أدرك وجهاء قريش خاصة، وأهل مكة عامة ما عليهم من واجبات نحو الكعبة والحجاج، فقد كانوا يرون لأنفسهم حق الحرمة والاختيار على العرب؛ بسبب اختصاصهم بكرامة جوار البيت الحرام، ويعتبرون أنفسهم أهله وأولياءه، كما كانوا يدركون مركز بلدهم، وما أنعم الله عليهم من كرامته وقدسيته؛ ولذا تضامنوا في القيام بواجبهم نحو وفود الحجاج من ترحيب وإكرام، باعتبارهم ضيوف بيت الله الذي في بلدهم، والذين هم سدنته. فماذا تعرف عن السدانة والسقاية والرفادة؟

كانت المناصب في قبيلة قريش خمسة عشر منصبًا، قسمتها قريش بين بطونها المختلفة لتحفظ التوازن بينها، وتمنع تنافرها أو تنازعها؛ ولتحفظ لقريش وحدتها وتماسكها، ولتوفر لمكة الهدوء والسلام اللازمين؛ لتشجيع الحجاج والتجار على الرحيل في كل عام إلى مكة، وكانت أشرف هذه المناصب السدانة والسقاية والرفادة.

أما السدانة، أو الحجابة فصاحبها يحجب الكعبة، وبيده مفتاحها، يفتح بابها للناس ويغلقه ومنصب السدانة أبرز المناصب على الإطلاق، والمنصب الثاني هو الساقية، ويتولى مناصبها توفير المياه للحجاج، ولم تكن هذه المهمة يسيرة لقلة المياه في مكة؛ فكان من يتولى المنصب ينشئ حياضًا من الجلد يضعها في فناء الكعبة، وينقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وكانت السقاية في بني هاشم بن عبد مناف، أما المنصب الثالث فهو الرفادة فكانت قريش تجمع من وجوهها بعض الأموال في موسم الحج؛ ليقوم صاحب المنصب بإعداد الطعام لفقراء الحجاج باعتبارهم ضيوف الكعبة، وكان أول من قام بالرفادة قصي بن كلاب، وأصبحت في بني نوفل، ثم في بني هاشم، ومن المناصب الكبرى التي تتعلق بالكعبة والحج منصب “العمارة” ويراد بها ألا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.

وعملت قريش على تشجيع الحجاج؛ فبذلت كل جهد لإنصاف المظلوم، ونشر العدل وعقدت من أجل ذلك “حلف الفضول“؛ فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.

اخذ قصي بن كلاب مؤسس قريش الرفادة، وتوارثها أبناؤه من بعده؛ فأصبحت سنة تقليدية متوارثة، وقد عرف ابن هشام الرفادة فقال: وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع به طعاما للحجاج؛ فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد؛ وذلك أن قصيا فرضه على قريش فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج حتى يصدروا عنكم؛ ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجًا فيدفعونه إليه؛ فيصنعه طعاما للناس أيام منى.

تولى قصي بن كلاب الحجابة والسقاية والرفادة ودار الندوة واللواء، وبنت قريش بأمر قصي بن كلاب حول الكعبة دورها، وتركوا مكانا كافيا للطواف بالبيت، وتركوا بين كل بيتين منفذا ينفذ منه إلى المطاف.

أنجب قصي ثلاثة أولاد هم: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وكان عبد الدار أكبرهم سنًّا، ولكن عبد مناف كان أكثر شهرة، وأرفع شأنا؛ فكسب احترام قومه، وعظمت مهابته بينهم، ورأى قصي أن يعوض عبد الدار عما افتقده؛ فأسند إليه بعض المناصب ليعتز بها على أخيه، فقال قصي لعبد الدار: أما والله لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا كان بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك.

وبعد وفاة قصي تولى عبد الدار هذه المهام، وورثها أبناؤه عنه، ولكن سرعان ما نازعهم عليها أبناء عبد مناف بن قصي وهم: عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل فقد رأوا أنهم أجدر وأقدر من أبناء عبد الدار، وأدى هذا التنافس إلى انقسام قريش وكادوا يقتتلون ثم جنحوا إلى السلم، واتفقوا على أن يتولى بنو عبد مناف بن قصي الساقية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء ورياسة دار الندوة لبني عبد الدار بن قصي.

تولى هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة، وحدث أن مرت فترة جدب وقحط بمكة، وعانت منها قريش، فرحل هاشم إلى فلسطين حيث اشترى كمية كبيرة من الدقيق، فقدم به إلى مكة، حيث صنع منه خبزاً ثم قام بذبح الذبائح، وصار يهشم الخبز لقومه؛ فأطلقوا عليه اسم “هاشم” بدلا من اسمه الأصلي “عمرو” وارتفع شأن هاشم في أرجاء الجزيرة العربية.

وتولى المطلب الساقية والرفادة بعد أخيه هاشم، حتى إذا شب عبد المطلب بن هاشم نازع عمه في مناصبه، واستعان بأخواله من بني النجار في يثرب، ونجح في استرداد مناصب أبيه، ووصف ابن هشام ما حازه عبد المطلب من مجد وسؤدد فقال: ثم ولي عبد المطلب بن هاشم الساقية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون من قبله لقومهم من أمرهم وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطرة فيهم.

تولى عبد المطلب منصبي السقاية والرفادة ولقي مشقة كبيرة في توفير المياه اللازمة للحجاج والوافدين على مكة، وخاصة أن مكة مرت بفترة ندرت فيها الأمطار، وكادت تجف مياه الآبار، في حين أشرف موسم الحج؛ ثم كانت الرؤيا التي دلت عبد المطلب على مكان بئر زمزم التي عفت عليها الأيام، وخرج عبد المطلب على مكان بئر زمزم التي عفت عليها الأيام، وخرج عبد المطلب وابنه الحارث، ونجحا في كشف مكانها وإعادة حفرها، وتدفق الماء من جديد من هذه البئر المقدسة، تروي الزرع والثمار، وتضمن توافر الماء للحجاج وأهل مكة.

وجد عبد المطلب في بئر زمزم نفائس وذخائر، كانت لمضاض الجرهمي، وقد أخفاها في البئر، وردم عليها عند اضطراره للجلاء عن مكة، وحتى لا يعثر أعداؤه عليها، وكان قد عجز عن حملها معه إلى منفاه، وتراكمت الرمال عبر السنين فأخفت هذه النفائس عن العيون والأيدي، ونازع القرشيون عبد المطلب فيما وجده وطالبوه بأن يشاركوه في هذه الذخائر، ولجأ إلى القداح لحسم النزاع.

وكان في مقدمة هذه النفائس غزالان من الذهب وأسياف وأدرع، وانتهت عملية ضرب القداح إلى أن أصبح الغزالان من نصيب الكعبة، والأسياف والأدرع من نصيب عبد المطلب، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين الذهبيين، ولكن بريق الذهب جعل بعض اللصوص يطمعون فيه.

أصبح عبد المطلب بعد اكتشاف بئر زمزم ينقل الماء منها إلى الحياض المحيطة بالكعبة، ويحلي الماء بالتمر والزبيب، وكان ابنه العباس يملك بساتين عنب في الطائف وهي مدينة على مقربة من مكة، فكان يمد والده بحاجته من الزبيب ولا زالت السدنة والسقاية والرفادة حتى يومنا هذا شرف عظيم لا يضاهيه شرف.