لم يكن بمقدور الجزائر الشروع بالإصلاحات الاقتصادية عام 1994، دون أن يترتب عليها تكاليف اجتماعية، كإغلاق المؤسسات المفلسة، وتسريح العمالة الزائدة التي انضمت لطوابير البطالة. وزاد من هذه التكاليف تخفيض القيمة الشرائية للدينار الجزائري مقابل العملات الأجنبية، كما رفعت الحكومة الدعم عن الكثير من السلع الاستهلاكية، فأصبحت العائلات أمام واقع جديد غير مسبوق في تاريخ البلاد من استقلاله.

وعلى طريقة أن “الحاجة أمُّ الاختراع” واجهت المرأة الجزائرية هذا الواقع الصعب بالبحث عن حلول ذاتية لرفع مستواها الاقتصادي، فلجأت إلى حرف تمارسها في المنزل، لسد حاجة أسرتها ولو بالقليل، أو لزيادة الدخل إذا كان لدى الأسرة مرتب وظيفي؛ فالرواتب لم تعد هي الأخرى كافية لسد النفقات.

“حورية” هي إحدى السيدات الجزائريات اللاتي تضررن من الأوضاع الاقتصادية، لكنها لم تيئس، بل قررت العمل من المنزل لزيادة دخلها، وتقول: “أنا أعمل أستاذة في التربية، وأعيل أمي وأختي وابنتي بعد طلاقي، وفكرت بالخياطة، صنعة تعلمتها منذ الصغر، فلماذا لا أخيط الملابس للجيران والأقارب وحتى العرائس لمواجهة غلاء المعيشة؟”.

اشترت حورية ماكينة خياطة، وبدأت تحيك الملابس بمساعدة والدتها ونجحت بمهاراتها في جذب زبائن كثيرين، حتى إنها وسعت من مشروعها المنزلي، بشراء عدد آخر من الماكينات، وتقول بعد نجاح مشروعها: “أوظف حاليا عدة بنات، وأصبح معدل الإنتاج خاصة في الصيف مواسم الأعراس أكثر من ألف قطعة في الشهر، ويسوقه ابن الجيران وهو عاطل عن العمل، يأخذ نسبة من المبيعات، وهكذا استطعت التغلب على غلاء المعيشة، ووفرت عملا لعشر بنات وشاب”.

وعلى غرار حورية، ستجد قصصا أخرى لسيدات انتهجن نفس الطريق وبمنتجات مختلفة، وقد التقيتهن في معرض الصناعات التقليدية الذي نظمته وزارة السياحة خلال شهر يوليو العام 2005، ولأول مرة يخصص هذا المعرض جناحا لمعروضات الأسر المنتجة للتعريف بالاقتصاد المنزلي.

مشروع حلوى

وفي أحد أركان المعرض استوقفني طعم حلوى جزائرية الصنع، فاكتشفت أن وراءها مشروعا لسيدة تدعى حفيظة، وتقول: “كنت أعمل مهندسة معمارية، ولأسباب لا داعي لذكرها فصلت من العمل، والمرأة التي اعتادت العمل من الصعب أن تقبل بوضع البطالة، كما أن راتب زوجي لا يكفي نفقات الأولاد، فدخلت مدرسة لتعليم فن صنع الحلوى الجزائرية والأجنبية، وأتقنت العمل بعد عام من الدراسة، وشرعت فورا في صنع الحلوى للأعراس”.

موسم العمل عند السيدة حفيظة هو فصل الصيف الذي يتزامن مع موسم الأعراس، ويصل معدل دخلها الشهري إلى 20000 دينار جزائري تعادل نحو 250 دولارا أمريكيا، حيث يطلب الناس الحلوى التقليدية مثل “قنيدلات، ودزايرية، ومخبّـز، وشاراك، ومقروط اللوز، وبقلاوة، وصمصة”.

وتقول هذه السيدة: “أساعد بهذا المبلغ زوجي على تحمل نفقات البيت والأولاد؛ فراتبه لا يكفينا لآخر الشهر، رغم أنه 30000 دينار جزائري (335 دولارا أمريكيا)؛ لأن المعيشة ارتفعت”.

مشكلة التسويق

أفكار أخرى تجدها منتشرة في حقل الأسر المنتجة في الجزائر، فتلك امرأة تصنع الأدوات الفخارية، وأخرى تنتج الشراشف المطرزة، والملابس التقليدية، وغيرها، ولكن على كثرة الأفكار والمشروعات المنزلية، فإن المشكلة الرئيسة التي تواجه هذه الأسر هي تسويق منتجاتها.

ولعل ذلك دفع بعض الجمعيات الشبابية إلى محاولة حل هذه الأزمة، وفي هذا الصدد، يقول أحمد يزيد رئيس جمعية مهتمة بالصناعات الحرفية في ولاية تيزي أوزو إحدى ولايات منطقة القبائل (شمال شرق الجزائر): “في منطقتنا يقوم النساء بصنع الحلي، والشراشف المطرزة بالنقش البربري، والملابس القبائلية، وغيرها، ففكرنا كمجموعة من الشباب بمساعدتهن على تسويق تلك المنتجات، فنجمع منتجاتهن، ونبيعها في السوق الأسبوعية، أو لدى تجار نعرفهم، ونأخذ نسبة من الربح”.

ورغم هذه الجهود التي يساندها محاولات فردية من الأسر نفسها، فإن التسويق ما زال ضئيلا -حسب خيرة عبروس رئيسة جمعية الأسرة المنتجة- التي تحدثت عن مطالبهم قائلة: “نحن شاركنا في معرض الصناعات التقليدية لإشعار السلطات بأهمية الاقتصاد المنزلي، وطالبت كرئيسة للجمعية الوطنية للأسر المنتجة من وزير الصناعات الصغيرة والمتوسطة أن يعطوا الأسر المنتجة حانوتا لتسويق منتجاتها، وتخصيص مساحة من أسواق الولايات للأسر المنتجة، وكذلك طالبنا المشاركة في المعارض الدولية للتعريف بثقافتنا؛ لأن هذه الصناعات ثقافة شعوب”.

الوعي بالاقتصاد المنزلي

من جهته يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور عبد المالي سراي على ضرورة الوعي بالاقتصاد المنزلي الذي تعد الأسر المنتجة هي قلبه؛ لأن هذا النوع من الاقتصاد لن يوفر دخلا فقط، بل يساهم في التعريف بثقافة الجزائر، وكذلك بالمرأة وإبداعاتها، وقدراتها التي ما زالت غير مستغلة، لا سيما أن النساء يشكلن 51% من السكان.

كما يساهم الاقتصاد المنزلي -حسب سراي- في امتصاص البطالة التي تقدر الآن بنحو 23%، وإذا ما قامت الدولة بدعم الأسر المنتجة عبر التسويق في السوق الداخلية والخارجية، فيمكن أن تُقدر نسبة الاقتصاد المنزلي بنحو 17% من الاقتصاد الجزائري.


د.أميمة أحمد  صحفية عربية تعمل في الجزائر  – يوليو 2005