ياسر علام

يعد عبد الرحمن الأبنودي رائدا في التعاطي مع السيرة الهلالية في مصر

ما أحوج البشرية في هذه اللحظة المحتقنة، إلى محاولة التفاهم الإيجابي الخلاق. فبالرغم من كل المحاولات الدءوبة التي تقوم بها جماعات، وأفراد، ومؤسسات، فإنه ما زال الغالب المزهو بانتصاراته شيطانا اسمه “سوء الفهم“.

وما زال الكثيرون يبدو لهم أن ما يقومون به من جهود ليس إلا “آذان في مالطة”، على حد التعبير العامي البليغ. والتحفز والتحامل ما زالا مجداف المتعصبين، وصدقني لن تسمع سوى إلا ما يشير إلى أن “الآخر” هو وهو فحسب السبب.

الأمر أعقد كثيرا من أن تحله مقالة، أو دراسة، أو كتاب، أو مكتبة، أو حتى مؤسسة. غير أن الحكمة الشعبية تلوح لنا بمقولتها المعبرة الخالدة “نواة تسند الزير” فلا تدع للاستكانة أو السلبية إلينا من سبيل.

النموذج الشائع

حسنا لتكن نواتنا في رجم شيطان سوء الفهم مناقشة خلجة من خلجات ما يعرف بالــ”STEREOTYPE” الذي ترجمته “النموذج الشائع”. ولكن دعونا أولا نعرف ما هو هذا النموذج.

“النموذج الشائع” رأي متكرر بين مجموعة من البشر لفترة من الزمن، وبالرغم من أنه انطباعي أو تقريبي وعام لدرجة كبيرة، فإن شيوعه يعطيه بعد فترة من الزمن درجة من الحصانة، تجعل المرء يغفل عن كون هذا الرأي، غير قائم؛ لا على أسس علمية مثلا أو حتى على حقائق تاريخية. ويتحول هذا الرأي في ذهن الفرد إلى حقيقة، بالرغم من ابتعاده لحد كبير عنها.

ومثال ذلك النموذج الشائع الذي تستدعيه مخيلتك عندما أقول “سائحة أمريكية شابة” على الفور ستعتبرها -وبدون مناقشة- فتاة غير محافظة، غير مسئولة، جاءت لتسلية فارغة، بالرغم من أن الحقيقة قد تكون غير ذلك تماما. فقد تكون باحثة عنيت بدراسة طراز تاريخي معين متوفر في بلادنا، وفضلت أن تقضي، حتى فترة راحتها، فيما يمس تخصصها. أعلم أن البعض سيسرع في الرد بقوله: لكن النموذج الذي تفترضه نادر، وحين تسأله: ما الذي دفعك لهذا الظن!؟ لن يجد مرجعية دقيقة لهذا التصور، غير رأي النموذج الشائع.

والحقيقة أنه من الإنصاف أن نقول: هذا ليس داء تختص به جماعة دون غيرها، بل دعنا نؤكد أنه مرض بشري؛ يتحول لدى جماعات إلى وباء، ولدى البعض الآخر إلى عرض يمكن التغلب عليه.

والحقيقة أن أبناء المجتمع الواحد يصنعون نماذج تقريبية لبعضهم البعض، وتكون أحيانا مسار تندر؛ مثل الطفيليين في الأردن، والحماصنة (أهالي حمص) في سوريا، والمنوفيين (أبناء محافظة المنوفية) أو أبناء الصعيد في مصر، والأسكتلنديين في بريطانيا… إلخ. والأمثلة أكثر من أن تحصى.

الآخر ونموذج السيرة

لوحة تعبر عن التراث الشعبي في العالم العربي

واحدة من ملامح النموذج الشائع للعربي المسلم في العالم الغربي نجد صفة واحدة لمعنى متعدد أنه؛ يضيق بالخلاف، أحادي، متعصب، غير متسامح، لا يستوعب الآخر، وهذا الجانب فقط من النموذج الشائع، سنحاول مناقشته من خلال استحضار عمل فني شعبي عظيم هو “السيرة الهلالية”، وإلى أي مدى يمكن أن يعكس بطلها هذا الملمح أو نقيضه.

ولنبدأ أولا بالسؤال المنتظر: من بطل أبطال السيرة الهلالية؟! من تقاليد الفن الشعبي أن تحمل السيرة اسم البطل، مثل أن نقول سيرة “عنترة بن شداد”، سيرة الأمير “سيف بن ذي يزن”، أو سيرة “الظاهر بيبرس“، أو سيرة “ذات الهمة”، لكننا لا نجد هذا الأمر في السيرة الهلالية على وجه التحديد، ففي شرق الوطن العربي حين ستسأل من بطل السيرة، في الغالب ما تكون الإجابة “أبو زيد الهلالي سلامة. غير أنك ما إن تعبر ليبيا، متجها غربا، حتى تكون الإجابة على نفس السؤال بأن البطل ليس سوى “الزناتي خليفة”. أما إذا اتجهت جنوبا فقد تطالعك إجابة مختلفة تماما،على سؤالك المتكرر لتكون “دياب بن غانم”.

هنا هل ستهز رأسك يمينا ويسارا، مكتفيا بالتعجب من هذا الأمر!؟، ومرجعا الأمر لاختلاف الأذواق! نعم قد تفعل، غير أن مناقشة منطقية مع صاحب الإجابة، ستكشف لك حقائق أقل ما توصف به أنها مذهلة.

السيرة.. حكاية الشعب

السيرة الهلالية لمن لا يعرفها عمل جليل وعظيم يصعب دائما وأبدا الإحاطة به، ويكفي أن نعلم أنه يزيد عن المليون بيت شعري في بعض الروايات. وهو عمل تتجلى فيه الحكمة الشعبية العربية في تجل درامي من أجمل وأكمل ما عرفته البشرية من ملاحم.

ولكن لننجو من الافتتان بعظمة هذه الملحمة، ولنعرض لموضوعها العام في سطور.

إنها التجربة الحياتية للحلف الهلالي المكون من قبائل نجد المقاتلة والمدافعة عن قيم الأمة وشرفها. وكعادة الملاحم، هي تستنهض الأمم بذكر أمجادها العسكرية، وبطولات القادة الذين أنجبتهم أرضها في السلم والحرب. وتعيد السيرة الشعبية تاريخ الأمة وتفسره بطريقة فنية حسب معتقدات البسطاء والمحكومين لا الحكام، إنها حكاية الشعب، كما يفهما الشعب، أو كما يحب أن يفهما.

هلال” الجد البعيد الذي تنتسب له القبيلة المحاربة قبيلة “بني هلال” هو أحد رجال الإسلام الذين أبلوا أحسن البلاء في الدفاع عن الرسول في “غزوة تبوك” –هذا ما تذكره السيرة- فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية. وفي اللحظة التي تبدأ فيها السيرة، يكون فارس بني هلال المغوار هو “رزق بن نايل بن جرامون بن عامر بن هلال”، حامي حمي الحلف الهلالي.

وعبر ملابسات معينة يتزوج “رزق” من “خضرة الشريفة” ابنة الأمير “قرضة الشريف” حامي الحرمين وحامل مفتاح الروضة الشريفة، وينجب منها “أبو زيد الهلالي سلامة”، ليكون بذلك جامعا لطرفي المجد، فهو بذلك شريف من نسل النبي يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية.

ولا أريد أن أغالي فأقول إن المزاج الشعبي قد طاب له عمل مصالحة فنية حكيمة بين منطقي السنة والشيعة في الحكم، فصنع هذه الجديلة.. حسنا هأنذا قد قلتها بالفعل.

“التغريبة” ورواياتها

أحد الكتب التي تناولت السيرة الشعبية والآخر

وأهم أحداث السيرة وملحمتها الأساسية ما يعرف بـ”الريادة” و”التغريبة”، ونحن نعني هنا بالشق الثاني الذي هو “التغريبة” لأنه هو ما صنع الاختلاف الكبير في الروايات، بل في طريقة النظر لهذا البطل من ذاك.

“التغريبة” موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل من نجد مخترقة مصر عابرة إلى المغرب العربي، بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع. واستوطنت تلك القبائل أرض تونس، بعد أن زحفت إليها تسوق رجالها ونساءها.

أما تلك الحادثة فلها أصل تاريخي كما هو شائع في الملاحم، وأما تفسير هذا السلوك وتبريره فهذه مهمة الفنان الشعبي، الذي يمنطق هذا الفعل بمنطق غالبا ما يخالف ما حدث تاريخيا، لصالح وجهة نظره الفنية والإنسانية.

على أي حال الثابت تاريخيا، أن قبائل هلال، وسليم، ودريد، والأثبج، ورياح، قد هاجرت من نجد من منتصف القرن الخامس الهجري، واستمرت موجات الزحف لما يقرب عن قرن. وقد استطاع “عبد المؤمن بن علي” إمام الموحدين التصدي لها بعد أن وطن بعضها واستعان ببعضها على بعض.

وأصل الأمر أن هذا الزحف قد تم بتدبير الوزير “اليازوري” وزير الخليفة الفاطمي في مصر، والذي منح “المعز بن باديس” حاكم أفريقية عام 435 هجريا لقب “شرف الدولة”، وبدلا من أن ينحاز “المعز” بعد هذه المنحة للخليفة الفاطمي، انحاز لعامة شعبه الذين قاموا بثورة ضد أصحاب المذهب الشيعي الإسماعيلي، وبالفعل أمام الثورة الشعبية نادى المعز باتباع مذهب الإمام مالك وخطب في المساجد للخليفة العباسي “القائم بأمر الله”، واعترف له الأخير باستقلال المغرب تحت إمرته.

جن جنون الخليفة الفاطمي في مصر، مما يحتسبه نصرا للخليفة العباسي السني في بغداد، فأشار عليه الوزير “اليازوري” بتحريض قبائل نجد بالزحف على تونس، فكان ما كان. وتصدى لهذا الزحف المعز بجيش مؤلف من قبيلتي “زناتة” و”صنهاجة”، ويقال إن هروب “زناتة” بعد بطولات المعز هو ما حسم الأمر للغازين.

لكن السيرة لا تذكر شيئا عن الشيعي والسني والخليفة الفاطمي والعباسي، بل تقدم مبررا أخلاقيا لهذا الغزو، وإن نوهت ولو بشكل متوار على ما حدث، ففي السيرة أن “زناتة” أو الزناتي خليفة وحلفاءه قد طمعوا في أرض يحكمها الأمير “عزيز الدين بن الملك جبر القريشي”، فاستولوا عليها بالخداع، فاستعان الشريف القريشي بأبناء عمومته من قبائل نجد، ليردوا الحق السليب لأصحابه الأشراف.

والمتأمل سيجد ظلال التاريخ والخلاف المذهبي من بعيد، فمن الممكن اعتبار الشريف بالنسب كناية عن الخلافة الشيعية الذي هذا منطقها، على أي حال السيرة لها منطقها. ويفسر ذلك تعدد رواياتها واعتبار من هو بطلها.

الفارس الأسود

فالرواية في الشرق كما أسلفنا بطلها “أبو زيد الهلالي سلامة”، الفارس الأسود، الذي تُتهم أمه في شرفها لسواده وهي التي دعت الله أن يهبها غلاما يماثل الطائر الأسود القوي الذي رأته واختارته:

“يا أسمر .. والرب حلاك

في جسمي البلا كلموني

لو أسمر قوي برضه عاوزاك

وحتى إن لاموني يلوموني”

“تمنت وطلبت من الله

يعطيها غلام صالح

كي يعمر لرزق دياراه

ويقضي جميع المصالح”

“ويكون قلبه للعلم مشروح

يصلي على البدر “طه”

كان يوم دي باب العرش مفتوح

استجاب الإله دعاها”

وتستجيب لها السماء فتوهب ذلك الذي ببطولته وبالبرهان يتسيد قومه بعد ذلك، وهو الغوث الذي يضرعون إليه في الملمات، وفي أعوام القحط، وحين يهان أشراف المغرب، يقوم بمغامراته الاستكشافية ثم يقود قومه في التغريبة ويعيد الحكم الشرعي لأصحابه، هو العالم المقاتل، صاحب السيف والقلم حسب التعبير الأدبي، أو صاحب الحال والمقال حسب التعبير الصوفي.

“الزناتي” بطل المغرب

لكن في رواية المغرب ستجد أن بطل السيرة هو زناتة، لاحظ فكرة التأريخ من وجهة نظر الفن، وبطل زناتة هو “الزناتي خليفة” هذا البطل الذي وقف يدافع عن أرضه تونس وبلاده، ضد الغزاة الغاصبين الهاجمين من الشرق، والذين جاءوا ليستولوا على الأخضر واليابس بقيادة الوحش الأسود أبو زيد الهلالي.

والزناتي يظهر أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبي المناضل في السيرة، وهكذا يختلف منظور السيرة حسب زاوية النظر.

وكما هو معلوم، فالروايتان لا تقللان أبدا من قدر بطولة البطل الآخر، مع الاحتفاظ بكونه العدو. بل إن الرواية المغربية تعطي أبو زيد من الأوصاف والمقدرة والبطولة ما تجعله لا يهزم البشر فحسب بل الجان كذلك.

كما أن الرواية الشرقية تعطي الزناتي من أبيات المدح في مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الأخرى، كذلك فإن كلا البطلين لا ينكران قيمة الآخر، بل يكيلان المديح لبطولة الآخر، بل إن بطلا لا يواجه آخر في السيرة إلا ويعظم من قيمة خصمه، ربما ليكون لمضاعفة قيمة الانتصار عليه:

“جالس على الكرسي “خليفة” الغندور

راجل منظره يهيب الأسْوده

بطل المغارب نعم وعنده شعور

يا ما فيه ناس حسوده وحقوده…”

بطل الجنوب وحامل الأمل

قلنا إن ثمة رواية ثالثة في الجنوب تنتصر لـ”دياب بن غانم” وهو أمر مدهش. فدياب بن غانم ليس هلاليا أصيلا، بل من “الزغابة”، وهي قبيلة من قبائل ملحقة بالحلف الهلالي، وهي في المرتبة الثانية من حيث إنهم ملحقون ومحتمون بالهلالية، ودياب مع قوته وعنفوانه يحاول دائما الاستيلاء على السلطة في غيبة أبي زيد الذي يردعه، وهو نفس ما يفعله في تونس مع “الزناتي”، لكن رواية الجنوب لا تراه رمز الخسة والبطش، بل تراه البطل المناوئ، هو ليس من السادة والأكابر، وليس من بيت الحكم، لكنه الأمل الذي يمكن للصاعد من أسفل إذا ما أجتهد أن يناله فيكون بذلك قد نال ما يستحق.

السيرة إذن ليست تعرضا لنمط أحادي من البطولة، ولا تبخس العدو بطولته، بل تفهم الدوافع والأسباب، ومبررات السلوك، وهي بذلك حالة جدل وتحاور بين أنداد على نحو ما، تصلح دائما للاستلهام.


كاتب وناقد فني.