تبدو المسألة مقارنة بين ضدين، ولكنها هنا ليست كذلك، وبالطبع ليس العطف هنا لتنويع الترادف، هي شيء بين ذلك وذلك، قد يحوجنا إلى اشتقاق معنى جديد لـ”الواو”، وتلك قضية قد تسند القائلين بضيق أوصاف الإعراب عن معاني الكلام، ولكن ذلك شجنٌ آخر.

القضية التي نطرحها للمساءلة ليست مسألة الدين والفن، فتلك مسألة لم تعد تحتمل مزيد مداد، بل مسألة التدين وحب الفن، الأسئلة التي أريد طرحها هي، هل قوة التدين تنفي قوة التأثر بالفن؟ هل هناك تناسب عكسي بين الاثنين؟ أم أن كليهما يفترض وجود الآخر ضرورة؟ هي مشتبهات عدة يتوخى هذا المقال عرضها وتفسيرها، حسب وجهة نظر صاحبه.

التدين هو ممارسة بشرية ناشئة عن انفعال وجداني بالمبادئ العقلية والفكرية للدين، أي إنه مسألة لاحقة للاعتقاد، و “حب الفن” في عمومه هو انفعال وجداني بالنغم الجميل والصوت الحسن ومعرفة ما يناسب كل مقام روحي من ذلك، المشترك إذن بين الاثنين هو اتساع المساحة الوجدانية.

الوجدان آلة بملايين الأوتار ولكنها في النهاية واحدة النوع، كلما اتسعت مساحة الوجدان عند المرء ازدادت نسبة الانشغال بالرمزيات، دينا أو فنا، وقد يشتركان، الذي يفصل بينهما غالبا هو الموقف المسبق الواعي من أحدهما، أما اللاوعي فسيظل مؤمنا بالاثنين (التدين وحب الفن).

قد تتعذب روح الفنان بحثا عن قرار روحي مكين داخل فنه، ولن تقرَّ روحه إلا يوم يكتشف التدين فيقفز به وجدانه المرهف إلى علياء العبادة اللذيذة، هنا تتحول العبادة إلى فن أخاذ، وقد يظن المتدين اليابس أنه من الممكن أن يرتقي بعبادته من مجاهدة إلى عشق دون معراج فني، أي دون ذوق بلغة القوم، وذلك منال الثريا! الصفاء الروحي الواثق أن ينصهر الاثنان في روح واحدة.

قد تتعذب روح الفنان بحثا عن قرار روحي مكين داخل فنه، ولن تقرَّ روحه إلا يوم يكتشف التدين فيقفز به وجدانه المرهف إلى علياء العبادة اللذيذة، هنا تتحول العبادة إلى فن أخاذ، وقد يظن المتدين اليابس أنه من الممكن أن يرتقي بعبادته من مجاهدة إلى عشق دون معراج فني، أي دون ذوق بلغة القوم، وذلك منال الثريا! الصفاء الروحي الواثق أن ينصهر الاثنان في روح واحدة.

لتبسيط الفكرة، شاع في أوساطنا الاجتماعية أن (الموسيقى) تذكِّر بالآخرة، وقد أغلظ الخطاب الدعوي في بداياته القولَ على هذه الحجة، انقسمتُ أنا حينها حِيَال هذه المسألة إلى شخصين اثنين، داعية يلتزم خطابا دعويا رائجا، ومتأمل لا يقتنع بوجاهة القول الغليظ الموجه للعامة في مسألة لم ترق لاتفاق العلماء بله الإجماع، خصوصا أنني كنت أنظر في واقع بعض المحتجين بها، ومنهن عجائز لم يعد لهن في هذه الدنيا أرب، يسمعن الفنانة الراحلة ديمي – مغنية موريتانية –  تصدح ملتاعة بطلعة (شعر شعبي موريتاني):

هذا الدهر اتف بيه  * مارت عن قدار

مارت ما تور فيه   * حلاوَ ما تمرار

فيسبلن الدموع مستغفرات، ويتذاكرن بعض الراحلين والراحلات من آباء وأحبة وخلان، ويفيض بهن الحديث إلى الجنة والنار، أنا لا يمكن أن أؤمن أن أولئك العجائز المؤمنات ينطقن بُطُلاً من القول يتوصلن به إلى محرم حين يقلن إن (الموسيقى) تذكرهن بالآخرة.

صحيح أن التأثر الوجداني ليس دليلا شرعيا على جواز مسألة ما، ولم أرد بهذا ذلك، ولكن ما يهمني هنا هو التدليل على أن (حب الفن) قد يقود إلى التدين.

قد يكون في الأمر رذاذ من رؤية التصوف، أو قل هي حجة “الغناء الديني” حسب مصطلح الفقهاء، إن لك كل ذلك ومثله معه وما أنا عليك بمسيطر، لكنني أظن المحظور في موضوع “الغناء الديني” هو أن يتحول إلى عبادة مغْنِيَةٍ عن عبادة منصوصة، أو أن يكون الانفعال به مصاحبا لعقيدة لا يسندها دليل شرعي.

أصالة العنصر الوجداني في النفس البشرية حجة للدين، ودليل نقض لنظرية داروين، التي ترى الإنسان تطورا انتخابيا طبيعيا لحيوان أعجم، قال بيجوفيتش في معرض الرد على الماديين إن هناك عالمين: عالم للآلة وآخر للموسيقى.

 لم تعد الأغنية عنصرا شفافا من الروح بل أصبحت قطعة كثيفة من الجسد، لم تعد الموسيقى المعاصرة حجة على الداروينية بل غدت حجةً لها، لذلك عمقت الموسيقى المعاصرة أزمة الإنسان الداخلية، مع إنها في الأصل وجدت لتفتح له نوافذ رحيمة من الأمل والحب على عالم الروح الرحيب.

لكن، الحضارة المادية حولت الموسيقى أيضا إلى شيء مادي، لم تعد الأغنية عنصرا شفافا من الروح بل أصبحت قطعة كثيفة من الجسد، لم تعد الموسيقى المعاصرة حجة على الداروينية بل غدت حجةً لها، لذلك عمقت الموسيقى المعاصرة أزمة الإنسان الداخلية، مع إنها في الأصل وجدت لتفتح له نوافذ رحيمة من الأمل والحب على عالم الروح الرحيب.

من هنا وجدت مقولة رفض الدين للفن سندها الواقعي، ولكنها وقعت في خطل التعميم، الذي يرفضه الدين إجماعا هو الفن الذي يعلي من شأن الجسد، مع أن ذلك في الحقيقة ليس فنا، إن الفن الحقيقي هو ذلك الذي تسمو أنغامه وكلماته على عالم المادة بكل تجلياته، إنه ذلك الشيء الذي يسمو بأرواحنا ويفتحها على عالم لا محدود، ذلك النغم المبهم الذي تفهمه أرواحنا فنترجم عجزنا عن إدراك حقيقته بالتأوه والعبرات.

أغرب ما في عالمنا الحديث هو ارتفاع نسبة الانتحار بين نجوم الفن(الموسيقى) والمعجبين بهم، مفارقة تتضمن مأساة موجعة لمستقبل الإنسانية، مأساة لا تقل في فداحتها عما ارتكبه بعض النساك في حق روح الدين يوم ربطوه بالعبوس وتبلد الإحساس، وجعلوا خفة الروح لدواعي الطرب أمارة قصور العقل ورقَّة الدين.