيث قفزها على القُطرية والوطنية، وتطلعها إلى التحول إلى عولمة مضادة، تجسم ما يسميه بـ النقيض الخارجي للأمركة، للعولمة/ الإمبريالية/ الأمريكية.

وفي مقالته: (طالع:الإخوان المسلمون في مصر.. والسلفية في المغرب ) يتتبع الجابري مسار تطور سلفية محمد عبده؛ فيلحظ أنها أسست -على صعيد الفكر والواقع معا- لتيارين؛ الأول تيار فكري سلفي إصلاحي يستعيد سلفية ابن عبد الوهاب ويتجاوزها على صعيد الانفتاح على العصر، والنزوع نحو التجديد في الدين والفكر واللغة، وهو التيار الذي توطد وتطور في المغرب العربي، خاصة مع كل من الثعالبي ومدرسته في تونس، وابن باديس في الجزائر، ومحمد بن العربي العلوي وتلميذه علال الفاسي بالمغرب. وهذا التيار -الذي يصفه بالمتفتح- هو الذي أسس لقيام أحزاب سياسية وطنية زاوجت بين السلفية والتحديث، وبين الأصالة والمعاصرة، متخذة من الاستعمار الفرنسي خصمها الخارجي الأول، ومن الطرقية وشيوخها المتعاملين مع الاستعمار المكرسين للبدع ومظاهر الانحطاط خصمها الداخلي.

وأما التيار الثاني -وهو المباشر والأساسي- فهو ذلك الذي استمر ينمو وينتشر في المشرق العربي وفي مصر خاصة، عبر رشيد رضا وآخرين، ثم عبر جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين.

في رأي الجابري كان قيام جماعة الإخوان -ظاهريا- تطبيقا للإستراتيجية التي انتهى إليها عبده؛ إستراتيجية التدرج من تكوين مجموعة، تليها مجموعات، تتولى الدعوة للإصلاح والعمل له مع تربية الشعب تربية دينية صحيحة.. لكنها خرجت فعليا على نهجه الذي لم يكن يقصد أن تتحول هذه الجماعات إلى جماعات سرية، وتتطور أحيانا لممارسة العنف. وهو الاتجاه الذي كان عبده قد قطع معه بعد الفشل الذي رآه بأم عينه، سواء في مصير حركة الضابط عرابي الثورية أو في متاهات الحركات السياسية والفكرية المتطاحنة.

وفي رأي الجابري أن أول الاختلافات كان في الرؤية السياسية؛ فرغم أن السياسة كانت حاضرة في إستراتيجية محمد عبده فإن الهدف السياسي الذي قصده منها كان ينحصر في تكوين رأي عام وطني يعرف ما للحكام من حق الطاعة، وما للمحكومين عليهم من حق العدالة. وعلى أساسها يقومون بمراقبتهم وتوجيههم.

وعبده -من هذه الناحية- ينخرط في فضاء فقه السياسة، ولكنه فقه لا يطرح ذلك الشعار الذي طرحته جماعة الإخوان ومن بعدها معظم الجماعات الإسلامية، شعار إقامة الدولة الإسلامية. فالدولة الإسلامية -عنده- كانت قائمة دائما في بلاد الإسلام، ومهمة فقه السياسة وفقه النصيحة هي الدعوة إلى جعل الدولة أقرب ما يمكن من المدينة الفاضلة الإسلامية التي يسودها العمل بالكتاب والسنة، كما كان الحال زمن الخلفاء الراشدين.

والجابري يرى أن جماعة الإخوان ظهرت كتعبير جذري عن الجانب المحافظ في فكر محمد عبده، وبالتالي كانفصال عن سلفيته الإصلاحية وإستراتيجيتها. إذ إنها نقلتها من دعوة إصلاحية مفتوحة تخاطب المسلمين كافة إلى حركة قوامها الدعوة والتنظيم معا، وبالتالي إلى طرف ضد أطراف أخرى في المجتمع، وهو طرف تتحدد هويته بمبدأ واحد هو: الأخوة في الإسلام.

 ويعد هذا ملمحا لاختلاف جماعة الإخوان المسلمين عن سلفية عبده؛ فهي -الجماعة- أقرب لحزب سياسي تتخذ الإسلام (بوصفه عنصرا مقوما لهوية المجتمع ككل) محددا لهويتها هي وحدها كجماعة خاصة داخل المجتمع. وهو ما أدى بها إلى التطور في وضع غير حزبي، وضع لا يعترف بـ الآخرين، ولا يعترف به هؤلاء الآخرون.

 وكانت النتيجة حدوث انفصال واصطدام بين هذه الجماعة والأحزاب الوطنية التي تحدد هويتها الحزبية بغير الدين (وإن كانت لا تقصيه بالضرورة) والتي ترفع شعارات لا تتعارض مع الدين مثل: الحرية، الاستقلال، الجلاء، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، التحديث الاجتماعي، محاربة الاستبداد السياسي والطبقي… إلخ.

أما المسار الذي اتخذته سلفية محمد عبده في المغرب العربي فقد اختلف تماما؛ فقد وقع تبينها وتوظيفها في عملية مؤاخاة كبرى بين جميع فئات المجتمع من أجل حركة وطنية جامعة، هدفها تحقيق الاستقلال وبناء دولة عصرية. ولم يكن لهذه الحركة خصم فعلي أو محتمل غير الاستعمار وعملائه، هو وحده الآخر؛ ولذلك اتخذت قضية التحديث في المغرب العربي مجرى يختلف عن المجرى الذي عرفته في المشرق.

ولم يكن لعبارة الإخوان المسلمين ما يبررها في المغرب العربي؛ لأنه لم تكن هناك أخوة أخرى غير إسلامية فعلية أو محتملة. لم يكن هناك تغاير. ولن يحصل التغاير والتعدد في الأخوة إلا بعد تحقيق الاستقلال، وانقسام رجال الحركة الوطنية إلى محافظين ومجددين، وهذا هو السياق الذي يفسر عدم ظهور فروع لجماعة الإخوان المسلمين في المغرب العربي، وبالتالي تأخر قيام تنظيمات دينية تمارس فيها السياسة بوسائل أخرى. والتي كان ظهورها فيما بعد نوعا من ردود الفعل داخل هذا الحزب الوطني أو ذاك.

السلفية المغربية نموذج مغاير

الإمام محمد عبده

وينتقل الجابري بعد ذلك من المركز إلى الأطراف؛ فيبتعد بنا عن التجربة المصرية السلفية كما قدمها الأفغاني وعبده ومن تلاهما؛ ليعرض في مقالته (طالع: “السلفية الوطنية” في المغرب ) لتجربة سلفية أخرى لها خصوصيتها باعتبارها من تجارب الأطراف، ويقارن بينها وبين التجربة المصرية ليخلص إلى أن أهم ما يميزها هو أنها لم تعانِ من التناقض الذي عانت منه التجارب السلفية الأخرى خاصة المصرية بين الوجهة السلفية والوجهة الحداثية؛ بل قادت هي نفسها معركة التحديث.

فالمغرب -في رأي الجابري- كان دائما يتلقى الأفكار الجديدة والتيارات الأيديولوجية من المشرق، ولكن ما إن يستوطن الوافد من الأفكار والدعوات في أرضه حتى تنزع عنها لباسها “الخلافي” المشرقي لتتكيف مع ظروف المغرب وحاجاته الخاصة فتظهر في صورة جديدة تماما.

ويفسر ذلك كيف أن التيارات الفكرية النهضوية -السلفية منها والليبرالية والقومية- التي تعرَّف المغاربة على آرائها وأطروحاتها، عبر المجلات والصحف والأسفار والاتصالات المباشرة، كانت تؤخذ دائما من وجهها الإيجابي الوطني النهضوي التحرري. أما الوجه الآخر الذي يعكس الخصومات السياسية والأيديولوجية فلم يكن يعني المغاربة في شيء؛ بل ربما لم يكونوا يدركون من أمره شيئا ذا بال. وهكذا كانت آراء محمد عبده تُقرأ في المغرب جنبا إلى جنب مع آراء الزعماء الوطنيين والدعاة النهضويين في مصر وسوريا والعراق، أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل ولطفي السيد وسلامة موسى والكواكبي… إلخ. كان هؤلاء يُقرأ لهم لا كمعبرين عن تيارات فكرية متباينة أو أحزاب سياسية متخاصمة، بل فقط كمبشرين بالنهضة والإصلاح والتقدم والتحرر؛ الشيء الذي يجعل هذه الأفكار تعيش علاقات جديدة في المغرب؛ علاقات سلمية، بل علاقات تزاوج واندماج.

ومن ثم فقد لبست سلفية الأفغاني ومحمد عبده حينما انتقلت إلى المغرب لباسا آخر خلت فيه من كل عيوبها: من التوظيف “البراغماتي” للدين لصالح السياسة، ومن اللجوء إلى المهادنة السياسية أملا في إزالة العوائق التي تقف أمام الدعوة، أو من تشكيك في الحريات الديمقراطية وجدوى الحياة النيابية، أو من التزام التحفظ والحذر في اقتباس أفكار الحداثة الأوربية، أو من الدخول في تناقض وصراع مع الحركات الوطنية والليبرالية… إلخ؛ فكل هذه السلبيات لم تنتقل مع الدعوة السلفية النهضوية إلى المغرب. بل حدث العكس فاندمجت أفكار محمد عبده الإصلاحية في مجال العقيدة والسلوك الديني والتربية والتعليم مع أفكار زعماء الوطنية ودعاة التجديد والتحديث المصريين والسوريين واللبنانيين وغيرهم، وشكلت حركة فكرية سياسية واحدة تقمصت خصوصية وضعية المغرب وظروفه وحاجاته وتطلعاته، وأنتجت ما أسماه علال الفاسي بـ”السلفية الوطنية” أو”السلفية الجديدة”.

ويرى الجابري في فكر حركة علال الفاسي عالم القرويين وزعيم الحركة الوطنية التي قادت الاستقلال ما يؤكد فرضيته من أن السلفية الوطنية الجديدة في المغرب تقبل بل تطالب بكل ما تدعو إليه سلفية محمد عبده، ولكنها لا ترفض ما ترفضه؛ بل تقبله وترغب فيه وتراه ضروريا، وأنها لا ترى تناقضا بين الإصلاح الديني ونشر التربية والتعليم، وإقرار الحريات الديمقراطية والحياة النيابية الدستورية والأخذ بقيم الحداثة ووسائل التحديث من جهة، ولا بين الوطنية الإقليمية والفكرة القومية العربية والجامعة الإسلامية من جهة أخرى.
ويرى أن الخصوصية هي التي جعلت السلفية في المغرب تتبنى هذه الأفكار، بينما ترفضها في بلاد أخرى من العالم العربي؛ فقد تمتع المغاربة بالانسجام والوحدة على مستوى الهوية الدينية؛ فهم جميعا مسلمون سنة، ومن أتباع مذهب الإمام مالك. كما أن الفقه المالكي بالمغرب قد ركز على فكرة المصلحة العامة التي تجد مجالا واسعا في فقه الإمام مالك، إضافة إلى تبني مبدأ المقاصد، وهي فكرة برزت بصورة واضحة مع “ابن رشد” في مؤلفاته حول العقيدة بالخصوص لتتبلور في نظرية متكاملة في الفقه مع الإمام “الشاطبي”. وعلال الفاسي تبنى اتجاه “الشاطبي” فبنى اجتهاده الديني على فكرة المقاصد.

بين السلفية والماضوية

وفي مقالته (طالع: السلفية غير.. والماضوية غير! ) يتخذ الجابري من “السلفية الوطنية” عند علال الفاسي نموذجا مغايرا لأنواع أخرى من الفهم تجعل من السلفية “ماضوية”؛ أي الرجوع إلى الماضي والتمسك به لذاته، واعتبار سلوك السلف نموذجا صالحا لكل وقت ولكل مكان، كما هو شأن التيار الحنبلي المتشدد المنسوب إلى ابن تيمية (مع تجاوز في كثير من الأحيان)، وإلى ابن عبد الوهاب من بعده، وخاصة أتباعه المتشددين الذي طبعوا مذهبه بـ”الجمود على التقليد”، فجعلوا السلفية مذهبا “ماضويا” حتى الأعماق.

فهو يرى “السلفية الوطنية” أقرب إلى المنهج منها إلى المذهب. ويثمن قول علال الفاسي: “والذي ينظر في تاريخ الحركات العامة في الدنيا كلها يجد أنه لم تقم ثورة مفيدة في بلد ما إلا سبقتها دعوة للرجوع للماضي البعيد. ذلك أن الرجوع الذي يظهر في شكل تقهقر إلى الوراء هو نفسه تحرر كبير من أشياء كثيرة وضعتها الأجيال العديدة والعصور المختلفة. والتحرر منها هو تخفيف يسهل السير إلى الأمام بخطى واسعة. وإزالتها من الطريق تفتح أفقا عاليا يهدي السائرين للغاية الصحيحة التي يجب أن يوجهوا أنفسهم إليها”.

ومن ثم يقرر الجابري أن الرجوع إلى نقطة مضيئة في الماضي ليس من أجل الماضي نفسه بل من أجل التحرر مما تراكم من انحرافات و”ظلمات” في المسار الذي يفصل الحاضر عن تلك النقطة المضيئة. والهدف من هذا الرجوع ليس التثبت عند نقطة في الماضي ولا الجمود فيها؛ بل الهدف هو الانتظام فيها من أجل مواصلة المسيرة من جديد في الاتجاه الذي يمد المستقبل الآتي بسند مما يسميه بالمستقبل الماضي؛ أي الذي كان مشروعا للتقدم في الماضي قبل أن تجهضه الانحرافات والجمود والانكسارات.

بهذا المعنى يتفق الجابري مع مقولة الفاسي: “إنه لم تقم ثورة مفيدة في بلد ما إلا سبقتها دعوة للرجوع للماضي البعيد”. والمقصود بالماضي “البعيد” ليس بالضرورة ذاك الذي يمتد بعيدا عن الحاضر بقياس الزمن، بل المقصود ذاك الذي يقع بعيدا عن الحاضر بقياس التقدم والتخلف، إذا جاز استعمال هذا التعبير هنا.

والجابري يرى أن دعوة الإسلام نفسها لم تكن سوى توظيف لهذا النوع من السلفية المنهجية. فبعد أن يشرح الجانب المنهجي يطبقه على الدعوة المحمدية نفسها؛ فقد دخلت في صراع مكشوف وضارٍ مع قوى التقليد التي رفعت شعار “حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”. ولكن بدلا من أن يتجه الإسلام إلى المستقبل وحده ويحارب الماضي محاربته للحاضر، أو يتنكر له جملة وتفصيلا.. طرح على العكس من ذلك شعار الرجوع إلى “الأصل”، إلى دين إبراهيم جد العرب، ولكن ليس من أجل استعادته كما كان تاريخيًّا؛ بل من أجل الارتباط به كتراث “أصيل”؛ أي كما كان في الأصل قبل تحريفه. لقد تم تكثيف الماضي العربي كله في نقطة واحدة هي “ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل” (الحج: 78) والارتكاز عليه لتحقيق قفزة تاريخية يتم من خلالها وبواسطتها تجاوز عبادة الأصنام إلى دين جديد سيحطم أصحابه الأصنام ويقضون على سلطة حماتها.

لقد انطلقت الدعوة الإسلامية والنهضة العربية الأولى من الانتظام في تراث، لكن ليس لتتثبت عنده جامدة ساكنة؛ بل لترتكز عليه في عملية تجاوز كل الموروث القديم، وتشييد تراث جديد.

 

 يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير :

فرض الحج على المسلمين في العام السادس من الهجرة، وكان المسلمون يحجون مع المشركين، إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ في العام التاسع من الهجرة (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا إنَّمَا المشركونَ نَجَسٌ فلا يقربُوا المسجدَ الحرامَ بعدَ عامِهِمْ هذَا وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فسوفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ منْ فضلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ) التوبة: 28

وفي يوم مشهود من أيام الله خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العام العاشر من الهجرة ومعه مائة ألف أو يزيدون؛ يؤدون مناسك الحج بعد أن أصبحت مكة في حمى المسلمين، وبعد أن طهّرت الكعبة من الأصنام وبعد أن محيت آثار الجاهلية كلها.

وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه خذوا عني مناسككم وخطبهم خطبة جامعة حددت ملامح المجتمع الإسلامي، وتوصف هذه الحجة وهذه الخطبة بأوصاف؛ البلاغ والإسلام والوداع.

وسميت حجة البلاغ؛ لأن رسول الله كان يقول عقب كل أمر أو نَهْيي في خطبته أَلا هل بلغت؟ فيقول الجمع الحاشد: نعم، فيقول عليه الصلاة والسلام: اللهم فاشهد.

وسميت حجة الإسلام؛ لأنها الحجة الوحيدة التي أداها الرسول الكريم في الإسلام بعد فرضيته ونزل فيها قوله تعالى: (اليوم أكملت لكمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكُمْ نِعمتِي ورَضِيتُ لكُمْ الإسلامَ دينًا) المائدة: 3

وسميت حجة الوداع؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودع أمته قائلا: أيها الناس اسْمعُوا قولي فإني لا أدري لعلي لا أَلْقاكُم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا فقد انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى بعد عودته إلى المدينة بقليل. وفي صحيح البخاري سُئِل أنسُ ـ رضي الله عنه ـ كم حَجَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: واحدة.انتهى كلام الدكتور المسير.

سميت هذه الحجة العظيمة أسماء عديدة فظن البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم حج أكثر من مرة ، لكنها أسماء عديدة لحجة واحدة.

ومن المعلوم أن الحج فرض في العام السادس من الهجرة وحج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة الأمر الذي جعل بعض العلماء يرون أن الحج على التراخي ويرى آخرون أن الحج على الفور وهو اختلاف له دلالته.

لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت فجعل :

1- ميقات أهل المدينة ومن يمر عليها ذا الحليفة وهو موضع بينه وبين مكة ‏450 كيلو متر، ويعرف بـ أبيار علي .

2-  ميقات أهل الشام ومن في طريقهم الجحفة وهي فى الشمال الغربي من مكة، بينه وبينها ‏187 كيلو متر، وهى قريبة من رابغ بينها وبين مكة ‏204 كيلو متر.‏ وقد صارت ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم الجحفة .‏

3-  ميقات أهل نجد قرن المنازل وهو جبل شرقي مكة يطل على عرفات ، بينه وبين مكة ‏94 كيلو متر.‏

4- ميقات أهل اليمن يلملم وهو جبل جنوبي مكة بينه وبينها ‏54  كيلو متر.‏

5- ميقات أهل العراق ذات عرق وهي موضع في الشمال الشرقي لمكة بينه وبينها ‏94 كيلو مترا .‏

هذه هي المواقيت التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال فيها هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج أو العمرة أي أن هذه المواقيت هى لأمل هذه البلاد ولمن مر بها ، ومن كان بمكة وأراد الحج فميقاته منزله ، ومن كان في مكان لا يمر بهذه المواقيت ، أي بين مكة ‏366 كيلو متر والمواقيت فميقاته من مكانه ، ومن كان فى جهة غير جهة هذه المواقيت كأهل السودان مثلا الذين يمرون بجدة فهو حر يحرم فى أى ميقات ، أو من حيث شاء برا وبحرا وجوا كما قال ابن حزم ، ومن أحرم قبل مروره بهذه المواقيت صح إحرامه .‏

وهي أيضا مواقيت لمن يريد العمرة ، إلا أهل مكة فميقاتهم أدنى الحل ، يخرج من مكة ويحرم من هناك ، وأقربه هو التنعيم أو مسجد السيدة عائشة .‏

ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه أن يعود ليحرم منه وإلا وجب عليه دم ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .‏

هذا ، وفي فقه الشافعية أن من سلك طريقا لا تنتهي إلى ميقات أحرم من محاذاته ، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه ، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة .‏

وإن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة، أي مسافة قصر حوالى ‏80 كم .

المصدر: الخطيب على أبى شجاع ج ‏1 ص ‏220

الذنوب نوعان منها ما هو حق لله تعالى، ومنها ما هو حق للعباد، فالذنوب التي تتعلق بحقوق العباد لا يبرأ منها العبد إلا برد المظالم لأهلها، أما حقوق الله تعالى، فإنها تغفر بالتوبة ، والحج لا يغفر ذنبا لم يتب العبد إلى الله تعالى منه.

يقول فضيلة الشيخ عطية صقر -رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا -:

قال اللّه تعالى {‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }‏ النساء:‏ ‏48، وقال صلى الله عليه وسلم من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه رواه البخارى ومسلم .‏ وقال والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة رواه البخارى ومسلم.‏

ويقول العلماء :‏ إن الذنوب منها كبائر ومنها صغائر، كما قال تعالى {‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }‏ النساء :‏ ‏31 ، وقال تعالى {‏ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم }‏ النجم :‏ ‏32 ، والصغائر مكفراتها كثيرة ، فإلى جانب التوبة والاستغفار يكفرها اللّه بأى عمل صالح ، قال تعالى {‏ إن الحسنات يذهبن السيئات }‏ هود :‏ ‏114 ، وقد نزلت فى رجل ارتكب معصية وقال له النبى صلى الله عليه وسلم أشهدت معنا الصلاة؟ قال :‏ نعم ، فقال له اذهب فإنها كفارة لما فعلت وقال صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر رواه مسلم ، وقال وأتبع السيئة الحسنة تمحها رواه الترمذى بسند حسن .‏

أما الكبائر فتكفرها التوبة النصوح كما قال تعالى {‏ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللَّه توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم }‏ التحريم :‏ ‏8، وكما قال بعد ذكر صفات عباد الرحمن وأن من يفعل الكبائر يضاعف له العذاب {‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات وكان اللَّه غفورًا رحيمًا}‏ الفرقان :‏ ‏70

أما الأعمال الصالحة غير التوبة فلا تكفر الكبائر، لأن هذه الأعمال الصالحة لا تؤثر فى تكفير الذنوب الصغيرة إلا إذا اجتنيت الكبائر كما تقدم فى حديث مسلم.‏

وعلى هذا قالوا :‏ إن النصوص العامة التى فيها تكفير الأعمال الصالحة لكل الذنوب -‏ كحديث الحج المتقدم -‏ مخصوصة بالذنوب الصغيرة ، أما الكبيرة فلا يكفرها إلا التوبة .‏

وليكن معلومًا أن التوبة لا تكفر الذنوب التى فيها حقوق العباد لأن من شروطها أو أركانها أن تبرأ الذمة منها ، إما بردها لأصحابها وإما بتنازلهم عنها .

وبالتالى فالحج أو غيره من الطاعات لا يكفر الذنب الذى فيه حق للعباد حتى تبرأ الذمة منه ويؤيد ذلك أن الشهادة في سبيل اللَّه ، وهي في قمة الأعمال الصالحة ، لا تكفِّر حقوق العباد، كما ورد فى حديث مسلم يغفر اللَّه للشهيد كل شىء إلا الديْن .‏

أما الذنوب التى هى حق للَّه فهى قسمان ، قسم فيه بدل وعوض ، وقسم ليس فيه ذلك ، فالأول كمن أذنب بترك الصلاة أو الصيام فلا يكفر إلا بقضاء ما فاته من صلاة وصيام كما وردت بذلك النصوص الصحيحة ، والثانى كمن أذنب بشرب الخمر مثلاً، فإن مجرد تركه والتوبة منه يكفره اللّه تعالى ، والتوبة تكون بإقامة الحد عليه إن كانت الحدود تقام ، وإلا فهي الإِقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم على عدم العود .‏

وقد وردت نصوص تدل على أن التبعات والمظالم يكفرها الله بالحج ، لكن هذه النصوص غير قوية فلا تعارض ما هو أقوى منها ، فالتوبة لا تكفر التبعات والمظالم إلا ببراءة الذمة، وكذلك الحج لا يكفرها إلا بذلك .‏

وكل ما تقدم محله إذا لم تتدخل مشيئة الله ، فإن تدخلت غفر اللّه كل شيء من الذنوب يقع من العبد ما عدا الإِشراك باللّه كَما قال سبحانه {‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }‏ النساء :‏ ‏116 ، .‏

وعلى هذا ، فالرجل الذى يفعل المعاصي اعتمادًا على أن الحج يكفرها -‏ لا يجوز له أن يرتكن على الحديث المذكور ، ولا أن يرتكن على مشيئة الله الذى يغفر الذنوب جميعًا ، فربما لا يكون هو ممن يشاء اللّه المغفرة لهم .‏

مبطلات الصيام أنواع:

1-  نوع يبطله ويوجب الإثم و القضاء والكفارة وهو الجماع لا غير. وعلى الزوجة كفارة مثل الرجل طالما كانت مختارة مطاوعة، وبعض العلماء لا يرى كفارة عليها، والجمهور على أن الكفارة على الترتيب، أي العتق، فإن عجز فصيام ستين يوما ، فإن عجز فإطعام ستين مسكينا. وذهب بعض العلماء – ابن حزم وغيره- إلى أن الكفارة فقط هي الواجبة هنا دون القضاء وهو الراجح.

2-  ونوع يبطله ويوجب القضاء فقط، ولا يوجب إثما ولا كفارة، وهو الحيض والنفاس حتى لو أصيبت المرأة بهما قبل الغروب بلحظة.

3-  ونوع يبطله، ويوجب القضاء والإثم دون الكفارة، وهو الأكل والشرب عمدا، والتدخين، وتناول المخدرات شربا ومضغا واستنشاقا وحقنا، وإنزال المني بالمباشرة أو الاستمناء.

4-  ونوع يبطله، ويوجب القضاء فقط دون إثم أو كفارة، وهو الأدوية التي تتناول بالفم شربا أو امتصاصا أو ابتلاعا، ومثله المكياج الذي يوضع بالشفتين إذا تحلل منه شيء ووصل إلى المعدة.

أمور لا تفطر الصائم

الأمور التي لا تفطر الصائم أكثر من أن تحصى، والذي يمكن أن يحصى هو المفطرات، وضابط ما يفطر الصائم من المفطرات الاختيارية ( الطعام والشراب وما في معناهما، والدواء المأخوذ من طريق الفم، والجماع) وبعض العلماء يزيد على ذلك أشياء ذكرتها في موضعها.

وأما ما لا يفطر الصائم فكثير، يقول العلامة ابن حزم : (ولا ينقض الصوم حجامة، ولا احتلام.. ولا قيء غالب، ولا قلس – ما تقذفه المعدة عند امتلائها خارج من الحلق ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه، ولا دم خارج من الأسنان أو الجوف، ما لم يتعمد بلعه، ولا حقنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن، أو في إحليل – رأس الذكر أو في أنف ولا استنشاق وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلاً بعقاقير أو بغيرها، ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق، أو حناء، أو غير ذلك أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة، ولا من رفع رأسه فوقع في حلقه نقطة ماء بغير تعمد لذلك منه، ولا مضغ زفت أو مصطكي أو علك- ، ولا سواك برطب أو يابس، ومضغ طعام – حتى يستسيغه الطفل أو ذوقه، ما لم يتعمد بلعه، ولا مداواة جائفة أو مأمومة – جرح بالرأس- بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك، ولا طعام وجد بين الأسنان: أي وقت من النهار وجد، إذا رمي، ولا دخول حمام، ولا تغطيس في ماء، ولا دهن شارب) (المحلى لابن حزم -300/6،301)

ولا يفطر بابتلاع ريقه ولو كثر، والنخامة ( البلغم والمخاط) لا تفطر كما هو المعتمد عند المالكية، ورجحه الشيخ ابن العثيمين، ولكنه ذهب إلى حرمة ابتلاع المخاط لضرره واستقذاره، ونحن نرى أن المرجع في ذلك للأطباء فإن كان في ابتلاعه ضرر فيحرم أو يكره حسب نسبة الضرر وإلا فلا.

وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر ، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه.

وفي فتاوى دار الإفتاء السعودية : إذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه ،واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم .

وإذا أخر الصائم الجنب الغسل إلى الصباح فلا يفطر بذلك ، ولكن عليه أن يبادر بالغسل ليدرك الصلاة ، وإذا نام الصائم فاحتلم فلا يفسد صومه إجماعا .

الصيام والنسيان والخطأ

من أكل أو شرب ناسيا فقد أطعمه الله وسقاه، ولا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة سواء أكان صوم نافلة أو فريضة .

ومن ظن أن الشمس غربت فأفطر فبان خطؤه فالجمهور على أن عليه القضاء، والراجح أنه لا قضاء عليه. كما أن الراجح أن من تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع فبان خطؤه أنه لا قضاء عليه وإن كان الجمهور يوجبون القضاء في الحالتين. ولا فرق بين من أكل ناسيا أو جامع ناسيا.

وللمسلم أن يأكل حتى يتيقن من طلوع الفجر، فإذا كان يشك هل طلع الفجر أم لا فيجوز له أن يأكل حتى يتيقن، فقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت . وهو مذهب الجمهور ، ورجحه شيخ الإسلام، وجاءت آثار عن الصحابة تفيد ما هو فوق ذلك.

ومن تعاطى مفسدا من مفسدات الصيام جاهلا فلا يفسد صيامه إذا كان قريب عهد بإسلام، وأما غيره فلا.

ومن أكره على تعاطي ما يفطر فالراجح أنه لا يفطر خلافا للجمهور .

والدم الخارج من اللثة لا يفطر الصائم مالم يتعمد ابتلاعه – وهو بعيد- ورجوع بعض الدم إلى الحلق غلبة ( أي دون قصد ) لا يفسد الصيام.

المعاصي والصيام

الصيام دون صلاة حسنة مع سيئة كبرى، والسيئة لا تمحو الحسنة، وأما من رأى أن ترك الصلاة كفر فلا يثاب تارك الصلاة عنده إن صام ؛ لأنه يلقى الله كافرا، والترجية هنا أولى من التيئيس.

وذهب بعض السلف إلى أن معصية اللسان – مثل الغيبة- ومعصية الأذن – مثل استماع الغيبة –ومعصية العين – مثل النظرة المحرمة- ومعصية اليد والرجل كل ذلك من مفسدات الصيام، والجمهور على أنه لا يفطر شيء من ذلك غير أن الجميع متفق على أن المعاصي تذهب بثواب الصيام، وكفى تخويفا في هذا قوله صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه رواه البخاري من حديث أبي هريرة.

د. نادية العوضي

مجموعة من الشواذ في إحدى حفلاتهم

العلاقات الجنسية غير السوية لا تمر دون أمراض وأوجاع، ولأنها دائمًا ما تمتزج بتعاطي العقاقير والمخدرات، فإن الأخطار دائمًا ما تكون أكبر؛ لذا فإننا تكملة لمقال الشذوذ الجنسي الذي نُشر، نريد أن نلفت الانتباه إلى بعض الأمراض التي قد انتشرت كالوباء بين الشواذ جنسيا.

1- الإيدز: في تقرير مراقبة الإيدز لمراكز السيطرة والوقاية من الأمراض الأمريكية Centers for Disease Control and Prevention، والذي صدر في يونيو من عام 2000 فقد أعلن أن أغلبية حالات الإيدز بالولايات المتحدة تقع بين الرجال الذين يمارسون الشذوذ الجنسي مع الرجال.

فمن بين 745103 حالة إيدز بالولايات المتحدة الأمريكية يمثل الرجال الذين يمارسون الشذوذ الجنسي 348657 حالة، هذا بالمقارنة بـ 189242 حالة إيدز بسبب استخدام المخدرات المحقونة، ثم 47820 حالة بسبب ممارسة الشذوذ الجنسي بين الرجال، بالإضافة إلى تناول المخدرات المحقونة. أما في تقرير الإيدز التابع لمنظمة الصحة العالمية فيمثل الشواذ جنسيا 68.6% من حالات الإيدز بهولندا، و65.8% في المملكة المتحدة.

ونذكر تلك الدولتين تحديدًا لأنهما متقبلتان لممارسة الشذوذ الجنسي بحرية تامة، وفي الوقت نفسه تدّعي وجود برامج توعية قوية لما يسمى “بالممارسة الجنسية الآمنة”.

2- الاضطرابات النفسية: هناك عدة دراسات قد أظهرت علاقة مباشرة بين ممارسة الشذوذ الجنسي والإصابة باضطرابات نفسية، نذكر هنا أحدثها، وهي دراسة قد نُشرت في يناير من هذا العام في أرشيفات الطب النفسي العام Archives of General Psychiatry، والذي قام به فريق هولندي.

وقد وجد الفريق أن الشواذ من الرجال يصابون بالاضطرابات المزاجية التي تستمر لأكثر من 12 شهرًا بمعدل 2.94 مرة عن غيرهم من الأسوياء. كما يصابون باضطرابات الحصر النفسي anxiety التي تستمر لأكثر من 12 شهرًا بمعدل 2.61 مرة عن غيرهم من الأسوياء. كما أن الشواذ من النساء يصبن بالاضطرابات المؤدية إلى إساءة استخدام المخدرات بمعدل 4.05 مرات من غيرهن من الأسوياء.

كل هذا في المجتمع الهولندي المرحب بممارسة الشذوذ الجنسي، وهو ما ينفي مزاعم الشواذ جنسيا بأن الاضطرابات النفسية التي يصابون بها ما هي إلا بسبب نظرة المجتمع إليهم. كما أظهرت دراسة أخرى نشرت في أكتوبر 1999 في المجلة نفسها أن احتمالية محاولة الانتحار بين الشواذ من الرجال كانت أعلى 6.5 مرات منها في توائم هؤلاء الأسوياء.

3- الأمراض المعدية التي تنتقل عن طريق الممارسة الجنسية: في دراسة نشرت عام 1990 في مجلة أمراض القولون والمستقيم Diseases of the Colon and Rectum يقول الدكتور ستيفن وكسنر: إن 55% من الشواذ من الرجال الذين لديهم شكاوى من منطقة المستقيم والشرج مصابون بالسيلانgonorrhea ، كما أن 80% من مرضى الزهري syphilis من الشواذ جنسيا، هذا بالإضافة إلى إصابة 15% من الشواذ الذين لا يشتكون من وجود أعراض مرضية بالمندثرة chlamydia، كما أن ثلث الشواذ جنسيا مصابون بفيروس الهربس البسيط النشط herpes simplex virus في منطقة المستقيم والشرج.

وقد ذكرت دراسة أخرى أن الشواذ من الرجال مصابون بالسيلان في منطقة الحلق بنسبة 15.2%، بالمقارنة بإصابة 4.1% من أسوياء الرجال بالمرض نفسه.

4- سرطان الشرج: هناك عدة نظريات تعلل انتشار سرطان الشرج بين الشواذ جنسيا وبين الأسوياء الذين يمارسون الجنس عن طريق الشرج. إحداها بسبب استخدام بعض المزلّقات lubricants من أجل تسهيل تلك الممارسة. نظرية أخرى هي تقول بأن دخول الحيوانات المنوية والسائل المنوي إلى تلك المنطقة قد يكون سببا آخر للإصابة بسرطان الشرج. وآخر النظريات هي الإصابة بالسرطان تبعا للإصابة بالالتهاب بفيروس الورم الحليمي الإنساني human papillomavirus.

5- مرض كابوسي الخبيث Kaposi sarcoma، والذي يعتقد أن للمخدرات التي يستخدمها الشواذ جنسيا من أجل استرخاء عضلة الشرج والمعروفة بـ poppers علاقة بالإصابة بهذا المرض بين مصابي مرض الإيدز منهم.

6- سرطان الغدد الليمفاوية هودجكن.

7- خلل بالجهاز المناعي، وذلك قد يكون بسبب امتصاص المستقيم للسائل المنوي ليصل إلى الدورة الدموية، وهو ما يعتقد العلماء أنه يصيب الجهاز المناعي بالضعف.

8- مشاكل جراحية بمنطقة الشرج بسبب ممارسة الشذوذ: كالجروح الشرجية واحتباس جسم غريب داخل المستقيم، وتكوين أوعية دموية جديدة بالمنطقة وتليّف المستقيم.

علاج الشذوذ الجنسي

يبقى لنا مناقشة قضية طالما أثارت جدلاً واسعًا بين علماء الغرب. هل الشذوذ الجنسي قابل للعلاج؟ يعتقد فريق من العلماء في الغرب أن محاولة علاج الشاذ جنسيا بما أن الشذوذ الجنسي – في اعتقادهم- ما هو إلا تنوّع طبيعي للممارسة الجنسية، وأن محاولة علاج الشذوذ الجنسي لن ينجم عنه إلا إصابة الشاذ بألم نفسي أكبر. والأصل عند هؤلاء هو إقناع الشاذ بأنه طبيعي، وجعل الشاذ يتصالح مع اتجاهاته الجنسية!، إلا أن هناك فريقا آخر يدافع عن حق الشاذ في العلاج من حالته تلك إذا رغب في ذلك.

يذكر أنه حتى الآن في مكان مثل الولايات المتحدة الأمريكية غير مسموح للطبيب النفسي محاولة علاج الشاذ جنسيا، بما أن الشذوذ الجنسي غير مدرج بكتيّب تشخيص وإحصاء الاضطرابات النفسية، كما ذكرنا في الحلقة الماضية.

وفي بحث علمي أثار دهشة علماء النفس الغربيين، قام فريق من العلماء بدراسة مجموعة من الشواذ السابقين لمعرفة مدى تغيّر اتجاهاتهم الجنسية.. اكتشف البحث أن 67% من هؤلاء الشواذ السابقين قد أصبحوا طبيعيين تماما من حيث الممارسة الجنسية السوية والرغبة فيها، كما أن 75% من الرجال منهم و50% من النساء قد تزوجوا زيجات طبيعية، بالإضافة إلى أن كل هؤلاء قد اعترف بأنه يحس بأنه أكثر ذكورة (بالنسبة للرجال) أو أكثر أنوثة (بالنسبة للنساء) مما كانوا عليه قبل أن يغيروا اتجاهاتهم.

وقد قالوا بأن عملية التحويل قد استغرقت في الغالب أكثر من عامين، وأنهم قد لجئوا إلى محاولة تغيير اتجاههم الجنسية بسبب أولوية اعتقاداتهم الدينية بالنسبة إليهم، بالإضافة إلى إحساسهم بعدم الاستقرار النفسي في تلك النوعية الشاذة من العلاقات.

وقد أخبر الشواذ السابقون فريق الأطباء بأن الطرق التي نجحت معهم لتحويل ميولهم الجنسية تركزت على تحليل مرحلة الطفولة وعلاقاتهم الأسرية، ومعرفة كيفية تأثير تلك المرحلة على إصابتهم بالشذوذ الجنسي أو بعدم الإحساس بالانتماء إلى جنسهم.

أعلنت نتائج البحث في مؤتمر الجمعية الأمريكية لعلم النفس الذي انعقد في شهر مايو من هذا العام، وقد قاد الفريق عالم الطب النفسي “روبرت سبتزر”، الذي كان “المايسترو” لقرار لجنة 1973 لحذف الشذوذ الجنسي من كتيب الاضطرابات النفسية.

اقرأ أيضا :

  • الشذوذ الجنسي.. أوهام علمية

أخي الكريم..
بارك الله فيك ونفع الله بك إذ فتحت هذا الموضوع للنقاش؛ فهو من أهم ما يميز الشريعة الإسلامية.. إذ الاختلاف سنةٌ من سنن الله في الحياة، وسرٌّ من أسرار الوجود العظمى، وهو بجميع درجاته، بدءً من التناقض والتضاد، إلى التشابه والتماثل، ضرورةٌ حياتيَّةٌ لا يمكن أن يُتصوَّر وجود بدونها.

وقد جاءت نصوصٌ ومأثوراتٌ تضع مبادىء وأصولاً للاختلاف المحمود ترتقي به في كثيرٍ من الأحيان إلى درجة الوجوب العملي، ومن المثير للعجب أن توجد في أوساط المسلمين بين الحين والحين تياراتٌ تنفِّر من الاختلاف وتضيق به وتعدُّه بكل صوره رجزًا من عمل الشيطان، بل تتعدى ذلك فتسعى جاهدةً للقضاء عليه وإزالته من الوجود، متأثرةً بأمورٍ كثيرةٍ أهمها في نظري هو عدم -أو قلة- فهم النصوص المحذرة من الاختلاف، أو وضعها في غير مواضعها، أو الخلط بين ما هو مطلقٌ وما هو نسبيٌّ من الحقيقة، وقد كانت هذه التيارات -وما تزال- من أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية، لما تحمله أطروحاتها من دواعي الفتنة والتناحر، ولما تجسِّده ممارساتها من حجر على الفكر وكبت للحريات.

وقد أحسن الدكتور يوسف القرضاوي في وصف فئةٍ من هذه التيارات حين قال في كتابه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم): “ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناسًا لا هَمّ لهم إلا الجدل في كل شيء، وليس لديهم أدنى استعدادٍ لأن يعدلوا عن أي رأيٍّ من آرائهم، وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون، فهم على حقٍّ دائمًا، وغيرهم على باطل أبدًا.

فمنهم من يجادل في كلماتٍ أعطاها اصطلاحًا خاصًّا خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزم الآخرين برأيه مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في اصطلاح؛ ومنهم من يذمُّ التعصُّب للمذاهب، وهو يقيم مذهبًا جديدًا، يقاتل الآخرين عليه! ومن يحرِّم التقليد ويطلب من الناس أن يقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلِّد بعض المعاصرين! ومن يقيم معركةً من أجل مسائل فرعيَّةٍ وجزئيَّة، اختلف السلف فيها وفي أمثالها، ولم تعكِّر لعلاقاتهم صفوًا”.

والسبب الرئيسي، في نظري، لمثل هذه المواقف هو قلَّة الفقه بوجهٍ عام، وقلَّة الفقه بما يمكن أن يطلق عليه “فقه الاختلاف” بوجهٍ خاصٍّ، ومن المحزن أن تكون هذه حال المسلمين، وموروثهم الفقهي زاخرٌ بالمصنفات التي أفردت لقضايا الاختلاف وشرح أسبابه ودواعيه، وتاريخهم في كثيرٍ من جوانبه هو في حقيقة الأمر ثمرةٌ من ثمرات الاختلاف.

وفقه الاختلاف فقهٌ يحتاج إلى عنايةٍ خاصَّة، فعلى الرغم من كثرة المصنَّفات التي تطرَّقت إلى الاختلاف ومسائله، فإنَّ القليل منها الذي قدَّم تأصيلاً له وبلور تصوُّرًا شاملاً للموقف منه، إذ اكتفت معظم المصنفات بذكر أسباب الاختلاف وسرد مسائله وبعض آدابه، دون تأصيلٍ فقهيٍّ له.

وغني عن القول أنَّ حاجة الأمة لهذا النوع من الفقه اليوم هي أعظم من أيِّ وقتٍ مضى، ولكن يبقى أن هناك أصولاً ينبغي التنبيه عليها في توضيح تصوُّرنا لهذا الفقه، ومن أهمِّ الأصول التي يمكن أن يبنى عليها التصوُّر الإسلامي للاختلاف على المستوى الإنساني ما يلي:

1- أنَّ الاختلاف كما كان سنَّةً ماضيَّةً في الخلق وناموسًا من نواميس الوجود، فهو كذلك ماضٍ في المسلمين في معظم شؤون حياتهم.

2- أنَّ الاختلاف نوعان:
– نوعٌ مذمومٌ، وهو ما كان نتيجةً للهوى والقول بغير علم، أو ما كان متضمنًا بغيًّا بأيِّ صورةٍ من الصور.
– ونوعٌ محمودٌ، وهو ما كان نتيجةً للاجتهاد المنضبط بجميع مستوياته.

3- أنَّ من القضايا ما لا يجوز الاختلاف فيه، ومنها غير ذلك، وما لا يجوز الاختلاف فيه هو جملة الأمور القطيعة الثبوت القطيعة الدلالة، وكلُّ معلومٍ من الدين بالضرورة مما لا يحتمل إلا رأيًّا واحدًا.
أما ما سوى ذلك فهو محل اجتهادٍ ونظرٍ واختلاف، واختلاف الآراء فيه سائغ.

4- أن الاجتهاد في طلب الحقِّ فرضٌ على جميع المسلمين كلّ حسب استطاعته، وهو بالنسبة لأصحاب الأهليَّة الفقهيَّة إمَّا أن يكون اجتهادًا مطلقًا أو اجتهادًا ترجيحيًّا، أو اجتهادًا جزئيًّا؛ وبالنسبة لغير أصحاب الأهلية الفقهية يكون اجتهادًا في اختيار الفقيه المقلَّد.
ولابد هنا من التفريق بين مسائل الاختلاف، ومسائل الاجتهاد، فليست كلُّ مسائل الخلاف من مسائل الاجتهاد، بل كثيرٌ من مسائل الاختلاف إنَّما نشأت على غير دليلٍ، إمَّا لهوىً أو لقلَّة علم.

5- أنَّ التجرُّد وبذل الوسع في طلب الحق لا يؤدِّيان بالضرورة إلى معرفة الحقِّ دائمًا، فقد يتجرَّد الإنسان ويبذل وسعه ولا يوفقه الله إلى الحقِّ لحكمةٍ يراها.

6- أنَّ الحقيقة المطلقة هي من علم الله عزَّ وجلَّ وحده؛ وما نقطع به منها هو ما جاء به الوحي القطعي الثبوت القطعي الدلالة؛ وما سوى ذلك فليس مبنيًّا إلا على غلبة الظنِّ ورجحان الدليل.

7- أنَّ اختلاف المسلمين فيما يسوّغ الاختلاف فيه هو في جانبٍ ابتلاءٌ لهم، وفي جانبٍ آخرٍ رحمةٌ بهم، وهو ابتلاءٌ لما يشكِّله من تحدٍّ معرفيٍّ ومعاشي، وهو رحمةٌ من حيث عدم المؤاخذة على الخطأ فيه، ولما فيه من توسيعٍ عليهم.

8- أنَّ أهليَّة الاجتهاد قد تكون مطلقة، وقد تكون للترجيح بين المذاهب، وقد تكون في المذهب الواحد أو المسألة الواحدة، ومن المؤسف أنَّ التصوُّر الإسلامي للاجتهاد لدى كثيرٍ من المسلمين المتأخرين قد تشوَّه حتى أصبح لا يرى من الاجتهاد إلا الاجتهاد المطلق، وأصبح لذلك كلُّ اجتهادٍ صادرٍ عن غير مجتهدٍ مطلقٍ اجتهادًا مرفوضًا غير معترفٍ به، بل انحرافًا يجب محاربته.

هذا في الجانب الفكري التصوُّري، أمَّا في الجانب الفقهي التشريعي، وهو المتعلِّق بما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم في مسائل الاختلاف، فإنَّ أهمَّ ما يجب أن يُراعى هو:

1- أنَّ الاجتهاد في طلب الحقِّ فرض عينٍ على كلِّ مسلمٍ حسب الاستطاعة وفي نطاق الأهليَّة الاجتهاديَّة بمعناها الواسع.

2- أنَّ المجتهد ملزمٌ بما أدَّاه إليه اجتهاده وإن كان مخالفًا لكثيرين غيره، فإن كان مجتهدًا مطلقًا فلا يجوز له التقليد بأيِّ حالٍ من الأحوال، وإلزامه بمقتضى اجتهاده أشدُّ من غيره، وإن كان مرجِّحًا فهو ملزمٌ بترجيحه، وإن كان مقلِّدًا فهو ملزمٌ بفتوى من يُقلِّد.

قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: “فأمَّا المجتهد الناظر لنفسه، فما أدَّاه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه”، وقال ابن حزم رحمه الله في الإحكام في أصول الأحكام: “فإذا قام البرهان عند المرء على صحَّة قولٍ ما –قيامًا- فحقُّه التديُّن به، والفتيا به، والعمل به، والدعاء إليه، والقطع أنَّه الحق عند الله عز وجل”، ولا يستثنى من ذلك إلا الحالات التي يرى الحاكم المسلم فيها حمل الأمة على أحد الآراء في مسألةٍ من المسائل لمصلحةٍ عامَّة، فعندئذ يسقط عنه الإلزام خاصةً إذا كان الأمر متعلقًا بعبادةٍ جماعيَّةٍ أو معاملةٍ عامَّة.

3- لا يجوز الإنكار ولا التشنيع على المخالف فيما يجوز الاختلاف فيه مهما كان واضحًا للآخرين خطأ المخالف، ذلك أنَّ الخطأ في الاجتهاد لا يستدعي المفارقة ولا التفسيق ولا التكفير مهما كان ذلك الخطأ، لعموم النصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله عز وجل: (وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم)، وقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: (رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، قال ابن حزم: (فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ، وهو عند الله تعالى خطأ، فقد أخطأ ولم يتعمَّد الحكم بما يدري أنه خطأ، فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى؛ وهذه الآية عمومٌ دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون، فارتفع الجناح عن هؤلاء بنصِّ القرآن فيما قالوه أو عملوا به، مما هم مخطئون فيه، وصحَّ أنَّ الجناح إنَّما هو على من تعمَّد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بما يدري أنَّه ليس حقًا، أو بما لم يَقُدْهُ إليه دليلٌ أصلاً.

4- أنَّ الحكم على المسلمين هو على ظواهرهم فقط، أمَّا النيَّات فعلمها عند الله عزَّ وجلَّ وهو الوحيد المطَّلع عليها، وليس من واجب المسلم ولا من حقِّه أن يسعى لاستكشافها.

أخيرًا؛ إنَّ من فقه الاختلاف معرفة الآداب الإسلاميَّة الواجبة في الحوار والجدل، وليس من المبالغة القول أنَّ جزءًا كبيرًا من اختلاف المسلمين وفرقتهم إنَّما نشأ بسبب عدم أو قلة التزامهم بأدب الحوار والجدل، وإنَّ مستقبل المسلمين -في نظري- مرهونٌ إلى درجةٍ كبيرةٍ بمدى قدرتهم على إدارة خلافاتهم بالأسلوب الذي يرتضيه ويقرِّره الإسلام وعلى الأسس الشرعيَّة المعتبرة.

الأستاذ محمد إبراهيم زيدان

أحمد تمام

 

الحسن بن الهيثم

بحث فلاسفة اليونان القدماء وعلماؤها في علم الضوء، ولم تكن بحوثهم وافية أو عميقة، فذهب إقليدس في بحوثه إلى أن العين تحدث في الجسم الشفاف المتوسط بينها وبين المبصرات شعاعًا ينبعث منها، وأن الأشياء التي يقع عليها هذا الشعاع تُبْصَر، والتي لا يقع عليها لا تبصر، وأن الأشياء التي تبصر من زاوية كبيرة تُرى كبيرة، والتي تبصر من زاوية صغيرة ترى صغيرة، وظلت البحوث في علم الضوء تدور في هذا الفلك دون تقدم أو رقي، حتى جاء الحسن بن الهيثم فصحح هذه الأخطاء، وخطى بعلم الضوء خطوات واسعة، بلغ فيه ما لم يبلغه من قبل، ولم يتجاوزه من بعده إلا بعد مضي قرون عديدة.

وعلى الرغم من مكانة ابن الهيثم وبحوثه المبتكرة في علم الضوء، فقد ظل مغمورًا، لا يعرفه كثير من الناس، ولولا أن قيض الله له من يكشف عن جهوده ويجلي آثاره، لبقي في مجاهل النسيان، وكان العالم العربي مصطفى نظيف واحدًا من هؤلاء، فقد كتب عنه دراسة رائدة نشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، بذل فيها جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم ومئات المراجع، حتى خلص إلى حقيقة صادقة بأن ابن الهيثم هو واضع أسس علم الضوء بالمعنى الحديث.

وفي ذكرى وفاة مصطفى نظيف الذي سبق أن تناولنا حياته وجهوده العلمية في (23 من جمادى الآخرة) نعيد ذكرى الحسن بن الهيثم، بالحديث عنه؛ وفاء للرجلين وإحياء لماضٍ عظيم نحاول استلهامه في مسيرة حياتنا.

المولد والنشأة

في البصرة كان مولد أبي علي الحسن بن الهيثم سنة (354هـ= 965م)، وبها نشأ وتعلم، ولا يعرف شيء عن نشأته الأولى سوى أنه عاش في فترة مزدهرة، ظهر فيها أساطين العلم في الفلسفة والطب والكيمياء والرياضيات والفلك، فجذبته هذه العلوم فأقبل عليها بهمة لا تعرف الكلل وعزيمة لا يتطرق إليها وهن، فقرأ ما وقع تحت يديه من كتب المتقدمين والمتأخرين، ولم يكتفِ بالاطلاع عليها والقراءة فيها، وإنما عني بتخليصها ووضع مذكرات ورسائل في موضوعات تلك العلوم وظل مشتغلا بهذه العلوم، وبالتصنيف فيها فترة طويلة حتى ذاعت شهرته، وسمع بها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، فتاقت نفسه إلى الاستعانة به، وزاد من رغبته ما نمي إليه ما يقوله ابن الهيثم: “لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص”، وكان ابن الهيثم في هذه الفترة قد تجاوز الستين من عمره، اشتهر في العالم الإسلامي باعتباره عالمًا في الهندسة له فيها آراء واجتهادات.

في القاهرة

رغّب الحاكم إلى ابن الهيثم الحضور إلى مصر والاستقرار فيها، فلما وصل أكرمه، وطلب منه تنفيذ ما قاله بخصوص النيل، فذهب الحسن إلى أسوان ومعه جماعة من الصناع المحترفين في أعمال البناء ليستعين بهم على تنفيذ فكرته التي خطرت له، غير أنه لما عاين الموقع الذي اختاره لتنفيذ مشروعه وجده لا يصلح مع ما فكر فيه، وأن تنفيذه يكاد يكون مستحيلا، فبناء جسم على النيل في ذلك الوقت تفوق إمكانات عصره وفوق طاقة رجاله، فعاد الحسن بن الهيثم خجلا إلى القاهرة، واعتذر للخليفة الحاكم، فتظاهر بقبول عذره، وولاه بعض الدواوين، فتولاها ابن الهيثم رهبة لا رغبة، ولو أنصف الحاكم لجعله في زمرة من جمعهم من العلماء في دار الحكمة ولصرفه عن الوظيفة، فما كان لمثله أن يصلح لهذا العمل، وهو الذي اعتاد حياة البحث والدراسة.

غير أن توليه هذا المنصب لم يكن ليجعله في مأمن من نزوات الحاكم الطائشة، وهو متقلب المزاج، سريع البطش والعقاب، وخشي ابن الهيثم من هذه التقلبات، وفي الوقت نفسه لم يكن قادرًا على التخلي عن عمله والانسحاب منه؛ خوفًا من غدر الحاكم بأمر الله، فلم يجد وسيلة للتخلص مما فيه إلا ادعاء الجنون وإظهار البله والعته، فلما بلغ الحاكم ذلك عزله عن منصبه وصادر أمواله، وأمر بحبسه في منزله، وجعل عليه من يخدمه، وظل العالم النابه على هذه الحالة التعسة حتى تُوفي الحاكم بأمر الله، فعاد إلى الظهور والاشتغال بالعلم، واستوطن دارًا بالقرب من الجامع الأزهر، وأقام بالقاهرة مشتغلا بالعلم والتصنيف ونسخ الكتب القديمة حتى توفي سنة (430هـ= 1038م) تقريبًا.

نشاطه العلمي واكتشافاته

تشريح العين عند ابن الهيثم

كان ابن الهيثم غزير التأليف متدفق الإنتاج في شتي أنواع المعرفة، فطرق الفلسفة والمنطق والطب والفلك والبصريات والرياضيات، مستحدثًا أنماطًا جديدة من الفكر العلمي الأصيل، وقد بلغ عدد مؤلفاته مائتي مؤلف بالإضافة للرسائل الفكرية والمقالات الأخرى، ويتعجب المرء: كيف اتسعت الحياة لرجل ليؤلف فيها كل هذه الكتب المتنوعة في فروع مختلفة من العلم، مع ما فيها من الدقة وغزارة العلم والتجديد والابتكار؟ لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد ألف ابن الهيثم في البصريات ما يقرب من أربعة وعشرين موضوعًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة، غير أن أكثر هذه الكتب قد فُقدت فيما فقد من تراثنا العلمي، وما بقي منها فقد ضمته مكتبات إستانبول ولندن وغيرهما، وقد سلم من الضياع كتابه العظيم “المناظر” الذي احتوى على نظريات مبتكرة في علم الضوء، وظل المرجع الرئيسي لهذا العلم حتى القرن السابع عشر الميلادي بعد ترجمته إلى اللاتينية.

والحسن بن الهيثم هو أول مَن بَيَّنَ خطأ نظرية إقليدس وغيره في أن شعاع الضوء ينبعث من العين ويقع على المبصَر، وقرر عكس هذه النظرية، في أن شعاع الضوء يخرج من الشيء المبصر ويقع على العين، واستدل بالتجربة والمشاهدة على أن امتداد شعاع الضوء يكون على خط مستقيم.

وعرف ابن الهيثم الأجسام الشفافة، وهي التي ينفذ منها الضوء ويدرك البصر ما وراءها كالهواء والماء، وبيّن أن الضوء إذا نفذ من وسط شفاف إلى آخر شفاف انعطف عن استقامته.

وبحث في انكسار الأشعة الضوئية عند نفاذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية، وبين أن كثافة الهواء في الطبقات السفلى أكبر منها في الطبقات العليا، وأن الهواء لا يمتد من غير نهاية، وإنما ينتهي عند ارتفاع معين، فإذا مر شعاع من الضوء خلال هذه الطبقات الهوائية المختلفة الكثافة فإنه ينكسر رويدًا رويدًا وينحني تدريجيًا نحو سطح الأرض، ويترتب على ذلك أن النجم أو الكوكب الذي ترقبه العين يظهر في موضع أقرب من موضعه الحقيقي، وأشار إلى الخطأ الذي ينشأ عن ذلك في الرصد وإلى وجوب تصحيحه.

وشرح الحسن بن الهيثم كيفية حدوث الرؤية، وبين في ذلك تركيب العين، وما يؤديه كل جزء من أجزائها من الأعمال، وقد عزى حدوث الرؤية إلى تكوّن صور المرئيات على ما نسميه الآن “شبكية العين” وانتقال التأثير الحاصل بوساطة العصب البصري، وعلل رؤية الشيء واحدًا على الرغم من النظر إليه بعينين اثنتين بوقوع الصورتين على جزأين متماثلين من الشبكية، وعالج موضوع العدسات وقوة تكبيرها. ويعد ما كتبه في هذا الموضوع ممهدًا لاستخدام العدسات لإصلاح عيوب العين.

وكان لهذه الجهود أثرها في تقدم ورقي علم الضوء ونيل تقدير العلماء، فوصفه جورج ساتون وهو من كبار مؤرخي العلم بقوله “هو أعظم عالم فيزيائي مسلم، وأحد كبار العلماء الذين بحثوا في البصريات في جميع العصور”، وقد تُرجمت بحوثه في البصريات إلى اللاتينية والإيطالية، فأفادت كبلر واعتمد عليها في بحوثه، وخلاصة القول أن ابن الهيثم جعل علم الضوء يتخذ صبغة جديدة، وينشأ نشأة أخرى غير نشأته الأولى، حتى أصبح أثره في علم الضوء يشبه تأثير نيوتن العام في علم الميكانيكا، فكانت المعلومات في علم الضوء قبل ابن الهيثم متفرقة لا يربطها رابط، فأعاد البحث فيها من جيد، واتجه في بحثه وجهة لم يسبقه إليها أحد من قبله، فأصلح الأخطاء وأتم النقص، وابتكر المستحدث من البحوث، وأضاف الجديد من الكشوف، واستطاع أو يؤلف من ذلك كله وحدة مترابطة الأجزاء، وأقام الأساس الذي انبنى عليه صرح علم الضوء.

وإلى جانب ذلك كانت له مساهماته في الهندسة، وله فيها ثمانية وخمسون مؤلفًا، تضم آراءه وبراهينه المبتكرة لمسائل تواترت عن إقليدس وأرشميدس بدون برهان أو في حاجة إلى شرح وإثبات. ويوجد في مكتبات العالم في القاهرة ولندن وباريس وإستانبول أكثر من واحد وعشرين مخطوطا لابن الهيثم في هذا التخصص، وفي الحساب والجبر والمقابلة ألّف ما لا يقل عن عشرة كتب، لا يوجد منها سوى مخطوطات قليلة في مكتبة عاطف بتركيا منها: حساب المعاملات، واستخراج مسألة عددية.

وفي الفلك أبدع ابن الهيثم وأسهم فيه بفاعلية حتى أُطلق عليه “بطليموس الثاني”، ولم يصلنا من تراث ابن الهيثم في الفلكيات إلا نحو سبع عشرة مقالة من أربعة وعشرين تأليفًا، تحدث فيها عن أبعاد الأجرام السماوية وأحجامها وكيفية رؤيتها وغير ذلك.

وله في الطب كتابان: أحدهما في “تقويم الصناعة الطبية” ضمّنه خلاصة ثلاثين كتابا قرأها لجالينوس، والآخر “مقالة في الرد على أبي الفرج عبد الله بن الطيب” لإبطال رأيه الذي يخالف فيه رأي جالينوس، وله أيضًا رسالة في تشريح العين وكيفية الإبصار.

انتقال أعماله إلى أوربا

وقد عني كمال الدين الفارسي ببحوث ابن الهيثم في البصريات ودرسها دراسة وافية وألف في ذلك كتابه المعروف “تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر”، وعن طريق هذا الكتاب عرفت أوروبا الكثير عن ابن الهيثم وأعماله وجهوده في علم الضوء، حيث نشر هذا الكتاب مترجمًا في مدينة بال بسويسرا سنة (980هـ= 1572)، وإن كان قد سبق نشره قبل اختراع الطباعة من قبل “جيرار دي كريمونا” أشهر المترجمين في إسبانيا، الذي اهتم بإنشاء أضخم مجموعة فلكية سنة (676هـ= 1277م) عن العلماء العرب، وهذه الكتب استفادت منها إسبانيا والبرتغال في رحلاتهما البحرية في المحيط الأطلنطي بفضل الأزياج الفلكية (الجداول الفلكية) والمعلومات الرياضية التي خلفها العلماء العرب.

وعن طريق هذه الترجمات لأعمال ابن الهيثم تأثر روجر بيكون وجون بيكام وفيتلو في بحوثهم، فكتاب جون بكان الموسوم بالمنظور ليس إلا اقتباسًا ناقصًا من كتاب ابن الهيثم في البصريات، وأما كتاب فيتلو الذي ألفه سنة (669هـ= 1270م) فمأخوذ في قسم كبير منه عن ابن الهيثم، ولا يتجاوز النتائج التي وصل إليها.

من مصادر الدراسة:

  • القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء ـ تحقيق يوليوس ليبرت ـ طبعة مصورة عن طبيعة ليزك ـ مكتبة المتنبي ـ القاهرة.

  • أحمد سعيد الدمرداش: الحسن بن الهيثم ـ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة 1969م.

  • مصطفى نظيف: علم الطبيعة نشوءه ورقية وتقدمه الحديث ـ مطبعة مصر ـ القاهرة 1927م.

  • قدري حافظ طوقان: تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك ـ (1382هـ= 1963م).

أحمد تمام

 

لم يجمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد، وتوفي دون أن يكون قد جمع في شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حيا يقرأ المسلمون القرآن بين يديه، ويسترشدون به في شأن القرآن وفي كل شيء؛ ومن ثم فلم تكن هناك حاجة ماسة إلى جمعه بين دفتي كتاب واحد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحفظ أصحابه ما ينزل عليه من القرآن عقب نزوله، وكان له كُتاب يكتبون بين يديه وبأمره وبإقراره ما ينزل عليه من القرآن، وكان إذا نزل عليه شيء من آيات السور الكبيرة يدعو بعض من يكتب له، فيقول: “ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا”، حتى تكتمل السورة بآياتها التابعة لها.

وروى أنس بن مالك أنه قال: “جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد”، وقول أنس لا يعني أن هؤلاء الأربعة هم الذين حفظوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون سواهم. يقول القرطبي: “قد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان، وعلي، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص”.

وكان الصحابة يكتبون القرآن في جريد النخل وأكتاف الإبل والرقاع. وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب ما يؤيد ذلك، فحين ذهب إلى بيت أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد ليبطش بهما لمّا بلغه إسلامهما سمع عندهما قرآنا يتلى، فلما ضرب أخته وشجها ندم على ما فعل، وطلب إليها أن تعطيه الصحيفة التي كان يقرءون فيها فإذا بها سورة طه. ودلالة هذا الخبر أن المسلمين كانوا يكتبون ما ينزل من القرآن أولا فأولا، منذ وقت مبكر.

وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور من حيث الكتابة فقط لا من حيث الحفظ في الصدور، وهذا يعني أن القرآن بترتيبه الحالي كان محفوظا في صدور الصحابة.

أبو بكر يأمر بالجمع

ترتب على انتصار المسلمين في معركة اليمامة أن استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم، وأثار هذا عمر بن الخطاب، وخشي أن تلتهم المعارك من بقي من الحفاظ -ومعركة اليمامة ليست إلا واحدة من الغزوات التي واجهت المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- وفكر عمر بن الخطاب في هذا، ولما استقر به الرأي ذهب إلى أبي بكر الصديق وهو بمجلسه من المسجد، فقال: “إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعه وإني لأرى أن تجمع القرآن”.

فقال له الخليفة: “كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟”، ولم يزل عمر بن الخطاب بالخليفة يقنعه بالرأي حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك.

زيد بن ثابت.. والمهمة التاريخية

وقع اختيار أبي بكر الصديق على زيد بن ثابت للقيام بهذه المهمة دون غيره من الصحابة وفيهم من هم أكبر منه سنا، وأقدم سابقة في الإسلام، وحسبك أن تعلم أن زيد بن ثابت حين أوكل إليه الصديق هذا العمل كان سنه لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، فأي ثقة هذه التي تجعل الصديق يقدم على هذا العمل، وأي كفاءة يحملها زيد بن ثابت تجعل الصديق يعهد إليه للقيام بهذا العمل!

لقد أوجز الصديق مبررات اختياره في جملة قصيرة هي: “إنك رجل شاب، عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن واجمعه”.

وهذه الجملة تحمل بين طياتها ثلاثة أمور مهمة هي:

– الشباب والجلد والقدرة على تحمل أعباء العمل في جد ومثابرة.

– الأمانة التي تجعل صاحبها يراعي الله ويراقبه في كل خطوة.

– سابق التجربة والخبرة، فقد كان ثابت يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر القرطبي عن أبي بكر الأنباري قوله: “ولم يكن الاختيار لزيد بن ثابت من جهة أبي بكر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن -وعبد الله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل- إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله”، ثم يعقب بقوله: “فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار”.

وزيد بن ثابت كان معروفا بكمال الدين وحسن السيرة والعدالة والعلم، وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعلم أصحابه بالفرائض، وكان من الصحابة الستة أصحاب الفتوى، وهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن، وكتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات.

وعرف زيد بن ثابت بأنه كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي، واختصه النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمره بتعلم لغة اليهود، ليكتب النبي إليهم وليقرأ له ما يكتبون .. وكان يستخلفه إذا حج، وكان معه حين قدم الشام.

آليات العمل .. والتحقيق العلمي

اتبع زيد بن ثابت منهجا دقيقا منضبطا أعان على وقاية القرآن من كل ما لحق النصوص المقدسة الأخرى من مظنة الوضع والانتحال، وحفظه من عوامل النسيان والضياع. وكانت آلية الجمع تلتزم بالآتي:

– كان كل من تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن يأتي به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب.

– وكان زيد بن ثابت لا يكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ والمبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا، وما ثبت أنه عُرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته، وما ثبت أنه من الوجوه التي نزل بها القرآن.

– وكانت كتابة الآيات والسور على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

– ولا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، أي إنه لم يكن يكتفي بمجرد وجدان الشيء من القرآن مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه مسموعا، مع كون زيد كان يحفظ، لكنه كان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط.

– وأمر أبو بكر أن يجلس عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت على باب المسجد، ولا يكتبا إلا من جاءهما بشاهدين على أن ذلك المكتوب من القرآن كُتب بين يدي رسول الله.

وبهذه الدقة العلمية والاحتياط الشديد جُمع القرآن الكريم، وحظي هذا العمل برضى المسلمين، وقال عنه الإمام علي بن أبي طالب: “أعظم الناس في المصاحف أجرا: أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين” … ولا شك أن جمع القرآن أعظم أعمال أبي بكر، وأكثرها بركة على الإسلام والمسلمين والناس أجمعين.

اقرأ أيضا:

  • معنى الأحرف السبعة

  • الأحرف السبعة والمراد بها في القرآن الكريم

  • نزول القرآن على سبعة أحرف

  • هل نزل القرآن كاملا في ليلة القدر؟

أحمد تمام

 

غلاف كتاب الكامل في التاريخ

كانوا ثلاثة إخوة، برزوا في علوم اللغة والأدب والتاريخ والحديث والفقه، واشتهر كل واحد منهم بـ”ابن الأثير”، وهم جميعا من أبناء بلدة “جزيرة ابن عمر” التابعة للموصل، وكان أبوهم من أعيان هذه البلدة وأثريائها، أما أكبرهم فهو مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد، فقيه محدث، اشتغل بدراسة القرآن والحديث والنحو حتى صار علما بارزا، وترك مؤلفات عظيمة أشهرها: “جامع الأصول في أحاديث الرسول” جمع فيه الكتب الصِّحَاح الستة، وتوفي سنة (606هـ= 1209م).

وأما أصغرهم فهو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله، المعروف بضياء الدين بن الأثير، الكاتب الأديب، أتقن صنعة الكتابة، واشتهر بها بجودة أسلوبه وجمال بيانه، التحق بخدمة صلاح الدين وأبنائه في حلب ودمشق، وترك مصنفات أدبية قيّمة، أشهرها: “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر”، وهو من أهم الكتب التي تعالج فن الكتابة وطرق التعبير، وتوفي سنة (637هـ= 1239م).

أما أوسطهم فهو عز الدين بن الأثير المؤرخ الكبير، وهو موضع حديثنا.

المولد والنشأة

ولد علي بن أبي الكرم محمد بن محمد المعروف بعز الدين بن الأثير في (4 من جمادى الآخرة سنة 555هـ= 13 من مايو 1160م) بجزيرة ابن عمر، وعني أبوه بتعليمه، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم استكمل دراسته بالموصل بعد أن انتقلت إليها أسرته، وأقامت بها إقامة دائمة، فسمع الحديث من أبي الفضل عبد الله بن أحمد، وأبي الفرج يحيى الثقفي، وتردد على حلقات العلم التي كانت تُعقد في مساجد الموصل ومدارسها، وكان ينتهز فرصة خروجه إلى الحج، فيعرج على بغداد ليسمع من شيوخها الكبار، من أمثال أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصدمي. ورحل إلى الشام وسمع من شيوخها، ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للتأليف والتصنيف.

ثقافته

في رحلته الطويلة لطلب العلم وملاقاة الشيوخ، والأخذ منهم، درس ابن الأثير الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات؛ لأن هذه العلوم كان يجيدها الأساتذة المبرزون ممن لقيهم ابن الأثير، غير أنه اختار فرعين من العلوم وتعمق في دراستهما هما: الحديث والتاريخ، حتى أصبح إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وأحبارهم، عارفًا بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة.

وعن طريق هذين العلمين بنى ابن الأثير شهرته في عصره، وإن غلبت صفة المؤرخ عليه حتى كادت تحجب ما سواها. والعلاقة بين التخصصين وثيقة جدا؛ فمنذ أن بدأ التدوين ومعظم المحدثين العظام مؤرخون كبار، خذ مثلا الإمام الطبري، فهو يجمع بين التفسير والفقه والتاريخ، والإمام الذهبي كان حافظا متقنا، وفي الوقت نفسه كان مؤرخا عظيما، وكذلك كان الحافظ ابن عساكر بين هاتين الصفتين… والأمثلة كثيرة يصعب حصرها.

مؤلفاته

وقد توافرت لابن الأثير المادة التاريخية التي استعان بها في مصنفاته، بفضل صلته الوثيقة بحكام الموصل، وأسفاره العديدة في طلب العلم، وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية من قبل صاحب الموصل، ومصاحبته صلاح الدين في غزواته -وهو ما يسر له وصف المعارك كما شاهدها- ومدارسته الكتب وإفادته منها، ودأبه على القراءة والتحصيل، ثم عكف على تلك المادة الهائلة التي تجمعت لديه يصيغها ويهذبها ويرتب أحداثها حتى انتظمت في أربعة مؤلفات، جعلت منه أبرز المؤرخين المسلمين بعد الطبري وهذه المؤلفات هي:

-الكامل في التاريخ، وهو في التاريخ العام.

-والتاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، وهو في تاريخ الدول، ويقصد بالدولة الأتابكية الدولة التي أسسها عماد الدين زنكي في الموصل سنة (521هـ = 1127م) وهي الدولة التي عاش في كنفها ابن الأثير.

-وأسد الغابة في معرفة الصحابة، وهو في تراجم الصحابة.

-واللباب في تهذيب الأنساب، وهو في الأنساب.

وبذلك يكون ابن الأثير قد كتب في أربعة أنواع من الكتابة التاريخية، وسنتعرض لاثنين منهما بإيجاز واختصار.

الكامل في التاريخ

وهو تاريخ عام في 12 مجلدًا، منذ الخليقة وابتداء أول الزمان حتى عصره، حيث انتهى عند آخر سنة (628هـ) أي إنه يعالج تاريخ العالم القديم حتى ظهور الإسلام، وتاريخ العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى عصره، والتزم في كتابه بالمنهج الحولي في تسجيل الأحداث، فهو يسجل أحداث كل سنة على حدة، وأقام توازنًا بين أخبار المشرق والمغرب وما بينهما على مدى سبعة قرون وربع قرن، وهو ما أعطى كتابه طابع التاريخ العام أكثر أي تاريخ عام لغيره، وفي الوقت نفسه لم يهمل الحوادث المحلية في كل إقليم، وأخبار الظواهر الجوية والأرضية من غلاء ورخص، وقحط وأوبئة وزلازل.

ولم يكن ابن الأثير في كتابه ناقل أخبار أو مسجل أحداث فحسب، وإنما كان محللا ممتازا وناقدا بصيرا؛ حيث حرص على تعليل بعض الظواهر التاريخية ونقد أصحاب مصادره، وناقش كثيرا من أخبارهم.. وتجد لديه النقد السياسي والحربي والأخلاقي والعملي يأتي عفوا بين ثنايا الكتاب، وهو ما جعل شخصيته التاريخية واضحة تماما في كتابة على الدوام.

وتعود أهمية الكتاب إلى أنه استكمل ما توقف عنده تاريخ الطبري في سنة (302هـ) وهي السنة التي انتهى بها كتابه، فبعد الطبري لم يظهر كتاب يغطي أخبار حقبة تمتد لأكثر من ثلاثة قرون، كما أن الكتاب تضمن أخبار الحروب الصليبية مجموعة متصلة منذ دخولهم في سنة (491=1097) حتى سنة (628هـ= 1230)، كما تضمن أخبار الزحف التتري على المشرق الإسلامي منذ بدايته في سنة (616هـ= 1219م). وقد كتب ابن الأثير تاريخه بأسلوب نثري مرسل لا تكلف فيه، مبتعدا عن الزخارف اللفظية والألفاظ الغريبة، معتنيا بإيراد المادة الخبرية بعبارات موجزة واضحة.

أُسْد الغابة

غلاف كتاب أسد الغابة

وموضوع هذا الكتاب هو الترجمة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين حملوا مشعل الدعوة، وساحوا في البلاد، وفتحوا بسلوكهم الدول والممالك قبل أن يفتحوها بالطعن والضرب. وقد رجع ابن الأثير في هذا الكتاب إلى مؤلفات كثيرة، اعتمد منها أربعة كانت عُمُدًا بالنسبة له، هي: “معرفة الصحابة” لأبي نعيم، و”الاستيعاب في معرفة الأصحاب” لابن الأثير، و”معرفة الأصحاب” لابن منده، و”الذيل على معرفة الأصحاب” لابن منده.

وقد اشتمل الكتاب على ترجمة (7554) صحابيا وصحابية تقريبا، يتصدره توطئه لتحديد مفهوم الصحابي؛ حتى يكون القارئ على بينه من أمره. والتزم في إيراد أصحابه الترتيب الألفبائي، ويبتدئ ترجمته للصحابي بذكر المصادر التي اعتمد عليها، ثم يشرع في ذكر اسمه ونسبه وهجرته إن كان من المهاجرين، والمشاهد التي شهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إن وجدت، ويذكر تاريخ وفاته وموضعها إن كان ذلك معلوما، وقد طبع الكتاب أكثر من مرة.

وفاته

ظل ابن الأثير بعد رحلاته مقيما بالموصل، منصرفا إلى التأليف، عازفا عن المناصب الحكومية، متمتعا بثروته التي جعلته يحيا حياة كريمة، جاعلا من داره ملتقى للطلاب والزائرين حتى توفي في (شعبان 639هـ= 1232م).

من مصادر الدراسة:

  • عبد القادر أحمد طليمات: ابن الأثير الجزري المؤرخ- دار الكتاب العربي – القاهرة 1969.

  • شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون – دار العلم للملايين – القاهرة – 1987.

  • ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر- بدون تاريخ.

  • السيد الباز العريني: مؤرخو الحروب الصليبية – دار النهضة العربية – بيروت – 1962م.

  • نظير حسان سعداوي: المؤرخون المعاصرون لصلاح الدين الأيوبي – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – 1962م.

 

سماحة الشيخ فيصل مولوي

أ- هَدف الزكاة بالنسبة للمزكّي

ب- هَدف الزَّكاة بالنِّسبة للآخذ

جـ- أهداف الزكاة وآثارها في المجتمع

 

يتحققُ بالزكاة جملة أهداف نوجزها فيما يلي:

أ- هَدف الزكاة بالنسبة للمزكّي:

1- الزكاة تُطَهر صاحبها من الشُّح وتُحرِّرُه من عُبوديَّة المال، وهذان مَرضان من أَخطر الأمراض النَّفسية التي يَنحطُّ معها الإنسان ويشقى، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فأولئك هُمُ المُفلِحُون} [سورة الحشر: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَم، تَعِسَ عبد القَطيفَة…” رواه البخاري.

2- الزَّكاة تدريبٌ على الإِنفاق في سَبيلِ الله، وقد ذَكر الله تعالى الإِنفاق في سَبيل الله على أنَّه صفةٌ ملازمة للمتَّقين في سرّائهم وضَرّائهم، في سِرّهم وعَلَنهم، وَقَرنها من أَهمّ صفاتهم على الإِطلاق… قَرنها بالإِيمان بالغيب والاستغفار بالأَسحار، والصَّبر والصدق، والقُنوت، ولا يَستطيع الإِنسان الوصول إلى الإِنفاق الواسع في سَبيل الله، إلاّ بعد أن يعتادَ أداء الزكاة، وهي الحدّ الأَدنى الواجب إنفاقه.

3- والزَّكاة شكرٌ لنعمة الله، وعلاجٌ للقلب من حُبِّ الدنيا، وتزكية للنفس. قال تعالى: { خُذْ من أموالِهم صَدَقةً تُطَهِّرهُم وتُزكِّيهم بها… } [التوبة: 103]، كما أنّها تزكية للمال نَفسه ونماءٌ له، قال تعالى: {وما أَنفَقْتُم مِن شَيْءٍ فهُوَ يُخلِفه وهو خَير الرَّازقين} [سبأ: 39].أعلى

ب- هَدف الزَّكاة بالنِّسبة للآخذ:

1- الزَّكاة تحرر آخذها من الحاجة، سواء كانت مادّية – كالمأكل والملبس والمسكن – أو كانت حاجةً نفسية حَيوية – كالزواج – أو حاجة مَعنوية فكرية ككتب العلم؛ لأنَّ الزكاة تُصرف في جَميع هذه الحاجات، وبذلك يَستطيع الفَقير أن يشارِك في واجباته الاجتماعية، وهو يَشعر أنَّه عضوٌ حي في جسم المجتمع، بدل أن يظل مشغولاً بالسَّعي وراء اللُّقمة مستغرَقاً بهموم الحياة.

2- والزَّكاة تطهِّر آخذها من داء الحَسد والبَغضاء؛ لأن الإِنسان الفقير المحتاج حين يرى مَن حوله من النّاس يَعيشون حياة الرَّخاء والتَّرف، ولا يَمدُّون له يَد العون، فإنَّه قلما يَسلم قلبه من الحسد والحقد والبغضاء عليهم وعلى المجتمع كله. وهكذا تنقطع أواصر الأخوة، وتذهب عواطف المحبة، وتتمزق وحدة المجتمع.

ثم إن الحسد والبغضاء آفات تَنخر في كيان الفَرد النَّفسي والجسمي، وتسبب له كثيراً من الأمراض كقرحة المعدة وضغط الدم، كما أنها آفات تنخر في كيان المجتمع كله، ولذلك حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم منها فقال: “دَبَّ إليكم داءُ الأُمم من قبلكم: الحَسَدُ والبَغضاء. والبَغضاء هي الحالِقة، أَما أني لا أقول تَحلِق الشَّعر، ولكن تحلِقُ الدِّين” رواه البزّار بإسناد جيد، والبيهقي.أعلى

جـ- أهداف الزكاة وآثارها في المجتمع:

من مزايا الزكاة في الإسلام أنها عبادة فردية ونظام اجتماعي في آن واحد، وهي كنظام يحتاج تنفيذه إلى موظفين يَقومون بجبايتها من الأَغنياء، وتوزيعها على مصارفها الشرعية، وهؤلاء هم العاملون عليها، الذين يتقاضون أجورهم منها. ولأن الزكاة جزء من تنظيم المجتمع الإسلامي كان لها آثار كثيرة في هذا المجتمع، نوجزها بما يلي:

كانت الزكاة أول تَشريع منظَّم حقَّق الضمان الاجتماعي بشكل كامل وشامل. كتب الإِمام الزهري لِعمر بن عَبد العزيز عن الزَّكاة: إن فيها نَصِيباً للزمنى والمقعَدِين، ونَصِيباً لكلِّ مِسكين به عاهة لا يستطيع عيْلة ولا تقلُّباً في الأرض، ونصيباً للمساكين الذين يَسألون ويَستَطْعِمون، ونصيباً لمن في السُّجون من أَهل الإسلام ممَّن ليسَ له أَحد، ونصيباً لمن يَحضر المساجد من المساكين الذين لا عَطاء لهم ولا سَهم -أي ليست لهم رواتب منتَظِمة- ولا يسألون الناس، ونَصيباً لمن أصابه فَقرٌ وعَليه دين، ونصيباً لكلِّ مسافر لَيس له مأوى ولا أَهل يأوي إليهم…

2- وللزكاة دور مهم في تَنشيط الحركة الاقتصادية؛ لأن المسلم إذا كَنز ماله فهو مضطر لأن يدفع الزكاة عنه بمقدار أدناه 2.5% كل سنة، مما يؤدي إلى نفادِه. لذلك فهو حريص على الاتِّجار به حتى يؤدي الزكاة من أرباحه وبذلك يخرج المال من الكنز إلى التَّداول، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتستفيد الأمّة كلها من أموالها جميعاً.

3- والزكاة تؤدي إلى تقليل الفوارق بين الناس. إن الإسلام يُقر التفاوت في الأرزاق؛ لأنّه نتيجة للتَّفاوت في المواهب والطَّاقات، ولكنه يرفض أن يصير الناس طبقتين، واحدة تَعيش في النعيم، وأخرى في الجحيم، ويحرص على أن يشارك الفُقراء الأغنياء في النعيم، ويحرص على تَمليكهم ما يسدُّ حاجاتهم جميعاً. والزَّكاة إحدى الوسائل الكثيرة التي يَستعملها الإسلام لبلوغ هذه الغاية.

4- وللزكاة دَور كبير في القَضاء على التَّسوُّل، وفي التَّشجيع على إصلاح ذات البين، ولو اضطر المصلحون إلى تَحمل أعباء مالية، لأنها يمكن أن تؤدى من الزكاة.

5- والزكاة تساعد على إيجاد البديل الإسلامي لشركات التأمين التجارية، التي تأخذ من الفرد القَليل وتربح الكثير لجيوب أصحابها الأغنياء. أما الزَّكاة فهي تؤخذ من الأغنياء لتعطى للمنكوبين من الفُقراء، وشتان بين هذا وذاك.

6- وللزَّكاة دور كبير أيضاً في تَشجيع الشَّباب على الزواج، عن طريق مساعدتهم على تكاليفه، وقد قرر الفُقهاء أن الذي لا يستطيع الزَّواج بسبب فقره يعطى من الزَّكاة ما يُعينه على الزّواج لأنه من تَمام الكِفاية.

اقرأ أيضًا:

  • فقه الزكاة

  • أهداف الزكاة وآثارها

  • زكاة الفطر

  • فتاوى هامة حول زكاة الفطر

أحمد تمام

 

الشيخ عبد الحليم محمود 

تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر في ظروف بالغة الحرج، وذلك بعد مرور أكثر من 10 سنوات على صدور قانون الأزهر سنة (1381هـ= 1961م) الذي توسع في التعليم المدني ومعاهده العليا، وألغى جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده في إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، وهو الأمر الذي عجّل بصدام عنيف بين محمود شلتوت شيخ الأزهر الذي صدر القانون في عهده وبين تلميذه الدكتور محمد البهي الذي كان يتولى منصب وزارة الأوقاف، وفشلت محاولات الشيخ الجليل في استرداد سلطاته، وإصلاح الأوضاع المقلوبة.

ولم يكن أكثر الناس تفاؤلا يتوقع للشيخ عبد الحليم محمود أن يحقق هذا النجاح الذي حققه في إدارة الأزهر، فيسترد للمشيخة مكانتها ومهابتها، ويتوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية على نحو غير مسبوق، ويجعل للأزهر رأيا وبيانا في كل موقف وقضية، حيث أعانه على ذلك صفاء نفس ونفاذ روح، واستشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، وثقة في الله عالية، جعلته يتخطى العقبات ويذلل الصعاب.

رحلة حياة

ولد عبد الحليم محمود في قرية أبو الحمد من ضواحي مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في (2 من جمادى الأولى سنة 1328هـ= 12من مايو 1910م)، ونشأ في أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان أبوه ممن تعلم بالأزهر لكنه لم يكمل دراسته فيه.

بعد أن أكمل الصبي حفظ القرآن الكريم التحق بالأزهر، وحصل على الشهادة العالمية سنة (1351هـ=1932م) ثم سافر على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي في باريس، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراة في التصوف الإسلامي، عن الحارث المحاسبي في سنة (1359هـ= 1940م).

وبعد عودته إلى مصر عمل مدرسا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، وتدرج في مناصبها العلمية حتى عين عميدا للكلية سنة (1384هـ= 1964م) ثم اختير عضوا في مجمع البحوث الإسلامية، ثم أمينا عاما له، ثم اختير وكيلا للأزهر سنة (1390هـ= 1970م) ثم وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر.

وللشيخ أكثر من 60 مؤلفا في التصوف والفلسفة، بعضها بالفرنسية، ومن أشهر كتبه: أوربا والإسلام، والتوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، وأسرار العبادات في الإسلام، والتفكير الفلسفي في الإسلام، والقرآن والنبي، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي.

إرهاصات الإصلاح

بدت بوادر الإصلاح واضحة في سلوك الشيخ عبد الحليم محمود بعد توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية الذي حل محل جماعة كبار العلماء، فبدأ بتكوين الجهاز الفني والإداري للمجمع من خيار رجال الأزهر، وتجهيزه بمكتبة علمية ضخمة استغل في تكوينها صداقاته وصلاته بكبار المؤلفين والباحثين وأصحاب المروءات.

وعمل الشيخ على توفير الكفايات العلمية التي تتلاءم ورسالة المجمع العالمية، وفي عهده تم عقد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، وتوالى انعقاده بانتظام، كما أقنع المسئولين بتخصيص قطعة أرض فسيحة بمدينة نصر لتضم المجمع وأجهزته العلمية والإدارية، ثم عني بمكتبة الأزهر الكبرى، ونجح في تخصيص قطعة أرض مجاورة للأزهر لتقام عليها.

وأثناء توليه لوزارة الأوقاف عني بالمساجد عناية كبيرة، فأنشأ عددا منها، وضم عددا كبيرا من المساجد الأهلية، وجدد المساجد التاريخية الكبرى مثل جامع عمرو بن العاص أقدم المساجد في إفريقيا، وأوكل الخطبة فيه إلى الشيخ محمد الغزالي فدبت فيه الروح، وعادت إليه الحياة بعد أن اغتالته يد الإهمال، وتدفقت إليه الجماهير من كل صوب وحدب، وأنشأ بمساجد الوزارة فصولا للتقوية ينتفع بها طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية جذبت آلافا من الطلاب إلى المساجد وربطتهم بشعائر دينهم الحنيف.

ورأى أن للوزارة أوقافا ضخمة تدر ملايين الجنيهات أخذها الإصلاح الزراعي لإدارتها لحساب الوزارة، فلم تعد تدر إلا القليل، فاستردها من وزارة الإصلاح الزراعي، وأنشأ هيئة كبرى لإدارة هذه الأوقاف لتدر خيراتها من جديد، وعلم أن هناك أوقافا عدت عليها يد الغصب أو النسيان، فعمل على استرداد المغتصب، وإصلاح الخرب.

استعادة هيبة الأزهر وشيخه

صدر قرار تعيين الشيخ عبد الحليم محمود شيخا للأزهر في (22 من صفر 1393هـ= 27 من مارس 1973م)، وكان هذا هو المكان الطبيعي الذي أعدته المقادير له، وما كاد الشيخ يمارس أعباء منصبه وينهض بدوره على خير وجه حتى بوغت بصدور قرار جديدمن رئيس الجمهورية في (17 من جمادى الآخرة 1394هـ= 7 من يوليو 1974م) يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقى له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، وما كان من الشيخ إلا أن قدم استقالته لرئيس الجمهورية على الفور، معتبرا أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية في مصر والعالم العربي والإسلامي.

روجع الإمام في أمر استقالته، وتدخل الحكماء لإثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر على استقالته، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض تناول راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه الاستقالة دويا هائلا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وتقدم أحد المحامين الغيورين برفع دعوى حسبة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف، طالبا وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية.

وإزاء هذا الموقف الملتهب اضطر أنور السادات إلى معاودة النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلى نصابه، جاء فيه: شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر.

وتضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه في الأسبقية قبل الوزراء مباشرة، وانتهت الأزمة وعاد الشيخ إلى منصبه ليواصل جهاده. وجدير بالذكر أن قرارا جمهوريا صدر بعد وفاة الشيخ بمساواة منصب شيخ الأزهر بمنصب رئيس الوزراء.

مسئولية شيخ الأزهر

كان الشيخ عبد الحليم يدرك خطورة منصبه، وأنه مسئول عن القضايا التي تتعلق بالمسلمين، وأنه لا ينتظر من أحد توجيها إلى النظر في بعض القضايا وغض النظر عن بعضها، فكان للأزهر في عهده رأي ومقال في كل قضية وموضوع يتعلق بأمر المسلمين، فتصدى لقانون الأحوال الشخصية الذي حاولت الدكتورة عائشة راتب إصداره دون الرجوع إلى الأزهر، وحرصت على إقراره من مجلس الشعب على وجه السرعة، وكان هذا القانون قد تضمن قيودا على حقوق الزوج على خلاف ما قررته الشريعة الإسلامية.

ولما علم الإمام الأكبر بهذا القانون أصدر بيانا قويا حذر فيه من الخروج على تعاليم الإسلام، وأرسله إلى جميع المسئولين وأعضاء مجلس الشعب وإلى الصحف، ولم ينتظر صدور القانون بل وقف في وجهه قبل أن يرى النور، لكن بيان الشيخ تآمرت عليه قوى الظلام فصدرت التعليمات إلى الصحف بالامتناع عن نشره، واجتمعت الحكومة للنظر في بيان الشيخ عبد الحليم محمود، ولم تجد مفرا من الإعلان عن أنه ليس هناك تفكير على الإطلاق في تعديل قانون الأحوال الشخصية، وبذلك نجح الإمام في قتل القانون في مهده.

الكتب الدينية المشتركة

اقترح البابا شنودة بطريرك الأقباط في مصر تأليف كتب دينية مشتركة ليدرسها الطلبة المسلمون والمسيحيون جميعا في المدارس، مبررا ذلك بتعميق الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة، وتقوية الروابط بينهما.

لقي هذا الاقتراح قبولا بين كبار المسئولين، وزار الدكتور مصطفى حلمي وزير التربية والتعليم آنذاك الإمام الأكبر ليستطلع رأيه في هذا الاقتراح، لكن الشيخ الغيور واجه الوزير بغضبة شديدة قائلا له: من آذنك بهذا، ومن الذي طلبه منك، إن مثل هذه الفكرة إذا طلبت فإنما توجه إلينا من كبار المسئولين مباشرة، ويوم يطلب منا مثل هذه الكتب فلن يكون ردي عليها سوى الاستقالة.

وما كان من الوزير إلا أن استرضى الشيخ الغاضب وقدم اعتذارا له قائلا له: إنني ما جئت إلا لأستطلع رأي فضيلتكم وأعرف حكم الدين، ويوم أن تقدم استقالتك لهذا السبب فسأقدم استقالتي بعدك مباشرة.

المحاكم العسكرية غير مؤهلة

ومن مواقف الشيخ الشجاعة ما أبداه تجاه المحكمة العسكرية التي تصدت للحكم في قضية جماعة التكفير والهجرة المصرية، وكانت المحكمة قد استعانت بعدد من علماء الأزهر لإبداء الرأي في فكر هذه الجماعة، غير أن المحكمة لم تسترح لرأيهم، وكررت ذلك أكثر من مرة، وكانت في عجلة من أمرها؛ الأمر الذي جعلها تصدر أحكاما دون استئناس برأي الأزهر.

ولم تكتف هذه المحكمة بذلك بل تضمن حكمها هجوما على الأزهر وعلمائه، وقالت: إنه كان على المسئولين عن الدعوة الدينية أن يتعهدوا الأفكار بالبحث والتدبر بدلا من إهمالها وعدم الاعتناء بمجرد بحثها.

ولمزت المحكمة علماء الأزهر بقولها: “وواأسفا على إسلام ينزوي فيه رجال الدين في كل ركن هاربين متهربين من أداء رسالتهم أو الإفصاح عن رأيهم أو إبداء حكم الدين فيما يعرض عليهم من أمور، فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر على أداء الرسالة”.

وكانت كلمات المحكمة قاسية وغير مسئولة وتفتقد إلى الموضوعية والأمانة، وهو ما أغضب الإمام الأكبر لهذا الهجوم العنيف، فأصدر بيانا امتنعت معظم الصحف اليومية عن نشره، ولم تنشره سوى صحيفة الأحرار.

وفي هذا البيان اتهم عبد الحليم محمود المحكمة بالتعجل وعدم التثبت، وأنها لم تكن مؤهلة للحكم على هذا الفكر، وأنها تجهل الموضوع الذي تصدرت لمعالجته، وكان يجب عليها أن تضم قضاة شرعيين يقفون موقفها ويشاركونها المسئولية ويتمكنون من الاطلاع على جميع ظروف القضية ونواحيها فيتمكنون من إصدار الحكم الصحيح.

واتهم الإمام المحكمة بأنها لم تمكن علماء الأزهر من الاطلاع على آراء هذا التنظيم أو الاستماع إلى شرح من أصحابه، والاطلاع على كافة الظروف التي أدت بهم إلى هذا الفكر، واكتفت بأن عرضت عليهم المحضر الذي سجلته النيابة من أقوال ومناقشات، وهذا لا يرقى أن يكون مصدرا كافيا يقوم عليه بحث العلماء، أو أساسا متكاملا تصدر عليه أحكام.

التوسع في إنشاء المعاهد الأزهرية

تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر في وقت اشتدت فيه الحاجة لإقامة قاعدة عريضة من المعاهد الدينية التي تقلص عددها وعجزت عن إمداد جامعة الأزهر بكلياتها العشرين بأعداد كافية من الطلاب، وهو الأمر الذي جعل جامعة الأزهر تستقبل أعدادا كبيرة من حملة الثانوية العامة بالمدارس، وهم لا يتزودون بثقافة دينية وعربية تؤهلهم أن يكونوا حماة الإسلام.

وأدرك الشيخ خطورة هذا الموقف فجاب القرى والمدن يدعو الناس للتبرع لإنشاء المعاهد الدينية، فلبى الناس دعوته وأقبلوا عليه متبرعين، ولم تكن ميزانية الأزهر تسمح بتحقيق آمال الشيخ في التوسع في التعليم الأزهري، فكفاه الناس مئونة ذلك، وكان لصلاته العميقة بالحكام وذوي النفوذ والتأثير وثقة الناس فيه أثر في تحقيق ما يصبو إليه، فزادت المعاهد في عهده على نحو لم يعرفه الأزهر من قبل.

تطبيق الشريعة الإسلامية

ومن أهم دعوات الشيخ دعوته إلى تطبيق الشريعة الإسلامية من ميادين الجهاد التي خاضها في صبر وجلد داعيا وخطيبا ومحاضرا ومخاطبا المسئولين في البلاد، فكتب إلى كل من سيد مرعي رئيس مجلس الشعب، وممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء يطالبهما بالإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية، ويقول لهمها: “لقد آن الأوان لإرواء الأشواق الظامئة في القلوب إلى وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا يسرا وبخوفنا أمنا…”.

ولم يكتف الإمام الأكبر بإلقاء الخطب والمحاضرات وإذاعة الأحاديث، بل سلك سبيل الجهاد العلمي، فكون لجنة بمجمع البحوث الإسلامية لتقنين الشريعة الإسلامية في صيغة مواد قانونية تسهل استخراج الأحكام الفقهية على غرار القوانين الوضعية، فأتمت اللجنة تقنين القانون المدني كله في كل مذهب من المذاهب الأربعة.

الاهتمام بأمور المسلمين

كان الشيخ عبد الحليم محمود يستشعر أنه إمام المسلمين في كل أنحاء العالم، وأنه مسئول عن قضاياهم، وكان هؤلاء ينظرون إليه نظرة تقدير وإعجاب، فهم يعتبرونه رمز الإسلام وزعيم المسلمين الروحي، ولهذا كان يخفق قلب الإمام لكل مشكلة تحدث في العالم الإسلامي، ويتجاوب مع كل أزمة تلمّ ببلد إسلامي.

فقد أصدر بيانا بشأن الأحداث الدامية والحرب الأهلية في لبنان، دعا الأطراف المتنازعة من المسلمين والمسيحيين إلى التوقف عن إراقة الدماء وتخريب معالم الحياة، وأهاب بزعماء العرب والمسلمين إلى المسارعة في معاونة لبنان على الخروج من أزمته، وفاء بحق الإسلام وحق الأخوة الوطنية والإنسانية، وقياما ببعض تبعات الزعامة والقيادة التي هي أمانة الله في أعناقهم.

ولم يكتف الشيخ بذلك بل أرسل برقية إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية يناشده العمل بحسم وعزم على وقف النزيف الدموي الذي أسالته المؤامرات المعادية على أرض لبنان.

الأزمة المغربية الجزائرية

قامت أزمة عنيفة بين المغرب والجزائر بشأن مشكلة الصحراء الغريبة التي كانت أسبانيا تحتلها، وأدى الخلاف بينهما إلى مناوشات حربية كادت تتحول إلى حرب عنيفة.

ولما علم الإمام بأخبار هذه التحركات سارع إلى إرسال برقية إلى كل من ملك المغرب ورئيس الجزائر، دعاهما إلى التغلب على نوازع الخلاف وعوامل الشقاق والفرقة، وأن يبادرا بتسوية مشكلاتهما وموضوعات الخلاف بينهما بالتفاهم الأخوي والأسلوب الحكيم، وناشدهما باسم الإسلام أن يلقيا السلاح وأن يحتكما إلى كتاب الله.

وأرسل في الوقت نفسه برقية إلى الرئيس السادات يرجوه التدخل للصلح بين القطرين الشقيقين، جاء فيها: “تتعلق بزعامتكم قلوب المسلمين من العرب والمسلمين الذين ينتظرون مساعيكم الحميدة في إصلاح ذات البين بمناسبة الصدام المسلح المؤسف بين البلدين الشقيقين الجزائر والمغرب”.

وقد رد السادات على برقية شيخ الأزهر ببرقية يخبره فيه بمساعيه للصلح بين الطرفين جاء فيها: “تلقيت بالتقدير برقيتكم بشأن المساعي لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب، وأود أن أؤكد لكم أن مصر تقوم بواجبها القومي من أجل مصالح العرب والمسلمين، وما زال السيد محمد حسني مبارك نائب الرئيس يقوم بمهمته المكلف بها، أرجو الله عز وجل أن يكلل جهوده بالنجاح والتوفيق…”.

وفي الوقت نفسه أرسل برقية إلى خالد بن عبد العزيز عاهل المملكة السعودية آنذاك يدعوه للتدخل إلى حقن الماء بين الشقيقين وفض النزاع بينهما، وقد أحدثت هذه البرقيات أصداء قوية، وكانت عاملا في هدوء الحالة بين الدولتين الشقيقتين.

وفاة الشيخ

لقد كانت حياة الشيخ عبد الحليم محمود جهادا متصلا وإحساسا بالمسئولية التي يحملها على عاتقه، فلم يركن إلى اللقب الكبير الذي يحمله، أو إلى جلال المنصب الذي يتقلده، فتحرك في كل مكان يرجو فيه خدمة الإسلام والمسلمين، وأحس الناس فيه بقوة الإيمان وصدق النفس، فكان يقابل مقابلة الملوك والرؤساء، بل أكثر من ذلك؛ حيث كانت الجموع المحتشدة التي هرعت لاستقباله في الهند وباكستان وماليزيا وإيران والمغرب وغيرها تخرج عن حب وطواعية لا عن سوق وحشد وإرهاب.

وفي ظل هذا النشاط الجم والرحلات المتتابعة لتفقد المسلمين شعر بآلام شديدة بعد عودته من الأراضي المقدسة فأجرى عملية جراحية لقي الله بعدها في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق (15 من ذي القعدة 1397هـ= 17من أكتوبر 1978م) تاركا ذكرى طيبة ونموذجا لما يجب أن يكون عليه شيخ الأزهر.

اقرأ أيضًا:

  • أحمد الدمنهوري.. شيخ الأزهر الجيولوجي

  • الخضر حسين: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز

  • حسنين مخلوف.. فتاوى لا ترضي الساسة

  • الشناوي.. نادى بالجهاد وألغى البغاء

  • جاد الحق.. لمحات من مسيرة إصلاحية

  • الشيخ الفحام.. من  الرياضيات إلى مشيخة الأزهر

  • الغزالي.. فارس الدعوة البليغ

  • كلية أصول الدين وثورة يوليو

من مصادر الدراسة:

  • على عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن – الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية – القاهرة- 1399=1979.

  • عبد الحليم محمود: هذه حياتي – دار المعارف – القاهرة- 1976.

  • محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلام المعاصرين- دار القلم – دمشق1415-1995.

 

سمير حلبي

 

فتوحات أبوبكر

بالرغم من أن فترة خلافة أبي بكر الصديق لم تدم أكثر من عامين وثلاثة أشهر، فإنها كانت حافلة بالإنجازات العظيمة والأحداث الخطيرة، وكانت مسرحًا للعديد من الحوادث الجسام التي كادت تعصف بدولة الإسلام في مهدها، لولا أن قيّض الله لها ذلك الرجل الذي استطاع بحكمته وحزمه أن يصل بالسفينة إلى بر الأمان، فقد كان الصدّيق طرازًا فريدًا من الرجال، امتزجت فيه الشدة بالرحمة، والحكمة بالقوة، واللين بالحزم، ولعل أصدق ما يوصف به قول هيكل: “هذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر، وإلى مشاركة البائس في بؤسه والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام، ينفقون فيها كل ما أتاهم الله من قوة ومقدرة”.

نسبه وصفاته ونشأته

إنه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويلتقي في نسبه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) عند مرة بن كعب، وينسب إلى “تيم قريش”، فيقال: “التيمي”.

كان أبو بكر يُسمَّى في الجاهلية “عبد الكعبة”؛ فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) عبد الله، ولقّبه عتيقا؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال له: أنت عتيق من النار.

وقيل لجمال وجهه، وقيل لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، كما سُمِّي بالصدّيق لتصديقه خبر الإسراء والمعراج.

وأمه سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وهي بنت عم أبيه، وتُكنَّى أم الخير. نشأ أبو بكر في مكة، فلما جاوز الصبا إلى الشباب عمل في التجارة، فكان بزازًا يبيع الثياب، واستطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا في تجارته، فتزوج في بداية شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله، وأسماء (رضي الله عنهما)، ثم تزوج بعد ذلك من أم رومان بنت عامر بن عويمر، فأنجب منها عبد الرحمن، وعائشة (رضي الله عنهما).

وكانت تجارته تزداد اتساعا وتزيد معها أرباحه وثروته، وقد هيأت له شخصيته القوية وأخلاقه الكريمة بعض أسباب نجاح تجارته، فقد كان رجلاً رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينا لا يغلبه الهوى، ولا تملكه الشهوة، يتميز برجاحة العقل وسداد الرأي، وكان لا يشارك قومه في عقائدهم وعاداتهم، فلم يشرب خمرًا قط في الجاهلية، وكان وجيها من وجهاء قريش ورؤسائها، عارفا بالأنساب بل أعلم قريش بها، وقد كانت إليه الأشناق (الديات) في الجاهلية.

حياة أبي بكر في مكة

عاش أبو بكر في حي التجار والأثرياء في مكة، وهو الحي الذي كانت تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ومن هنا نشأت الصداقة بينه وبين النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان لتقاربهما في السن وفي كثير من الصفات والطباع أكبر الأثر في زيادة الألفة بينهما، فقد كان أبو بكر يصغر النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحو عامين.

وحينما بُعث النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أبو بكر أول من آمن به، ما إن عرض عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) الإسلام حتى أسلم ولم يتردد لحظة في الإيمان به، وشارك منذ اللحظة الأولى في الدعوة إلى الله بنفسه وماله، وكان لحب الناس له وإلفهم إياه أثر كبير في استجابة الكثيرين منهم للإسلام؛ فقد أسلم على يديه عدد من كبار الصحابة، منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وغيرهم كثيرون من أهل مكة.

دور أبي بكر في نصرة الإسلام

كان إيمان أبي بكر قويًا عظيمًا، يتعدى كل الحدود، وتسليمه بصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) يفوق كل وصف، ولعل أصدق ما يوصف به قول النبي (صلى الله عليه وسلم): “ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم حين ذكرت له، وما تردد”.

ولعل مرد العجب هنا يكمن في شخصية أبي كبر ذاتها؛ فهو مع حكمته ورجاحة عقله وجرأته تاجر تقتضي منه تجارته أن يضع حسابا لصِلاته بالناس، وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم؛ خشية ما يجره ذلك على تجارته، ومعاملاته، ولكنه ارتفع بنفسه فوق ماديات الحياة، وآثر العقيدة الصحيحة على زيف الحياة وبهرج متاعها.

وكان لإسلام أبي بكر دور كبير في تثبيت دعائم الدين الجديد، والتمكين له؛ فهو لم يقف من تأييد الإسلام ونصرته عند حدود الدعوة والإقناع لكسب مزيد من الأتباع، وتعزية الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الذين يلاقون الكثير من العنت والاضطهاد والتعذيب من الكفار والمشركين، وإنما كان يبذل من نفسه وماله؛ فقد أعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يُعذّبون في الله، منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة.

حتى إنه أنفق ثروته التي اكتسبها من تجارته، والتي كانت تقدر بنحو أربعين ألف درهم.. أنفقها كلها في سبيل الله، فلما هاجر إلى المدينة بعد نحو عشر سنوات لم يكن معه من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم.

وقد ذكر له النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك وأثنى عليه فقال: “ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر”.

موقف الصديق من حادثة الإسراء

كانت حادثة الإسراء امتحانا حقيقيا لإيمان المسلمين في صدر الدعوة، فبعد وفاة أبي طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم) ووفاة خديجة زوجة النبي (رضي الله عنها)، وقد كانا نعم العون له في دعوته، وبعد ما لقيه (صلى الله عليه وسلم) من إعراض أهل الطائف وتعرضهم له وتحريضهم سفهاءهم وصبيانهم عليه -أراد الله تعالى أن يُسرِّي عن نبيه، فأسرى به إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ولكن الكفار والمشركين اتخذوا هذه الحادثة مثارا للتندر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والسخرية منه، والتشكيك في دعوته، وقد انساق وراءهم بعض ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، وتردد آخرون، فلما جاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)  وهو يصف بيت المقدس وكان قد زاره من قبل صدّقه في وصفه الذي طابق ما رآه، فأخرس ذلك ألسنة المشركين، وثبّت قلوب المؤمنين وأعاد الثقة في نفوسهم، وقضى على البلبلة التي أراد هؤلاء المشركون إثارتها.

الهجرة إلى المدينة

ازداد تعرض المشركين للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وهاجر كثير من المسلمين إلى الحبشة، ولكن أبا بكر بقي مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعندما هاجر المسلمون إلى المدينة ظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) ينصره ويسانده في دعوته.

وظل أبو بكر في مكة ينتظر اليوم الذي يهاجر فيه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، بعد أن سبقهما المسلمون إليها، حتى أذن الله لنبيه بالهجرة.

وكان أبو بكر قد أعد العدة لهذا اليوم، وجهَّز راحلتين للهجرة إلى المدينة، وفي الثلث الأخير من الليل خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من داره بعد أن أعمى الله عيون فتيان قريش المتربصين حول الدار يريدون الفتك به، وكان أبو بكر في انتظاره وهو يغالب قلقه وهواجسه، فخرجا إلى غار ثور ليختبئا فيه حتى تهدأ مطاردة قريش لهما.

ووصل المشركون إلى الغار، وصعد بعضهم أعلى الغار للبحث عنهما، ولم يدر بخلد أحد منهم أنه لا يفصلهم عن مطارديهما سوى ذلك النسيج الواهن الذي نسجته العنكبوت على فتحة الغار. ونظر أبو بكر الصديق إلى أقدام المشركين على باب الغار، فهمس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم): لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فرد النبي (صلى الله عليه وسلم) بإيمان وسكينة: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”.

حتى إذا ما يئس المشركون من العثور عليهما انصرفوا راجعين، فخرجا من مخبئهما يكملان الطريق إلى المدينة.

أبو بكر في المدينة

عاش أبو بكر في المدينة حياة هادئة وادعة، وتزوج من حبيبة بنت زيد بن خارجة فولدت له أم كلثوم، ثم تزوج من أسماء بنت عميس فولدت له محمدًا.

وظل أبو بكر إلى جوار النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، بل كان أقرب الناس إليه حتى تُوفي (صلى الله عليه وسلم)  في (12 من ربيع الأول 11هـ = 3 من يونيو 632م).

وكان لوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وقع شديد القسوة على المسلمين؛ فقد أصابهم الذهول ودارت الدنيا من تحت أقدامهم غير مصدقين، أو أنهم  لا يريدون أن يصدقوا ذلك الخبر، حتى إن عمر بن  الخطاب ذهب به الغضب مذهبا كبيرا، وراح يتوعد الذين يرددون ذلك الخبر، ويأخذ به الجزع فيقول: ما مات رسول الله، وإنما واعده الله كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقطعن أيدي ناس وأرجلهن.

ولكن أبا بكر برغم ما عُرف به من الرقة والوداعة، يقف قويا متماسكا يستشعر خطورة الموقف، ويستشرف الأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين، فيزداد تماسكا وقوة، يدفعه إيمانه الشديد بالله، وحبه وإخلاصه لنبيه إلى اتخاذ موقف إيجابي لإنقاذ المسلمين من هوة الخلف والاختلاف، والعمل على الحفاظ على وحدتهم وتماسكهم، وتتجلى قوته النفسية وبُعد نظره إلى المستقبل في تلك الساعة العصيبة التي أخذت بألباب المسلمين وعقولهم، حينما يقترب من جسد النبي (صلى الله عليه وسلم) المُسجّى، فيكشف عن وجهه، ويكب عليه يقبله، وهو يقول: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حيا وميتا”.

ثم أتى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: “أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”. ثم قرأ: “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين” (آل عمران: 144). فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم.

الأنصار في السقيفة

ما إن علم الأنصار بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون ولا يدرون ماذا يفعلون، وبلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر بل نمشي إليهم، فسار إليهم ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح؛ فتراجع الفريقان الكلام وكثر الجدل واللغط بين الفريقين حتى كاد الشر يقع بينهما أكثر من مرة، فقال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء؛ فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  قال: “الأئمة من قريش”، وقال: “أوصيكم بالأنصار خيرًا: أن تقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم”.

واستمر الجدل والخلاف بين الفريقين حتى قال عمر: “أنشدتكم الله هل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله.

وسارعوا جميعا بالبيعة لأبي بكر، فكان لتلك البيعة الفضل في  تجميع كلمة المسلمين وتجنيبهم فتنة ضارية وانقسامًا وخيمًا وحربًا ضروسًا بين أبناء الدين الواحد لا يعلم مداها إلا الله وحده.

بعث جيش أسامة

كان أول أمر أصدره الخليفة أبو بكر الصديق بعد أن تمت له البيعة هو إنفاذ جيش أسامة الذي جهزه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبيل وفاته لغزو الروم، والذي كان يضم كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار.

وقد أبدى بعض المسلمين عدم رضاهم لتولية أسامة قيادة الجيش لصغر سنه، وأفضوا إلى أبي بكر بمخاوفهم من أن تنقضّ عليهم بعض قبائل العرب المتربصة بالمسلمين وجماعات المرتدين الذين نفضوا أيديهم من الإسلام، منتهزين فرصة خروج الجيش من المدينة، وأظهروا له تخوفهم من أن تفترق عنه جماعة المسلمين، فقال أبو بكر بثقة ويقين: “والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،  ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته”.

فلم يجد الصحابة بدًّا من الإذعان لأمر الخليفة، والامتثال له، وخرج أبو بكر يشيّع الجيش وهو ماش وأسامة راكب ليشعرهم بإمارة أسامة فيسلموا له ولا يخالفوه، وأحس أسامة بالحرج فأراد النزول عن دابته، وقال: “يا خليفة رسول الله، والله لتركبنّ أو لأنزلنّ”.

فقال أبو بكر: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبّر قدمي في سبيل الله ساعة.

وحينما حان الوداع خطب أبو بكر في رجاله قائلاً: “أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا  تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان من الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون”.

تلك الوصية الخالدة التي صارت تمثل دستور المسلمين في القتال، وتعبر عن مدى ما بلغه المسلمون من تحضر وإنسانية في الحروب، في عصور ساد فيها الجهل وفشت الفوضى والغوغاء، وسيطرت الهمجية على الأمم والشعوب.

ولم يخيب أسامة رجاء الخليفة فيه، فقد استطاع أن يحرز النصر على الروم، واقتحم تخومهم، وتوغل في ديارهم ثم عاد بجيشه إلى المدينة، وقد حقق الغاية التي خرج من أجلها وهي تأمين حدود الدولة الإسلامية، وإلقاء الرهبة والهيبة في قلوب الروم، فلا يحاولون التحرش بالمسلمين، كما أدت إلى كف عرب الشمال عن محاولات التعرض للمدينة والهجوم عليها.

حرب المرتدين والتصدي للمتنبئين

انتهزت بعض القبائل التي لم يتأصل الإسلام في نفوسها انشغال المسلمين بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) واختيار خليفة له، فارتدت عن الإسلام، وحاولت الرجوع إلى ما كانت عليه في الجاهلية، وسعت إلى الانشقاق عن دولة الإسلام والمسلمين سياسيا ودينيا، واتخذ هؤلاء من الزكاة ذريعة للاستقلال عن سلطة المدينة، فامتنعوا عن إرسال الزكاة وأخذتهم العصبية القبلية، وسيطرت عليهم النعرة الجاهلية.

واستفحل أمر عدد من أدعياء النبوة الذين وجدوا من يناصرونهم ويلتفون حولهم، فظهر “الأسود العنسي” في اليمن، واستشرى أمر “مسيلمة” في اليمامة، و”سجاح بنت الحارث” في بني تميم، و”طلحة بن خويلد” في بني أسد، و”لقيط بن مالك” في عُمان. وكان هؤلاء المدعون قد ظهروا على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لم يستفحل أمرهم ويعظم خطرهم إلا بعد وفاته.

وقد تصدى أبو بكر لهؤلاء المرتدين بشجاعة وجرأة وإيمان، وحاربهم بالرغم من معارضة بعض الصحابة له، وكان بعضهم يدعوه إلى الرفق بهم والصبر عليهم، فيجيب في عزم قاطع: “والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة”.

وأرسل أبو بكر الجيوش لقتالهم حتى قضى على فتنتهم، وأعاد تلك القبائل على حظيرة الإسلام، وقد اتسم أبو بكر ببعد النظر والحكمة وذلك بإصراره على التصدي لهؤلاء المرتدين، ورفض المساومة على فرض من فروض الدين، فقد قطع بذلك عليهم الطريق إلى المزيد من المساومات، كما كان ذلك إعلانا واضحا أنه لا تهاون ولا تنازل في أمر يخص الدين أو يتعلق بالعقيدة، أمام كل من تسول له نفسه من القبائل أن يحذو حذو هؤلاء.

جمع القرآن الكريم

استشهد عدد كبير من كبار الصحابة ممن يحفظون القرآن الكريم في حروب الردة التي استغرقت أكثر عهد الصديق، وقد زاد من جزع المسلمين لاستشهاد هؤلاء الأعلام من الصحابة ما يمثله فقد هؤلاء من خطر حقيقي على القرآن الكريم والسنة المشرفة، وكان عمر بن الخطاب من أوائل الذين تنبّهوا إلى ذلك الخطر، وبعد تفكير عميق هداه الله إلى فكرة جمع القرآن الكريم، فلما عرض ذلك على أبي بكر تردد في أول الأمر، وقال: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟.

ولكن عمر ظل يراجعه ويجادله حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، واقتنع برأي عمر فدعا زيد بن ثابت وكلفه بتنفيذ تلك المهمة الجليلة، فانطلق زيد يجمع القرآن الكريم من الرقاع والعظام وجريد النخل والحجارة الرقيقة، ثم أخذ يرتبه في آيات وسور، واتبع في ذلك طريقة عملية دقيقة مُحكّمة، فكان لا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى ثبوتها بشهادة العدول من الصحابة الحفاظ، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن حتى أتم تسجيله وتدوينه، كما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم).

فكان ذلك العمل هو أعظم أعمال الصديق على الإطلاق على كثرة أعماله وعظمة إنجازاته، فقد ساهم في حفظ كتاب الله من الضياع، وصانه من الوهم والخطأ واللحن.

وفاته

وتُوفي أبو بكر الصديق يوم الجمعة (21 من جمادى الآخرة 13 هـ = 22 من أغسطس 634م)، ودفن مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في بيت عائشة (رضي الله عنها)، وقد اختُلف في سبب وفاته، فذكروا أنه اغتسل في يوم حار فحمّ ومرض خمسة عشر يومًا حتى مات، وقيل بأنه أصيب بالسل، وقيل أنه سُمّ، وقد رثاه عمر فقال: “رحم الله أبا بكر فقد كلف من بعده تعبا”.

أهم مصادر الدراسة:

  • الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر – تحقيق: علي محمد البجاوي – دار الجيل – بيروت: (1412هـ = 1992م).

  • أسد الغابة في معرفة الصحابة: أبو الحسن عز الدين علي بن محمد الأثير الجزري – تحقيق: محمد إبراهيم وآخرين – دار الشعب – القاهرة.

  • الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علي بن عمر بن كثير القرشي – تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي – دار هجر للطبع والنشر – القاهرة:– (1419هـ = 1998م).

  • سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم): أبو محمد عبد الملك بن هشام-  تحقيق ودراسة: مجدي فتحي السيد – دار الصحابة للتراث – طنطا: (1416هـ = 1995م).

  • الصديق أبو بكر: د.محمد حسين هيكل – دار المعارف بمصر – القاهرة: (1395هـ = 1975م).

  • الطبقات الكبرى: محمد بن سعد – دار التحرير للطبع والنشر – القاهرة: ( 1388هـ = 1968م).

  • العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:  أبو بكر بن العربي المالكي – تحقيق محب الدين الخطيب – دار الكتب السلفية القاهرة: (1405هـ = 1985م).

  • المعارف: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري – تحقيق د. ثروت عكاشة – دار المعارف بمصر – القاهرة: (1389هـ = 1969م).

الاستنساخ في اللغة مصدر معناه طلب عمل نسخة أخرى من كتاب مكتوب، أي: مطابقة للأصل تمامًا، منه قوله تعالى: “إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون” [الجاثية: 29]، وقال صاحب لسان العرب: معناه: نستنسخ ما تكتبه الحفظة، فيثبت عند الله. وفي التهذيب: أي نأمر بنسخه وإثباته.

و(( الاستنساخ )) هي الكلمة العربية التي وضعت لتقابل كلمة Cloning الإنجليزية المأخوذة من Clone ، والتي تعني الواحد من مجموعة الأحياء التي أُنتجَت من غير تلقيح جنسي. وأصل الكلمة من كلمة: Klon اليونانية، والتي تعني البرعم الوليد.

وبيان ذلك أن تكاثر النبات، وسائر الأحياء، في الطبيعة التي خلقها الله تعالى، يحصل بطريقتين:

الطريقة الأولى: التكاثر الجنسي، ففي النبات تتكون البذور من تلقيح عضو التأنيث في الزهور، بلقاح مذكر من نفس الشجرة، أو من شجرة أخرى من نفس الفصيلة. وفي الحيوان والإنسان تتحد نواة بييضة الأنثى بحيوان منوي تفرزه غدة ذكرية. فتتكون بذلك الخلية الأولى. ثم تنقسم الخلية الأولى إلى اثنين، فأربع، فثمان، وهكذا. وتتخصص الخلايا لتكوين أعضاء متمايزةٍ في جسد الحيوان الجديد من قلب ورأس وكبد وعين ويد ورجل وغير ذلك.

وهذا النوع هو الأصل والأكثر في الخلق، في النبات والحيوان. وقد قال الله تعالى: “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” [ الذاريات: 49 ]. وقال سبحانه: “فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” [الشورى: 11].

ومعنى يذرؤكم: قال الزجاج: “يكثّركم الله بجعله منكم ومن الأنعام أزواجًا. (لسان العرب)، وقال ثعلب: يكثّركم به.

والمعنى: أن هذه الوسيلة، وهي التزاوج، وخلق الذكورة والأنوثة، جعلها الله بقدرته وعلمه وحكمته، آليّة يتكاثر بها الأحياء، بما فيه من التقدير العجيب الدقيق. وقد مدح الله نفسه بعد أن ذكر هذه الوسيلة، بأنه ليس كمثله شيء، أي: لما فيه من الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، التي لا يستطيع أحد غيره أن يصنع مثلها، ولا ما يدانيها. ولا تزال تقنيات علوم الوراثة تكشف شيئا فشيئا من عجائب هذه الوسيلة، ودقة الصنع فيها. وسيأتي أثناء البحث التنبيه على ذلك.

ولعل في قوله تعالى: “يذرؤكم فيه” معاني تلمح إليها الكلمة، سوى مجرد الخلق. فإن لفظ “الذرء” يوحي بالنشر في الأرض، واختلاف الألوان والأجناس والأوصاف، في البشر وغيرهم. ففي لسان العرب: من الذرء الذرية. والزرع أول ما تزرعه يقال له: الذريء، والذَّرَأُ: الشيب في مقدم الرأس. وفرس أَذْرَأ: أي أرقش الأذنين.

الطريقة الثانية:

هو ما يمكن أن يدخل تحت عبارة “النسخ”: هو أن يؤخذ جزء من جسم حي، ثم يوضع في بيئة مناسبة من حيث الحرارة والرطوبة وغيرهما، فيها من الغذاء المناسب. حتى يبدو ذلك الجسم الحي بالنمو، ليصير مثل الأصل تمامًا. كما أن النسخة من وثيقة أو مقال، المأخوذة من الكربون، أو بالآلات الناسخة، تكون مطابقة للأصل المكتوب تمامًا.

وهذه الطريقة كانت مستعملة في تكثير النبات من عهود قديمة، عرفها الإنسان بالتجربة عبر العصور، ولها طرق نعرفها ويعرفها أهل الفلاحة، ومنها:

أ – أن يؤخذ غصن من التين أو العنب أو الرمان أو الورد مثلاً، ثم يُدفن في تربة زراعية رطبة، ويترك طرفه الأعلى بارزًا، ويتابع بالسقي. فإن كان ذلك في جو بارد ومناسب، فإنه يبدأ بالنمو حتى يكون شجرًا كأصله تمامًا. وقد طُوِّرت هذه الطريقة في السنوات الأخيرة حتى أصبحت ذات مردود اقتصادي كبير في تكثير الأشجار ذات الخصائص الممتازة.

ب – وثمة طريقة أخرى تُسمَّى في عالم الزراعة: التطعيم، وقد تُسمّى التركيب.

وهي أن تؤخذ من لحاءٍ حي من شجرة، رقعة قدر الظفر، فيه برعم، ثم تلصق على عصبة غصن من شجرة أخرى من نفس الفصيلة، بعد نزع اللحاء عن العصبة، وتربط ربطًا محكمًا. فبعد أيام قليلة يبدأ هذا البرعم في النمو بإذن الله تعالى، حتى يكون شجرة من نفس نوع الشجرة المأخوذ منها البرعم. ثم تقطع الشجرة الأولى من فوق البرعم. وبهذه الطريقة يمكن قلب شجرة اللوز مثلاً إلى مشمش أو دُرّاق أو برقوق أو غيرها من فصيلة اللوزيات.

ويمكن بهذه الطريقة أيضًا قلب شجرة السفرجل إلى إجاص أو تفاح أو غيرهما من فصيلة التفَّاحيات. وقد طُورت هذه الطريقة في عالم التقنيات الزراعية فيما أعلن عنه في العشرين سنة الأخيرة فأدّت إلى نتائج باهرة لها مردود اقتصادي وفير.

أشكال النسخ الحيوي

أما في نطاق المملكة الحيوانية: فإن التكاثر بالنسخ موجود في بعض الحيوانات الدنيا، منها نجم البحر. أما في الحيوانات الثديية فلم يمكن إجراؤه على أيد البشر إلا في السنوات الأخيرة من القرن الميلادي(1).

عملية شطر الأجنة:

فقد أمكن شطر الجنين في مرحلة الخليتين، أو أربع، أو ثمان، لتكون كل خلية منها كائنا حيًا مستقلاً بذاته، ولو قُيِّض لكل منها بيئة مناسبة لنموه، بأن يزرع في رحم الأنثى من نفس الجنس، سواء رحم الأم أو غيرها، فإنه ينمو نموًا عاديا. فإن ولدت هذه الأجنة التي أصلها خلية واحدة، كانت مما يُسمّى التوائم المتطابقة، أي أنها متطابقة تمامًا في جميع الصفات الوراثية.

وقد أمكن تجميد هذه الأجنة، وأمكن بذلك حفظها حية جاهزة للعمل لمدد قد تطول. فإذا أريد أن تنمو تعاد في الأرحام لتواصل نموها إلى أن تولد ولادة معتادة.

وقد أمكن أجراء هذا النوع في الأغنام والأبقار منذ سنوات، وقبل ذلك أمكن إجراؤه في الضفادع(2).

عملية استعارة الخلية الأولى:

وأخيرًا تمكنت تكنولوجيا الوراثة من استنساخ حيوانات ثديّية من خلايا جنينية، وهي ما يمكن تسميته بالخلايا الجسدية. فقد أعلن أيان ويلموت وزملاؤه، من معهد روزلين في أدنبرا باسكتلندا، في رسالة لهم إلى مجلة نيتشر Nature، ونشرتها المجلة في عدد 27/2/1997م ـ أنهم تمكنوا من توليد نعجة من نعجة أخرى من تلقيح جنسي، وسموا النعجة الوليد دوللي.

والطرقة التي اتخذوها لذلك أنهم أخذوا بييضة غير ملقحة، وأفرغوا البييضة من نواتها، وأدخلوا في البييضة مكان النواة المنزوعة، نواة خلية جسدية مأخوذة من ضرع نعجة أخرى حامل. وتمكنوا من دمج هذا النواة داخل البييضة باستخدام تيار كهربائي. ثم أعادوها في رحم نعجة ثالثة. فبدأت الخلية الانقسام إلى خلايا، إلى أن تكوَّن منها جنين كامل، خرج إلى النور حيًا يرزق. ولعل ذلك لأن النواة المأخوذة تحوي ما تحويه المخصبة القابلة للانقسام. وكانت (دوللي) مساوية في أوصافها للنعجة صاحبة الخلية الجسدية. وقال ويلموت: إن هذه أول حالة تسجل لاستنساخ ثديي من خلية غير جينية. فكان هذا الإنجاز حدثًا فريدًا في بابه، يرى بعضهم أن آثاره على الجنس البشري ستكون أعظم من آثار القنبلة الذرية.

ونحن نرى أن اسم (( الاستنساخ ) و(( النسخ )) يصدق على كلا النوعين، ونرى أن يوضع لكل من النوعين اسم يخصه، من أجل سهولة التعبير ودقة الدلالة(3). و نرى أن نسمي النوع الأول (النَّست) أو (الاسْتِنْسات)، وأن نسمي النوع الثاني (النَّسْد) أو (الاسْتِنْساد)(4).

الفرق بين طريقتي التكاثر:

تمتاز طريقة التكاثر الجنسي بأمور، منها:

أولاً: أن الكائن المتخلِّق بها يحمل من حيث الجملة بعض الصفات الخاصة بالأب، وبعض الصفات الخاصة بالأم، ويستكن فيه بعض الصفات الخاصة بالأجداد والجدات من الطرفين منذ القدم، كما نبه إليه النبي r ، وذلك فيما ورد من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رجلاً أتى النبي r قال له: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال: “هل لك من إبل؟” فقال: نعم. قال: (( فما ألوانها؟)) قال: حمر. قال: “هل فيها من أورق؟” قال: نعم. قال: “فأنَّى أتاها ذلك؟” قال: “لعله نزعه عِرْقٌ”. قال: “فلعل ابنك هذا نزعه عرق”. (أخرجه البخاري ومسلم).

فالمخلوق الناشيء من ذلك يكون بمجموع هذه الصفات المورثة، والصفات المستجدة فيه، حاملاً الصفات الأساسية من جنسه من جهة، وفيه ميزات تجعله منفردًا عن باقي أفراد جنسه. ومما عُلِم من ذلك: صفة الصوت، وبصمات الأصابع، وهيئة المشي وأنواع من الصفات الفكرية والخلقية، مما لا يتفق فيه اتفاقًا تامًا اثنان من أفراد الجنس، ولو كانا أخوين لأب وأم. فلكل إنسان فرديته التي يتشخص بها ويعتز بها، ويعتبرها ذاتيته التي لا يبغي بها بدلاً ولو أتيح له البدل.

أما الكائن المتخلق بالنسخ، فإنه يكون مطابقًا للكائن المنسوخ منه، وهو في النبات الأصل المأخوذ من البرعم والغصن، وفي الحيوان: الأصل المأخوذ منه الخلية. ويكون التساوي بين الأصل والفرع في جميع الصفات الموروثة تامًا، مائة في المائة(5)، سواء في الطول واللون والصوت والشكل ولون الشعر والعينين وشكل الكفين والقدمين والأظفار. حتى أن بصمات أصابع الطرفين تكونان متساويتين دون أي اختلاف، حتى أنه لا يمكن التميز بينهما، كما هو معروف في ظاهر التوائم المتطابقة. وهكذا لو استُنسخ شخص واحد ألف شخص، فإنهم يكونون جميعًا بهذه المثابة.

وثانيًا: في التكاثر الجنسي لا يدري كيف يكون الحمل عندما يولد: ما شكله؟ وما لون جلده؟ وكيف سيكون لون عينيه؟ ولا يدري سيكون طويلاً أو قصيراً؟ ذكياً أو بليداً؟ وهل سيكون ذكرًا أو أنثى؟ قال تعالى: “إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام” [لقمان: 34].

أما في التكاثر الاستنساخي، فإنه يمكن العلم من ذلك من أول الأمر، تبعًا للقاعدة المعلومة في شأن الخلق، أن النسيخ مطابق للأصل المنسوخ منه. لكن إلى الآن لا يعلم كم سيكون مقدار عمر خلايا النسيد، ففي النعجة (دوللي) لا يدرى… هل عمر خلاياها عندما ولدت ست سنوات أم عمرها جديد كعمر الجنين حين يولد من حمل جنسي؟ ولم يبتَّ علماء الوراثة في ذلك إلى هذا الوقت فيما بلغه علمي(6). فإن كان الأمر الثاني هو الذي تحقق، فسيسقط النسيد ضحية لأعراض شيخوخة مبكرة. وهكذا لا يدرى هل سيكون هذا النسيد قادرًا على التناسل كغيره من الحيوانات، أم أنه سيكون عقيمًا لا يلد.

فوائد الاستنساخ في عالم الحيوان:

مما يؤمله العلماء من المصالح التي تعود على البشر من استنساخ الحيوانات:

أولاً – إنتاج حليب بشري من الحيوانات كثيرة الدرّ، فقد كان الهدف العلني لويلموت وجماعته من تجاربهم في الاستنساخ، هدفاً اقتصاديا، بأن تخلق عنهم بالهندسة الوراثية نعجة قادرة على إنتاج حليب بشري، ثم يستنسخوا منها قطعانا من الأغنام بالطريقة التي أنتجت بها (دوللي) ليمكن تجفيف حليب هذه القطعان وتعليبه بشكل مسحوق، وتسويقه تجاريا، ليمكن تغذية الأطفال به، خاصة الأطفال الخدَّج. أمّلت الشركة الممولة لتك الأبحاث أن تجني أرباحًا طائلة من وراء ذلك؛ ولذا ارتفعت أسعار أسهمها بمجرد الإعلان عن هذا الكشف العجيب.

ويقول مدير الشركة: إنه من الممكن الآن إنتاج قطعان من الماشية، في حليبها مزيد من الأنزيمات.

ثانيًا – يؤمّل ممولو المشروع أن الاستنساخ في الحيوانات سيفيد البشر بكثرة إنتاج حيوانات جيدة وكثيرة اللحم والصوف، بالإضافة إلى تحسين الوضع جدًا بالنسبة إلى سائر المنتجات الحيوانية.

ثالثاً – إن كان النسيد يساوي الأصل في الذكورة والأنوثة، فيمكن جعل الأحمال كلها إناثاً ذكوراً بحسب الحاجة. وفي ذلك من الفوائد الاقتصادية ما لا يخفى. حيث يمكن الاستغناء في عملية التكاثر في الحيوانات الداجنة عن الذكور، بأخذ النواة من خلية أنثوية. وفي ذلك اقتصاد في النفقات ينعكس على أثمان اللحوم والحليب بالرخص.

الاستنساخ في عالم البشر:

إن إمكانية الاستنساخ لحيوان ثديي، التي تحققت مؤخرًا، جعلت علماء الوراثة يثقون بإمكانية التوصل في مدى قصير، إلى استنساخ البشر من خلايا جنينية، وأيضًا من خلايا جسدية، هذا من الناحية التقنية الصرفة. وقد قدر بعضهم المدة اللازمة لذلك بعشر سنوات. وقدرها آخرون بسبع، على ما ذكر في مجلة الطبيعة نيتشر Nature ومجلة (7)النيوزويك Newsweek .

ويعزى السبب في هذا التأخير إلى أن طبيعة الانقسام في الخلايا الجنينية البشرية، تختلف نوعًا ما عن طبيعة انقسام الخلايا الجنينية للغنم وسائر الحيوانات، ويحتاج التغلب على هذا العائق إلى مزيد من التقدم في تكنولوجيا الاستنساخ البشري.

وقد نجح ويلموت وجماعته في استنساخ حيوان ثديي من خلية بالغة، وهو ما مثَّل مفاجأة كبرى لم يتقدمها إرهاصات لافتة النظر. وما أوحى به هذا النجاح من إمكانية استنساد البشر كان تحدياً كبيرًا لعلماء الأديان والأخلاق والمقنّنين، لم يكن لديهم الوقت الكافي لمواجهة ولتدارس ما ينبغي أن يكون عليه موقفهم تجاه استنساد مخلوق بشري.

وموضع الخطورة، كما توضحه بعض الأبحاث العلمية، أنه سيكون بإمكان أي متخصص في تقنيات الوراثة، في مختبر له متواضع، أن يقوم بعملية الاستنساد. وسوف يكون لطلاب المصالح والمنافع العاجلة، سواء كانت حقيقية أو موهومة، وسواء قصدت لخير أو شر، مغامرات للحصول على خدمات هؤلاء المتخصصين. فلو صدرت القوانين التي تمنع الاستنساخ البشري، فبإمكانها أن تمنع ما يجري علنًا، ولكنها لن تكون قادرة على منع ما يجري في الخفاء، مع قوة الإغراءات. قد قدر أحد العلماء أنه في شهر آذار 1997م يوجد عشرة مختبرات على الأقل، بإمكان كل منها أن يقوم بما قام به فريق معهد روزلين. ثم تزايد هذا العدد بسرعة كبيرة فيما بعد دوللي.

والولع بالبحث العلمي لدى القادرين عليه سيكون حافزًا آخر لمواصلة الأبحاث حول هذا الموضع لاستكشاف سائر آفاقه، وتحقيق ما لم يحققه غيرهم، وفتح الطريق إلى عوالم جديدة في المعرفة، وفي الاقتصاد وغيره، لم تكن معروفة من قبل.

وقد سارع كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق إلى تكوين لجنة اتحادية مهمتها أن تستكشف أفق الاقتراحات القانونية والأخلاقية حول هذا الموضوع، وأن تعد له تقريرًا ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة تنظيم الاستنساخ البشري، ووضع الضوابط له، أم أن الذي ينبغي هو حظره بالكلية؟ ويرى بعض العلماء المتابعين للموضوع أن هذه اللجنة سوف تصل إلى نتيجة هي أن (استنساخ إنسان أمر غير مقبول للذوق العام الأمريكي)(8).

 

تابع معنا بقية أجزاء الدراسة:

  • موجز الرؤية الاجتهادية لاستيعاب قضية الاستنساخ
  • صدى التقدم في منجزات الوراثة في الأوساط الدينية والأخلاقية
  • دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري
  • الأحكام الشرعية للاستنساخ

1- يحلو لبعض الناس أن يستعيد في هذا المقام ما ورد في السنة من خلق حواء من ضلع آدم، فإنه كان نوعاً من الاستنساخ. وهو ما دل عليه الحديث النبوي الشريف: (( إن المرأة خلقت من ضلع )) أخرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه غيرهما من حديث أبي ذر. ونذّكر أيضاً بحديث (( كل ابن آدم يأكله التراب ويفنى، إلا عَجْبَ الذنَب. منه خُلِقَ ومنه يركّب)). أي يوم القيامة. أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرجه البخاري بمعناه. وزاد في رواية مسلم بعد أن ذكر النفختين: قال(( ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل )).

2- مجلة نيوزويك عدد آذار سنة 1997 ص42.

3- ولدت دوللي في تموز 1996. وقد تكلف إنتاجها 750000دولار. ( مجلة نيوزويك عدد 10 آذار 1997 ص43) وقد تكتّم ويلموت وزملاؤه على تجارتهم ولم يعلنوا عنها إلا في 27/2/1997 وقد لقحوا 277 نعجة بهذه الطريقة، ونجحت منها نعجة واحدة. ز تجد في مجلة الإيكونومست (1 آذار 1997م) وصفاً متكاملا للتجارة المذكورة. بالإضافة لمقال ويلموت وزملاؤه في مجلة نيتشر (27 آذار 1997 ص 808-810).

4- أطلقت بعض الأبحاث العلمية، والمقالات الصحفية، على النسخ والاستنساخ: اسم ((الاستنسال))أو ((النسخ)) أو التطبيق))، أو ((الكلونة)) أو ((الاستتئام))، أو ((التوأمة)). ونرى أن لفظ الاستنساخ أجودها، لقوة الدلالة ووضوحها. ويقال للحيوان أو للإنسان الناتج بهذه الطريقة المستنسخ أو النسيخ. والمزيد من التحديد، وحيث إن الاستنساخ على طريقتين: أولاهما: نسخ التوائم من الخلايا الجنينية. والثانية: النسخ من خلايا جسدية بالغة، أرى أن تُسمّى الطريقة الأولى: ((الاستنسات)) أو ((النست)) نحتًا من ((استنساخ + توائم))، ويُسمّى الشخص الناتج بهذه الطريقة: المستنست أو النسيت، وأن تُسمّى الطريقة الثانية: ((الاستنساد)) نحتًا من (استنساخ + جسد) ويُسمّى الشخص الناتج بهذه الطريقة المستنسد، أو المنسوت، أو النسيت.

5- لم تُشر المقالات العلمية التي اطلعت عليه إلى أن النسيخ يساوي المنسوخ منه حتمًا في الذكورة والأنوثة. غير أن المطابقة في ذلك مما يغلب على الظن. ويغلب على الظن أنه سيكون لخلاياه عمر مستأنف. غير أن القياس والظن لا يغنيان في المجالات العلمية من الحق شيئًا، بل لا بد من التجارب والإحصاء.

6- وردت في الأخبار أنه قد تبين أن النعجة دوللي عندما ولدت كان عمر خلاياها كعمر خلايا النعجة التي أخذت منها الخلية الجسدي، أي بعمر ست سنوات.

7- على أن بعض الأبحاث تشير إلى أن ذلك يجري في الخفاء في بعض الدول العظمى وغيرها، وربما يتحقق في مدة أقرب مما ذكرنا.

8- صدر القرار الأمريكي قبل طباعة هذا البحث.

تنقسم الأحكام الشرعية لأفعال العباد إلى قسمين الأحكام التكليفية من حل أو حرمة أو كراهة أو استحباب أو وجوب. والثاني: الأحكام الوضعية، وهي الآثار التي يستتبعها الاستنساخ. وفي ما يلي نتناول الأحكام الشرعية الخاصة بالاستنساخ.

القسم الأول: الحكم التكليفي للاستنساخ:

الاستنساخ كما تقدّم، نوعان:

الأول: الاستنساخ من خلية جنينية (وقد سميناه الاستنسات).

الثاني: الاستنساخ من خلية جسدية (وقد سميناه الاستنساد).

أولا: الحكم التكليفي للاستنسات:

إن توليد التوائم بفصل الجنين في أيامه الأولى (طور الخليتين أو الأربع أو الثماني) لتكون كل خلية منها جنينًا مستقلاً عن زرعها في رحم امرأة: أمر شبيه بأطفال الأنابيب، إلا أن الطفل النسيت سيكون مطابقًا لسائر الأطفال الذين أصلهم أصله: أي خلية واحدة، فيكونون توائم. لكن الذي هو معتاد في الوضع الطبيعي للتوائم أن يكون حملهم في فترة حمل واحدة، أما في الاستنسات فسيكون من الممكن أن يختلف زمان حملهم، فيكونون توائم لكن بعضهم أكبر سنًا من البعض الآخر بسنة أو سنوات.

من أجل ذلك أرى أنه ينطبق على الاستنساخ بهذه الطريقة حكم الحمل بطريقة أطفال الأنابيب الذي سبق لندوة الإنجاب الوصول إليه، وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي في جدة. وحاصله ما يلي:

    1. إن هذه العملية محرمة إذا كان في العلاقة طرف ثالث غير الزوجين، سواء كان منيًا أو بويضة أو رحمًا.
    2. تعبر هذه العملية جائزة ضمن الضوابط التالية:

أ – أن يكون ذلك بين الزوجين، بأن تكون الخلية مخصبة بماء الزوج، وأن تزرع في رحم الأم نفسها صاحبة البويضة، التي هي الزوجة نفسها، وليس غيرها بحال من الأحوال.

ب – أن يكون ذلك أثناء قيام الزوجية، وليس بعد الانفصال بفرقة في الحياة أو بالموت.

ج – أن تراعي الضمانات الكافية لمنع اختلاط الأنساب.

وأرى – كذلك – أن تضاف إلى ذلك الضوابط التالية:

د – أن يكون ذلك بموافقة الزوج وعلمه.

هـ- أن يكون بموافقة الزوجة وعلمها.

و – أن تترك الأجنة الفائضة للفناء بمجرد انقضاء الحاجة إليها. أو انفصال الزوجين، أو رغبتهما أو رغبة أحدهما في التخلص منها، أو وفاة أحدهما أو كليهما.

وقد ذهب بعض الأطباء إلى أن ترك الأجنة الفائضة للموت محرم، وأن ذلك يؤدي إلى تحريم الاستنسات قطعًا وبكل وجه؛ لأنه لا يمكن في الواقع إجراء هذه العملية إلا ويفيض فيها أجنة، ستترك للموت، وقد قال أحد المتخصصين في ذلك: وذلك نوع من الوأد المحرم، وإن لم تترك للموت، وأودعته في أرحام نساء أخريات، فهو محرم كذلك.

وعندي أن هذا اعتراض مرفوض من أساسه. فلم يجعل الشرع للجنين قبل التخلق أي اعتبار، ولا بنى عليه أي حكم شرعي. ويصرح فقهاء الحنابلة بأنه “يجوز لأنثى شرب دواء مباح لإلقاء نطفة “(1) وقد أبديت رأيي في هذا بإسهاب في مناقشات ندوة الإنجاب(2). وحتى في القرار الذي اتخذ في ندوة الإنجاب لم يجعل للبييضة الملقحة أية حرمة إلا بعد العلوق بجدار الرحم، أما قبل العلوق فلم يجعل القرار له أي حرمة.

ثانيًا: الحكم التكليفي الاستنساد ( النسخ من خلية جسدية ) البشري:

الأمر في هذا النوع أخطر من سابقه:

ورأيي في هذا أنه حرام بكل حال، ولا يأتي فيه ولو صورة واحدة جائزة. فإما أن الأصل فيه التحريم؛ فهو من وجوه ثلاثة:

الأول: المفاسد التي تقدم تعدادها، وهي مفاسد عظيمة تربو على كل ما يتصور في هذه العمليات من المصالح، وينشأ منها ضرر خطير على النسيد نفسه، وعلى المجتمعات، من جراء ذلك. ولا يبعد أن يتنبه المفكرون والأطباء في المستقبل إلى مفاسد أعظم مما ذكرناه.

الثاني: أنه في الحقيقة شغل لرحم امرأة بغير وجه مشروع؛ لأن النواة إن أخذت من رجل أجنبي أو امرأة أجنبية أو من المرأة نفسها صاحبة الرحم والبويضة، فواضح امتناع ذلك شرعًا، إذا لا يجوز أن يشغل رحم امرأة بحمل ليس من زوجها. وإن أخذت من جسد الزوج، فهي خلية في الأصل نابتة من خلية ملحقة بماء أبي هذا الزوج.

الثالث: أنه قلب لأوضاع الشرعية؛ لأن الخلية إن أخذت من زوج امرأة أخرى أو رجل أجنبي، فسينشأ طفل ليس له أب شرعي وهذا تغيير للخلق، وحرمان للطفل من أب ينتسب إليه، يرعاه الأب ويقوم بشؤونه لينشأ بشرًا سويًا

وهو في الحقيقة تكثير لظاهرة اليتم ومآسيه في المجتمع.

وإن أخذت الخلية من المرأة نفسها التي سوف تحمل به، فلا يجوز أن ينسب إلى زوجها؛ لأن الخلية ليست ملقحة بمائه، ولا يجوز أن ينسب إلى أبي هذا الزوج أيضا، لأن الولد للفراش. فسيولد هذا الطفل وليس له أب شرعي طبيعي.

ففي كل الأحوال سيكون هذا النسيد غير منتسب إلى أب شرعي طبيعي، ولا يمكن تصور انتسابه إلى أب شرعي طبيعي بحال. من أجل ذلك أرى تحريم هذه العلمية تحريمًا مطلقًا.

القسم الثاني: الأحكام الوضعية للاستنساخ:

أما في الصورة التي قلنا بجوازها وبأنها شبيهة بطفل الأنابيب إذا استعمل حسب الضوابط المبينة، فإنه يثبت نسب الوليد إلى أبيه زوج المرأة التي ولدته. ويستتبع ذلك أنه تثبت له جميع الحقوق التي تثبت للابن الشرعي وتثبت عليه، كالميراث والحضانة والنفقة والوصاية وغيرها.

وأما في الصور المحرمة، فإن الأمر يختلف. ولا يمنع القول بتحريمها من النظر في الأحكام الوضعية الناشئة منها؛ لأن الاستنساخ المحرم قد يقع رغمًا عن القرارات المتخذة بتحريمه وعن القوانين المحرمة له، أو يقع في بيئات أخرى لا تحضره. ونذكر هنا جملة من هذه الأحكام الوضعية:

1-النسب:

تحرص الشريعة بمجموع أحكامها على الحفاظ على الأنساب، وتحريرها من العبث بها، لينشأ الطفل في بيئة يعترف بها الشرع والمجتمع، مكونة من أبيه الشرعي الذي هو أبوه الطبيعي فعلا، ومن أمه الشرعية التي هي أمه الطبيعية أيضًا.

ومن هنا حاربت الشريعة الزنا، وحرمت انتساب الرجل إلى غير أبيه، كما في قول النبي : “إن من أعظم الفرى أن يُدعى الرجل إلى غير أبيه” (أخرجه البخاري). وحرمت التبني. وجعلت من أعظم الذنوب أن ُتدخل المرأة على قوم ولداً ليس منهم.

أ ـ من هو أبو النسيخ:

القاعدة الشرعية هي أنه إن اختلف الأب الشرعي عن الأب الطبيعي في بعض الصور الخارجة عن النظام الشرعي، فالحكم أن الطفل ينسب إلى أبيه الشرعي، وهو زوج أمه. فأي امرأة ولدت ولداً فأبوه شرعًا هو زوج تلك المرأة التي ولدته إن أمكن كونه منه. ولو قال الزوج: ليس هو ابني، لم ينتف عنه، ما لم ينفه بحكم اللعان الوارد بسورة النور. وسواء كان الزوج هو الأب الطبيعي الذي حصل الإخصاب بمنيه أم لا، ففي الصورتين هو لاحق به، لقول النبي : “الولد للفراش وللعاهر الحجر” (أخرجه البخاري ومسلم) (3). فعلى هذا: إن كان للمرأة التي ولدته زوج فهو أبوه الشرعي، فإن انتفى منه بلعان فليس له أب شرعي، وإن لم يمكن كونه منه فليس له أب شرعي كذلك.

وهكذا إن كانت المرأة التي ولدته ليس لها زوج. فلا ينتسب مثل هذا النسيخ إلى أب أصلاً، لقول النبي : “الولد للفراش، وللعاهر الحجر”.

ب ـ من هي أم النسيخ:

هذه النقطة قد يكون فيها اختلاف في وجهات النظر: فقد يقال: الأم هي صاحبة البييضة التي أخليت من نواتها. أو يقال: الأم هي صاحبة الـ23 كروموسومًا الأنثوية، وهي أم الشخص المأخوذة منه الخلية الجسدية. أو يقال: إن الأم هي صاحبة الرحم الحامل.

هذا، وإن تقرير أي هذه الأوجه الثلاثة هو الصواب المعتمد لا تحسمه الفتاوى الفردية، بل لا بد فيه من قرار جماعي، من جهة شرعية ذات اختصاص، لما يترتب عليه من أمور عظيمة.

2-العقوبات:

إن جرى الاستنساخ بالوجه الجائز فلا عقوبة. وإن جرى بوجه غير جائز فلا تستحق العقوبة الحدية؛ لأن حد الزنى لا يثبت إلا بالوطء المحرم، ولا وطء هنا، ولكن تستحق العقوبة التعزيرية على المرأة، وعلى من أمر بالعملية، أو شارك في تنفيذها. ويمكن أن تحدد القوانين مقدارها. وينبغي أن تتنوع بحسب عظم الجرم.

3-الحضانة والنفقة:

حضانة النسيخ لأمه التي يصدر القرار بأنها أمه، ثم لباقي القرابات على النظام الشرعي المتبع في الأحوال العادية.

ونفقة النسيخ على أبيه الشرعي ثم على باقي الأقارب. فإن لم يوجد من تلزمه نفقته تكون النفقة في بيت المال.

4-الولايات والميراث:

الطفل النسيخ يرث أباه الشرعي وأمه الشرعية، وسائر الأقارب، على النظام المعروف في أحكام المواريث. وهم يرثونه إن مات. ووليه هو الأب الشرعي. وإن لم يكن له أب شرعي فعصبته أمه، كابن الملاعنة، وابن الزنا.

5-الدين:

يتبع النسيخ خير أبويه دينًا، والمراد الأبوان الشرعيان. ولا عبرة بالأصل المنسوخ منه، ولا بصاحبة البييضة إن اختلفت عن صاحبة الرحم الحامل.

فإن لم يعلم له أب ولا أم، ووجد في دار الإسلام، فهو مسلم تبعًا للدار، ولقول الله العزيز الحكيم:( إن الدين عند الله الإسلام) “آل عمران:19”.

تابع معنا بقية أجزاء الدراسة:

  • موجز الرؤية الاجتهادية لاستيعاب قضية الاستنساخ
  • التعريف بظاهرة الاستنساخ ومداراتها
  • صدى التقدم في منجزات الوراثة في الأوساط الدينية والأخل
  • دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري

1- انظر مثالا ” نيل المآرب بشرح دليل الطالب ” بتحقيقنا 1/111 ط ثانية، عمان، دار النفائس 1420هـ.

2- أعمال ندوة الإنجاب ص 293 ـ 297

3- خ 2053، م 1457

1 ـ يرى البعض أنه ينطبق على الاستنساخ أنه تغيير لخلق الله تعالى، وتغيير خلق الله تعالى محرم بقوله تعالى:( إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا ولأضلنهم ولأمنيهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله)”النساء:117-119″؛ إذ تدل الآية على أن تغيير خلق الله تعالى محرم لأنه مما يأمر به الشيطان، وهو لا يأمر إلا بالفحش والمعاصي.

وقالوا: ومما يدل على أن تغيير خلق الله تعالى ممنوع شرعًا لقول الله تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)”الروم:30″ وقد ورد عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: “لعن عبد الله ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت أم يعقوب ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في كتاب الله؟” الحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

ونقول إن قول الله تعالى: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)”الروم:30″ يعني عند أكثر المفسرين أن الدين الحق، وتوحيد الله بالعبادة وإقامة الوجه له، والبعد عن الشرك وتجنب جميع مظاهره هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن بدّل عن ذلك فقد بدّل الفطرة، وليس له تبديلها.

وأما جعل الوشم والتفليج والنمص من تغيير خلق الله فقد يفهم من روايات الحديث أنه من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه وليس قوله حجة على ما هو المعتمد عند بعض المحققين من الأصوليين من أن قول الصحابي ليس بحجة في الدين.

وإذا قلنا هو حجة، أو افترضنا أن جعل هذه الأمور من تغيير خلق الله، فالتغيير هو ما ذكره من الوشم والتفليج والنمص ونحوها من التغيير في الجسم، مما يظهر الخلقة على غير ما جعلها الله تعالى عليه، ولا ينطبق ذلك على الاستنساخ إلا إن أدى إلى نحو وجود دجاجة بست أرجل، أو رأسين، أو بقرة بثلاث أعين. أما إن وجدت بالاستنساخ حيوانات بالصورة التي خلقها الله تعالى عليها فلا ينطبق عليها أنها تغيير لخلق الله.

ثم لو قلنا إن الاستنساخ في البشر من تغيير خلق الله تعالى لوجب أيضًا منع الاستنساخ في النبات والاستنساخ في الحيوان، وهذا من التضييق والتعسير الذي لا تأتي به الشريعة. وبهذا يعرف أيضًا الجواب عن الاستدلال بالآية الأولى.

2 ـ قد يظن البعض أن محاولة توليد المنسوخ بهذه الطريقة هو محاولة من البشر أن يخلقوا مثل خلق الله تعالى. ومحاولة مثل ذلك ظلم وأي ظلم، لأنها لا تقع إلا ممن لا يقدر الله تعالى حق قدره، فيدخل تحت قول النبي (صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: “ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة” (أخرجه البخاري ومسلم).

وقد رددنا على هذا التصور في ما تقدم من هذا البحث، وبينا أن فعل الاستنساخ ليس من جنس الخلق الذي تفرد الله تعالى به، بل هو نوع من (الزراعة) أي: وضع البذرة التي خلقها الله، وجعل فيها سر الحياة، في بيئة مناسبة لنموها، فتنمو لتكون مخلوقًا من مخلوقات الله تعالى، وهذا تمامًا، كما أن الزارع لبذرة شجرة إذا دفنها في الأرض وسقاها حتى نبتت وعظمت وآتت الثمار اليانعة، لا يصح القول بأنه قد خلق تلك الشجرة، ولهذا قال الله تعالى: ( أفرءيتم ما تحرثون* ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)”الواقعة:63-64″ .

3 ـ ورأى بعض المتكلمين من وجهة النظر الشرعية، في الاستنساخ أنه معارض للآيات التي ذكرت التناسل في ذكر وأنثى، بوصفه طريقة التكاثر البشري، نحو قول الله تعالى:( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)”النحل:72″ ، وقوله تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء) وقال: ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا)”الإنسان:2″.

قالوا: فتخلق حيوان أو إنسان بغير هذه الطريقة خارج عن الدلالة القرآنية.

ويمكن الإجابة عن الاستدلال بهذه الآيات ونحوها أنها لا حصر فيها لطرق التكاثر، فهي ذكرت الطريقة المعهودة، ولم تمنع طرفًا أخرى نادرة.

والجواب الصحيح أن يقال: إن الخلية المأخوذة من الأصل المستنسد منه، ناشئة في الأصل من تزاوج ذكر وأنثى، وهذا عندما كان ذلك الأصل خلية واحدة، ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت مئات الملايين عددًا، وكل منها يتكون من 46 كروموسومًا، 23 منها أصلها من الذكر، و23 أصلها من الأنثى، فهي إذن من ذكر وأنثى، وتدخل في الآيات المتقدمة من هذه الناحية.

4 ـ وقالوا أيضًا: إن هذا تبديل لسنة الله تعالى في خلق الإنسان والحيوان، وكل شيء خرج عن تلك السنة فهو من تبديل سنن الله تعالى، وقد قال سبحانه وتعالى( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً)”فاطر:43″ .

والجواب عن هذه الطريقة في الاستدلال أن الآية لا علاقة لها بالاستنساخ أو غيره مما يمكن الله تعالى به البشر من التصرف في المواد الأرضية بما ينفعهم من الصناعات التحويلية ونحوها، فإن الله تعالى استخلف آدم وذريته في الأرض، واستعمرهم فيها، فهم يغيرون ويبدلون، فيجعلون التراث أسمنتًا، ويجعلون الحجارة بيوتًا، ويغيرون أشكال المواد وصفاتها على الوجه الذي فيه نفعهم.

ثم لو كانت هذه التغييرات والتبديلات، ومنها الاستنساخ، من تبديل سنن الله المنفية بالآية لكان المزارع إذا قلب شجرة اللوز بالتطعيم إلى شجرة المشمش أو خوخ، داخلاً في ذلك، فإنه ليس في سنة الله تعالى ـ على الوجه الذي طبع عليه الطبيعة ـ أن تنقلب شجرة اللوز إلى شجرة مشمش تلقائيًا.

ثم إن الآية تدل على أنه ليس بإمكان البشر تغيير سُنة الله تعالى، فلما أمكن التغيير في الأمور الصناعية والتكنولوجية، كالتطعيم والاستنساخ دلّ ذلك على أنه ليس مرادًا بالآية.

ولو نظرت في سياق هذه الآية والآيتين المشابهتين لها (سورة الأحزاب: 62) و(سورة الفتح: 23) لعلمت أنها كلها واردة في سنة الله في نصر رسله على أعدائه الذين يشاقون الله ورسوله، قال القرطبي في تفسير سورة الفتح، الآية 23: “سُنة الله، أي طريقته في نصر أوليائه وخذلان أعدائه”.

إذن فنحن نقول جزمًا: “إن الاستنساخ لا يخالف العقائد الإسلامية الصحيحة”، ويبقى النظر في معرفة حكمه الشرعي الفرعي، وهو ما سوف نحاول أن نبينه فيما يأتي.

المصالح والمفاسد المترتبة على برامج الاستنساخ البشري

أولاً: المصالح:

1 ـ سيمكن من وجهة النظر الطبية الصرفة الاستفادة من الاستنساخ في بعض حالات العقم:

فالرجل الذي لا يستطيع الإنجاب بالطريق المعتاد قد يُقال بأنه يمكن أخذ خلية من جسده، وتؤخذ نواتها، لتدمج في بييضة منزوعة النواة مأخوذة من زوجته، ثم يعاد زرعها في رحم الزوجة نفسها صاحبة البييضة.

والمرأة التي لا يستطيع جسدها إنتاج بييضات بالعدد الكافي سيمكن الاستنسات فصل جنين واحد منها، في مرحلة الخليتين، أو الأربع أو الثمان، إلى عدة أجنة يحتفظ منها بالعدد الكافي احتياطًا للمستقبل.

2 ـ إمكان علاج بعض الحالات المستعصية التي تحتاج إلى استبدال كلية أو قرنية أو نحوها، بأخذها من بدن شخص مستنسخ من الشخص المريض، فإن الجسد لن يرفض العضو الجديد المأخوذ بهذه الصورة.

لكن يتوقع علماء النفس أن يكون لهذه الطريقة أضرار نفسية جسيمة، إذا عرف النسيخ أنه إنما أتى به إلى الوجود لمجرد أن يكون (مستودع قطع غيار) لإنسان آخر.

3 ـ الاستنساخ من ذوي المواهب والقدرات الفائقة، سواء كانت جسدية، كأبطال الرياضة، والفائقين في الجمال، أو عقلية كقادة الجيوش المنتصرة، وأبطال السياسة والعلم والأدب والفن والاختراع. فيرى البعض أنه يمكن بالاستنساد إيجاد أعداد كبيرة من هؤلاء. وهذا أمر مغر للدول العظمى، وللدول التي تطمح أن تلحق بالدول العظمى بامتلاك إمكانيات لا تتوفر لغيرها من الدول، وأهمها الثورات البشرية النادرة، وهو أمر يغري الشركات أن تستنسد (نسخًا) من العباقرة في العلم والاختراع لتبقى متفوقة على منافسيها.

غير أنه يمكن القول بأن الله تعالى خلق بني آدم مختلفين في قدراتهم اختلافًا بينًا، وأن هذا الاختلاف أمر أراد الله تعالى إيجاده في الخلق، ولم يقع صدفة؛ وذلك لأنه أنفع لسير الحضارات وتقدمها، ولصلاح الشعوب والمجتمعات، ليقوم كل منهم بالأعمال التي تناسبه ويقدر عليها، ولتختلف آراؤهم وأفكارهم فلا يكونوا نسخًا مكررة لشيء واحد وذلك أنفع لعمران الأرض، وفي الحضارة قال الله تعالى:( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمت ربك خير مما يجمعون)”الزخرف:32″ ، وقال سبحانه:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)”هود:119″ .

4 ـ إمكانية حصول الأسرة التي حرمت من الذكور على ابن ذكر بالاستنساد من رب الأسرة، والتي حرمت من الإناث من الحصول على بنت أنثى، وهذا إن تحقق ما توحي به قضية المطابقة في الجنس في أنواع الاستنساخ بين الأصل والفرع.

وكل هذه الأنواع من المصالح أوردناها حسب التصور المصلحي بقطع النظر عن الحكم الشرعي.

لكن الواجب على كل إنسان أن لا يتصرف في أمور حياته بمجرد ما يتخيله من المصالح، في الأمور التي فيها حكم شرعي إلا بمقتضى ذلك الحكم؛ لأنه إما مستفاد من النص مباشرة، فيكون من أمر الله تعالى، وإما مأخوذ من النص بالاجتهاد، فهو أقرب إلى الصواب من اتباع مجرد ظن المصلحة، فيكون اتباعها في مخالفة الحكم الشرعي اتباعًا للهوى، وقد قال الله تعالى:( ومن أظلم ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)”القصص:50″ .

وسيأتي بيان الرأي في الحكم الشرعي للاستنساخ البشري في آخر هذا البحث.

ثانيًا: المفاسد والمحاذير في الاستنساخ البشري:

وهي كثيرة، ويبدو أنها لم تتكشف كلها للعلماء والمفكرين بعد. فمنها:

1 ـ التأثير سلبيًا على مؤسسة الأسرة التي هي الركن الركين للمجتمعات، والتي أثبتت صلاحيتها وكفاءتها منذ عهد آدم وحواء عليهما السلام، وتحرص عليها الأديان كلها، وتحميها وتقويها وترعاها من الجوانب كافة، وهي الأنسب لرعاية الإنسان وليدًا وطفلاً وشابًا وكهلاً وشيخًا، ومن هنا حرم الشرع الإسلامي الزنا واللواط، وأثبت حرمة البيوت، وحرمة النفوس، وأوجب البر والصلة، وأحكام النكاح والرضاع والنفقة والولاية والوصاية وأحكام العدد والنسب والميراث وغيرها، مما سمي باسم: الأحوال الشخصية، أو أحكام الأسرة.

وينشأ الطفل في الأسرة الشرعية محوطاً برعاية الطرفين: الأب والأم، ومن خلفهما الأجداد والجدات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وبينهم ينشأ الطفل مطمئن النفس إلى أنه في بيئة ترعاه بكل قلوبها وجوارحها، وتحنو عليه، وتفديه في صغره، ثم في حالات الضعف والأزمات بعد ذلك، وهذا بخلاف الطفل الفاقد لكلا الجانبين كاللقيط، أو لأحدهما كاليتيم الذي فقد أباه، والعجيُّ الذي فقد أمه وكابن الزنا الذي لا يعرف له أباً، فإن كلاً من هؤلاء ينشأ في نكد وعسر من أمر حياته، كما هو مشاهد، ولا تكاد تصلحه الدور الاجتماعية التي تهيأ له مهما كانت جودتها ومهما عظمت العناية بها.

فالاستنساخ حيث لا يعرف النسيخ أصله يكون من هذا الباب. وحتى لو عرف أصله ونشأ في رعايته فلن توجد تلك العلاقة القلبية التي تصل الأب والأم بابنهما وبنتهما.

وإن نشأ الطفل النسيخ في رعاية أب ليس هو أباه الطبيعي (كزوج أم) مثلاً، فلن يجد لديه الحنان الحقيقي الذي يجده الطفل من أبيه الشرعي الطبيعي.

2 ـ إن الاستنساد (وهو الاستنساخ من الخلايا الجسدية) يصلح علمياً أن يكون من أنثى لأنثى، وهذا ما حصل للنعجة (دوللي) فإنها تخلقت باستزراع نواة خلية من نعجة حامل.

فإن حصل هذا في البشر، كان فيه، بالإضافة إلى فقدان النسيخ نصف العلاقات الوالدية كما تقدم الاستغناء عن الرجال في عملية الإخصاب، خلافاً لما كان عليه الأمر في الخلق منذ عهد آدم عليه السلام، ما عدا ما كان من شأن عيسى عليه السلام فلو كثر هذا في بعض المجتمعات البعيدة عن الإرشاد الإلهي سوف يؤدي إلى انحطاط مرتبة الرجال، وتفوق النساء، لأنهن يصبحن في غنى تام عن نوع الرجال، وفي ذلك ما فيه من ضرر على الحضارة والتقدم.

وربما كان في الحديث النبوي الإشارة إلى أن هذه الحالة ستقع في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم (به) أحد بعدي: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا ويقل الرجال، وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد” (أخرجه البخاري ومسلم).

3 ـ إنه إن تحقق ما توحي به قضية المطابقة بين الفرع والأصل في الاستنساخ في الذكورة أو الأنوثة ربما أصبح التحكم في المواليد المطلوبة للمجتمعات تابعاً لهؤلاء الساسة في كل مجتمع. ولهذا من العواقب الوخيمة ما قد لا يقدرونه في الحال، فيؤدي ذلك إلى تدمير المجتمع على المدى البعيد. فإن الله تعالى جعل كلاً من الذكر والأنثى سكناً للآخر، وجعل ذلك أساس بناء المجتمع. وهذا كما أنه مطلوب للديانات السماوية هو أيضًا من النواميس الجارية في الخلق، فإن الغالب في المجتمعات الإنسانية مساواة أعداد الرجال لأعداد النساء تقريبًا، ولا يعرف البشر إلى هذا الوقت كيف تتحكم الإرادة الإلهية فتساوي بين أعداد الجنسين، ولله حكمته البالغة. فكيف إذا كان الأمر تبعًا لأهواء البشر ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) “المؤمنون:71”.

4- تحدث قوم عن استنساخ نسخ من العظماء والطواغيت الموتى أو الأحياء. والإنسان مغرم بطول البقاء. وقد قال الله تعالى حاكياً ما قاله إبليس لآدم عليه السلام: ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) “الأعراف:20” فاستطاع باستغلاله ميل آدم وحواء إلى الخلود أن يغويهما عن أمر الله تعالى.

وقد حاول الفراعنة الطواغيت الوصول إلى بعض ذلك، بأن صنعوا التماثيل والأصنام التي تخلد ذكرهم، وتُوقع في القلوب الرهبة منهم، وتوحي بأنهم كانوا ذوي قدرات خارقة. فسيجد فراعنة العصر بالاستنساد الوسيلة التي يبقون بها أحياء يمشون بين الناس، ضمن النسخ التي تؤخذ من أجسادهم، وتنمو في أرحام مستأجرة.

وسوف يغلب على ظن المغرورين منهم أن من مصلحة شعوبهم ـ التي قد لا تجد وسيلة للخلاص منهم إلا التربص بهم أن يحصدهم الموت لتتنفس الشعوب الصعداء ـ سوف يظن الطواغيت أن من المصلحة أن لا تفقد شعوبهم بفقدهم عبقرياتهم الخارقة التي لن تصلح شؤون الشعوب إلا بها، وأن الأبناء الطبيعيين لا يمكن أن يقوموا مقامهم لأن في هؤلاء الأبناء دماء أخرى، تنقص من مقدارهم، ولذلك يسعون إلى إيجاد نسخ أخرى منهم مطابقة تماما، تتابع السير في طريقهم. وسيدفع هؤلاء الطواغيت من أموال شعوبهم، سرًا أو علانية، التكاليف الباهظة لهذه النسخ الثمينة. وربما أيد هذا المسعى بعض الفئات المغترة بأمثال هؤلاء، أو الحاطبين في حبالهم.

5- إن التكاثر التزاوجي فيه ارتقاء بجنس البشر، لأنه يقوم على سنة انتخاب النسل الأقوى والأوفر حظاً من الصحة والجمال والقدرات العقلية: يبدأ بانتخاب كل من الزوجين شريكه الآخر من بين المئات والألوف من البشر. ثم تجري عند الإخصاب عملية السباق بين ملايين الخلايا الذكرية لتلقيح الخلية الأنثوية، ويكون ذلك من حظ الأقوى والأسرع.

أما التكاثر الاستنساخي إن أُتيح للناس استخدامه، فسوف يكون الأمر فيه تابعاً لأهواء أصحاب القدرات المالية، القادرين على دفع التكاليف الباهظة، ولن يكون هناك ارتقاء ولا انتخاب، بل صورة مطابقة تماما.

هذا بالإضافة إلى أن الإنسان يهمه أن يحقق ذاتيته وهويته التي يعلم أنها متميزة عن سائر الناس، والنسخ مفوِّت لهذه الذاتية والهوية. ويمكن مقارنة ذلك بالأصل النادر من كتاب بخط مؤلفه ليس له نظير، فإن قيمته ذاتية. أما النسخ المكررة من كتاب مطبوع فإن كلاً منها فاقد للقيمة الذاتية، إلا ثمن الورق وأجرة الطبع. غير أن بعض المفكرين يقرون بأن المساواة بين الأصل وبين النسيخ ليست إلا مساواة شكلية سطحية ظاهرية، وأن ذلك لا يمنع أن تكون كل واحدة من النسخ متفردة بذاتيتها. إن الإنسان هو جهة اللحم والدم وليد أبويه، أما عقليته وأفكاره وأخلاقه ومواهبه فهي بنسبة كبيرة: وليدة الخبرات الحيوية والدراسات والبيئة التي تحيط بالناشئ من مختلف الوجوه.

وهذا عندي حق بنسبة كبيرة، والتوائم المتطابقون هم متطابقون من جهة الشكل والمظهر، والخصائص العقلية والنفسية الأساسية المركبة فيهم، لكن لك منهم طباعه وانفعالاته وعواطفه وشجونه وأفكاره وكفره وإيمانه، خاصة أن تربوا في بيئتين مختلفتين، كما هو معلوم. والنسيخ في الحقيقة ما هو إلا توءم مطابق في الأمور الأساسية فقط.

6- ويتبع ذلك أيضًا خلل اجتماعي من ناحية أخرى، وذلك أن التفرد في المظهر الجسدي يعطي الشخص هويته التي يعرف بها، وبها يمكن أن يتعين الشخص في المعاملات المدنية والجنايات والأمور الاجتماعية وغير ذلك. وقد قامت الأنظمة في العالم على تحمل كل إنسان مسؤوليته عن أعماله، واستحقاقه لحقوقه التي يحفظها له المجتمع، فلو أن الاستنساخ أخذ مجراه في البشر، ووجد من الإنسان الواحد مئات من النسخ المتطابقة، فإن هذا يجعل من العسير تحديد محل الحقوق والالتزامات عن الإعمال البشرية.

وكمثال على ذلك يُذْكر أن البصمة كانت وسيلة لتحديد شخصية الإنسان لآماد طويلة، وستفقد البصمة قيمتها بشيوع الاستنساخ؛ لأنها ستكون متكررة بتكرار النسخ بالهيئة نفسها تمامًا. ومثال آخر، أنك تذهب إلى المصرف لفتح حساب جار مثلاً، أو السحب منه، فيكتفي موظف المصرف للتثبت من كونك صاحب الحساب النظر إلى صورتك في البطاقة الشخصية، فلو اتحدت بالاستنساخ صورة مائة شخص أو ألف شخص مثلاً، يكون من العسير إثبات من هو صاحب الحساب منهم. وهكذا في تعامل الناس مع كل نسخة من الألف بالبيع أو الشراء أو إثبات الحقوق.

7- إن الاستنساخ سيُوجد مشكلات في النسب وما ينشأ عنه من الحقوق، كالنفقات والميراث والحضانة والولاية وغير ذلك.

وبيان ذلك بالنظر في العلاقة بين كل من النسيخ وأصله صاحب النواة المستنسخ منها، وبين المرأة صاحبة البويضة، والمرأة التي حملت وولدت. وذلك يطرح أسئلة يعسر الجواب عنها، منها:

أ- هل الشخص المستنسخ منه هو الأب الطبيعي للنسيخ. أم هو أخ له، ويكون أبو الأصل هو أباهما، أم ليس للنسيخ أب؟!.

ب- في حالة كون الاستنساخ من خلية امرأة، من هو أبو البنت المنسوخة، أو المرأة صاحبة الخلية!!؛ أم أبو تلك المرأة ؛ أم ليس لها أب على الإطلاق؟! وهكذا يقال فيها لو نسدت المرأة من خلاياها هي وحملت به.

ج- في حالة إعادة البييضة في غير رحم صاحبتها: أيتهما الأم الطبيعية: صاحبة البييضة، أم صاحبة الرحم، أم صاحبة النواة، أم صاحبة النواة؟.

وينبني على هذا الاضطراب ذلك الاضطراب الذي سيحدث في تحديد من هم إخوة هذا النسيد من أبيه، ومن إخوته الأشقاء، ومن إخوته للأم، ومن أولاد إخوته، ومن هم أعمامه وعماته، ومن أخواله وخالاته، ومن المحارم ومن غير المحارم؟.

هذا الاضطراب في تحديد هذه العلاقات، وما يتبعه من الاضطراب في قضايا المحارم والميراث وغيرهما من الحقوق والواجبات، سوف يكون ذا أثر خطير على المجتمعات لا يعلم مداه إلا الله.

8- يخشى العلماء أنه قد ينشأ من بعض الأخطاء في أثناء تنفيذ عملية الاستنساخ أن توجد في المواليد عاهات وأمراض غريبة. وربما قصد بعض من يجريها إيجاد تلك العاهات والأمراض لتنفيذ مآرب عدائية.

9- وقد ينشأ بالاستنساخ جيل من المخلوقات ينشق عن الجنس البشري ويختلف عنه في الأشكال والنفسيات. ومثل هذا ليس مشكلة في شأن الحيوانات المستنسخة؛ لأنه يمكن القضاء عليه دون حرج، أما في البشر فهو مشكلة خطيرة.

تابع معنا بقية أجزاء الدراسة:

  • موجز الرؤية الاجتهادية لاستيعاب قضية الاستنساخ
  • التعريف بظاهرة الاستنساخ ومداراتها
  • صدى التقدم في منجزات الوراثة في الأوساط الدينية والأخل
  • الأحكام الشرعية للاستنساخ

iOS APP Android APP

جميع الحقوق محفوظة لموقع اسلام اون لاين © 2020