المستشار طارق البشري**

13/07/2005 

موضوع غير المسلمين عامة هو جزء من اهتمامي بغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهو موضوع بدأ اهتمامي به منذ نحو عشرين عامًا، كتبت فيه كتابا استغرق من عمري خمس أو ست سنوات عنوانه “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، تبين لي أثناء البحث والإعداد لمادة الكتاب أن الحل الذي وضع لمسألة المسلمين والأقباط كان للأمم المتحدة في إطار النظرة العلمانية، التي إن كانت قد وفقت بين أوضاع المسلمين والأقباط في بلادنا على مدى عشرين أو ثلاثين عامًا سابقة، فإنها أثارت فتقا آخر في نسيج الجماعة الوطنية بين الحركة العلمانية بشكل عام والحرة الإسلامية الوطنية، وأثارت من التوترات في الحياة الاجتماعية ما وجدنا آثاره بعد ذلك.

 اكتشفت في الفصل الأخير من هذا الكتاب أن الحل الحقيقي، والضمان الأمثل، لوحدة الجماعة الوطنية وعلاقات المساواة بين المسلمين والأقباط -أو بين المسلمين وغير المسلمين عامة- لا بد أن تصدر عن الإسلام والمسلمين، ومن داخل الفكر الإسلامي، من داخله وبمادته، وتوصلت إلى قناعة بأنه لا توجد ضمانة للأقليات في بلادنا لكي تحقق المطلوب في هذا المجال إلا بأن تقدم هذه الضمانة من داخل الفكر الإسلامي وبمادته، هذه هي النقطة التي حاولت أن أعالجها في الفصل الأخير من كتابي المذكور آنفا، وشغلت نفسي بها بعد ذلك محاولا تطويرها بشكل ما من جهة الفقه الإسلامي.

تولي الوظائف لغير المسلمين

الموضوع الذي نحن بصدده ينقسم إلى عدد من النقاط، أما النقطة الأولى فتتعلق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر (كانون أول)، من عام 1948، غدا هذا الإعلان مرجعية أساسية يعتمدها العالم اليوم -وخاصة الرأي العام في أمريكا وأوروبا- في قياس مدى تحضرنا فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين في كل دولة، تحظر المادة الثانية لهذا الإعلان التمييز بين الناس بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي.

ما يشغل بال المرء هو: لمن يوجه خطاب هذا الإعلان المكون من عدد كبير من المواد المتعلقة بحرية الإنسان وحقوقه؟ إذا ما قرأنا مقدمة الإعلان نجد أنه موجه إلى الدولة حتى تقيم نظامها على المبادئ المتضمنة فيه. ما يهمني هنا هو حديث الإعلان العالمي عن تولي الوظائف العامة، ويهمني لسبب؛ هو أن الفكر الإسلامي المعاصر غالبيته العظمى فيما أتصور تعتبر أن لغير المسلمين ما للمسلمين من حقوق وواجبات -لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين- فيما يتعلق بأوضاع المعاملات كاملة، والشكل المتبقي الذي يحتاج إلى تأمل هو موضوع الولاية العام؛ فهل يكون لغير المسلم ولاية على المسلم أم لا؟ والولاية العامة هي مناصب الدولة، وخاصة الجيش والقضاء ومناصب القرار السياسي أو الإمارة، تلك هي الأمور التي نحتاج إلى الاجتهاد والنظر فيها، على اعتبار أن ما سواها أمره محلول.

ليس في تاريخنا في موضوع الأقليات ما يشين، فقد كانت الدولة مؤسسة على الدين، وكان المواطن هو المسلم، أما غير المواطن فكان ذميا يعامل معاملة خاصة، تلك هي النقطة الأولى التي أود الإشارة إليها فيما يتعلق بحق المواطن في إطار الجماعة السياسية التي تعكس الدولة في تولى مناصب العمل في هذه الدولة.

النظرة الفقهية لغير المسلمين في المجتمع

أما النقطة الثانية فمنهجية تتعلق بكيفية النظر إلى غير المسلمين في المجتمع الإسلامي من الناحية الفقهية، وأود في هذا المجال الإشارة إلى مثل مهم جدًا ورد في كتاب “الأموال” لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو قصة تتعلق بأهل قبرص، وكانوا من أهل الذمة، وكان المسلمون قد عاهدوهم في عهد معاوية على ألا ينقلوا أخبار المسلمين إلى الروم، وكانوا معاهدين للروم ألا ينقلوا أخبارهم إلى المسلمين، حيث ساد قبرص ما يشبه الحياد السويسري، وفي فترة من الفترات بدأ من أهل قبرص ما شكك المسلمين في حيادهم، وكان ذلك في عهد الخليفة عبد الملك، الذي أرسل إلى عدد من الفقهاء يستفتيهم فيما يصنعه من أهل قبرص وهم أصحاب عهد، أثار هذا المثل اهتمامي من الناحية الفقهية الفنية لأنه يتضمن سبعة أقوال لفقهاء في حادث واحد، وفي لحظة تاريخية واحدة، فلننظر معا كيف عالج الفقهاء هذا الأمر..

كان أولهم الليث بن سعد الذي أجاب بالتالي: “إن أهل قبرص لم نزل نتهمهم بالغش لأهل الإسلام والمناصحة لأهل الروم“، واستند إلى قوله تعالى في سورة الأنفال {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ…}، وأشار إلى أنه يكفي الخوف من الخيانة لإعمال هذا الحكم، وأنه لا يشترط أن تستبين الخيانة منهم، وانتهى إلى حق المسلمين في نقض العهد، مقترحًا أن ينظر القبارصة سنة يخيرون فيها بين اللحاق ببلاد المسلمين أو التنحي إلى الروم، أو البقاء بقبرص مع الحرب.

أما سفيان بن عيينة فقال: “إنا لا نعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- عاهد قوما فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم، غير أهل مكة”، ثم أورد قوله تعالى في سورة التوبة {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ* قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، وانتهى إلى أنه لا ذمة لمن نقض ما عوهد عليه، وقال بقتالهم.

ما يجدر النظر إليه هو ترتيب المسألة من الناحية الفنية، من ذكر للواقعة، ثم اختيار للنص المناسب والانتهاء بوضع الحكم، وسنرى كيف أن كل واحد من هؤلاء الفقهاء استخدم نصا مختلفا تماما؛ لأنه تصور الواقعة بشكل مخالف للآخرين، وهذا ما سيساعد على استجلاء أن أحد الأسباب الرئيسية لخلافاتنا في الأحكام الفقهية لا ينبع من تفسيرنا للنصوص ولا من استنباط المعاني من النصوص المنزلة، وإنما من تصويرنا للواقع والواقعة، ثم يتبع ذلك اختيارنا لنص يوافق هذه الواقعة؛ فالمشكلة أساسا تكمن في تصوير الواقعة، ونحن اليوم في عملية الإفتاء الإسلامي نواجه جماعات كثيرة من المفتين لا يتصل بهم الواقع إلا عن طريق السائل، وهنا يستطيع السائل أن يتحكم بقدرة المفتي على الإفتاء بقدر ما يصور له الواقع، وفي المثال الذي نحن بصدده نجد أن كل واحد من هؤلاء الفقهاء قد استقل بنفسه في تصور الواقع، واختار للواقعة النص الذي يلائم تصوره الفقهي منزلا حكمه على هذا الأساس.

كان ثالث الفقهاء مالك بن أنس الذي قال: “إن أمان أهل قبرص كان قديما متظاهرا من الولاة لهم، يرون أمانهم وإقرارهم على حالهم قوة للمسلمين عليهم، ولم أجد أحدًا من الولاة نقض صلحهم”، ثم استدل بالآية من سورة التوبة {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} تصور مالك بن أنس الواقعة على غير ما تصور الفقيهان الأولان، ورأى أن هؤلاء القوم كانوا كراما لمدد طويلة، ولا يوجد في الوضع الحالي ما يغير هذه الفكرة الواقعية عنه؛ فالأمان لهم قديم، وفيه قوة للمسلمين، ولم يظهر نقض القوم للصلح، وبهذا يكون العهد باقيا، ولذلك نراه قد أورد النص المناسب للواقعة التي أثبتها ووصفها بالقدم والظهور والتتابع، وأثبت بقاءها بالاستصحاب وعدم طروء ما ينفيها، ثم استخلص حكمه ناصحا ولي الأمر بألا يعجل في نقض عهدهم ومنابذتهم حتى يعذر إليهم وتؤخذ عليهم الحجة؛ فإن لم يستقيموا ويتركوا الغش أوقع بهم.

أما موسى بن أعين فقال: “لم أر أحدًا فيما مضى فيمن مضى نقض عهد أهل قبرص ولا غيرها، ولعل جماعتهم لم تمالئ على ما كان من خاصتهم”، نراه هنا قد شكك في الواقعة، مفترضا أن بعض الخاصة ربما يكون قد أتى ما أنكره المسلمون عليهم، وأن العموم لم يتفق مع الخاصة؛ فكيف تحاسب العامة بفعل الخاصة؟ وأتي بحكمه على هذا الأساس مستخلصا إتمام الشروط والوفاء بالعهد، مع إبداء تحفظه بأنه إذا تبين نقض العهد والخروج من الذمة أمكن القتال.

جاءت بعد ذلك فتوى إسماعيل بن عياش الذي قال: “إن أهل قبرص أذلاء مقهورون تغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم؛ فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم”، وهكذا نراه توصل إلى حكم مختلف تماما، معتبرا أن ما يمكن أن يكون قد صدر عن هؤلاء القوم كان بضغط من الروم عليهم؛ فلهم علينا أن نحميهم لا أن نقاتلهم، وأن ننقلهم إلى شيء من العزة يستطيعون به أن يقاوموا ذلك الضغط، أورد إسماعيل هذه الواقعة، وذكر بعض السوابق في معاملة أهل قبرص، ثم انتهى إلى أن يقروا على عهدهم.

أما يحيى بن حمزة فقال: “إن صارت قبرص لعدو المسلمين إلى ما صارت إليه عرب سوس (وهي واقعة سابقة) فإن تركها على حال والصبر على ما كان فيها، لما في ذلك للمسلمين من جزيتها وما يحتاجون إليه مما فيها أفضل”.

وهكذا نجد هذا الفقيه قد توصل إلى حل سياسي لا حل فقهي، ناجم عن اعتبار الشرعية في هذه الحالة متلبسة بالملاءمة؛ فما كان ملائما هنا فهو شرعي.

وعندما نظر أبو إسحاق ومخلد بن الحسين إلى المسألة ابتدرا بذكر ما صولح عليه أهل قبرص عند فتحها، فقالا: “إن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم، وإنه لا يستقيم نقضه إلا بأمر يعرف به غدرهم ونكث عهدهم”، وبذلك يكونان قد أنكرا الواقعة من أساسها، ولما لم يثبت لديهما حصول الغدر ونكث العهد؛ فقد أبقيا الصلح بشروطه.

يستنتج مما سبق ما يلي:

أولا: تصور كل من هؤلاء الفقهاء الواقعة بشكل مختلف.

ثانيا: اختار كل منهم نصا يوافق ما ارتآه من تصور لهذه الواقعة يختلف عن النظر الذي اختاره الآخر؛ فالخلاف لم يكن حول تفسير النصوص قط، وإنما حول تصوير الواقع، وأغلب خلافات المسلمين اليوم في الفقه والسياسية وفي غيرهما ليست اختلافات في النصوص بقدر ما هي اختلافات في تصور الواقع.

الولاية العامة لغير المسلمين

أما النقطة الثالثة في الموضوع فتتعلق بوضع غير المسلمين بالنسبة لأوضاع الولاية العامة، وكل ما كتب في موضوع الولاية العامة -موضوع معاملة غير المسلمين من زاوية الفقه الإسلامي- لخصه الشيخ عبد الوهاب خلاف بقوله: “إن وضع غير المسلمين (من أهل الذمة) في البلاد الإسلامية لم يكن يخضع عبر التاريخ للاعتبارات الدينية فحسب، بل كان يخضع كذلك للاعتبارات السياسية، وأخصها مدى ما يبدونه من الولاء والصفاء للدولة وللمسلمين”، وكان قد اشتهر عن الشيخ خلاف قصر عباراته وقلة كتاباته، ولكن تتميز كتابته بأنك إذا ما قرأت له صفحتين فلن تنساهما أبدًا؛ فالعنصر الأساسي هنا إذن هو مدى الولاء والصفاء؛ لأن النصوص ليست قاطعة في منعه أو عدمه، والأحداث التاريخية التي أمامنا بعضها يفيد المنع وبعضها يفيد الإباحة، وإذا ما استقرأنا هذه الأحداث بما فيها من نصوص للحديث الشريف ومن أقوال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولغيره فسنجد أن الواقعة هي التي تحدد مناسبة ما صدر من قول أو تصرف بهذا الشأن.

لقد اعترف الفقه الإسلامي بأن الكيفية التي تفتح البلدان بها -سواء عنوة أو صلحا- تؤثر في وضع غير المسلمين في البلد المفتوح زيادة في حقوقهم أو تقليصا لها، فما فتح عنوة لم يكن يجوز فيه إحداث الكنائس، وما كان فتح صلحا كان يجوز فيه هذا الإحداث وفقا لشروط العهد المبرم، لقد كانت الواقعة السياسية هي الحاسمة، وهي التي يترتب عليها الحكم الشرعي الخاص بالأوضاع القانونية لمجموعة ضخمة من القاطنين في هذه البلاد، ومدى تمتعهم أو عدم تمتعهم بحق المواطنة، ومدى قدرتهم على التعامل مع المسلمين.

 وللإمام الشاطبي في هذا المجال مساهمة عظيمة؛ إذ إنه منهج لنا رؤيتنا في فهم الأمور وإدراك المصالح بالاستقراء.

حينما حدد المصالح رأيناه يفعل ذلك باستقراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، واضعا بالاستقراء نظرية تطبق في غير الحالات المحكومة، ولذلك ينبغي علينا في مثل هذه الأمور ألا نتبع نصا واحدًا؛ لأن النصوص متعلقة بحالات.

وهنا نستعير مصطلح “النموذج” لصديقنا الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ فلكي نعتبر النص الوارد في الحديث أو الواقعة التي تكلم فيها عمر بن الخطاب نموذجا، لا بد أن ندرك جيدا هذه الواقعة، ونستخلص خصائصها من ظروفها، حتى تصبح نموذجا قابلا للتكرار بعد ذلك، وإلا فإن النموذج المتواصل إليه سيكون خاطئا، وغير مستخرج من النص في ظروفه.

وهذا العنصر هو ما لمسناه في الفتاوى الخاصة بموضوع قبرص.

في إطار الدلالات التاريخية الفقهية العامة يمكن القول: إن أوضاع أهل الكتاب في المجتمعات الإسلامية ترتبت من واقعة تاريخية صارت واقعة قانونية في زمان الانتشار الأول للإسلام في العالم، وإقامة المسلمين حكومة إسلامية تطبق أحكام الإسلام في البلدان المفتوحة، ومع الوقت ومرور الزمن أسلم من أسلم من أهالي هذه البلدان وانضم إلى الجماعة الإسلامية عقيدة وسياسية.. ومن بقي من غير المسلمين على دينه كان من رعايا الدولة الإسلامية، ولكن انتماءه للجماعة كان انتماء منقوصا، هو انتماء سياسية فقط، ومن هنا عومل بسطًا وقبضًا حسب درجة موالاته للجماعة الإسلامية ودولتها وحسب حجم غربته عنها وحذرها منه، وجاء الفقهاء -بما يملكون من ملكات التعميم والتجريد ورد الأمور إلى أصولها وضباط الأحكام وبيان الفروق والموافقات- يقعّدون القواعد وينحتون المصطلحات، ويتكلمون عن تمصير الأمصار، والفتح العنوة والفتح صلحا، وعدم أخذ الجماعة من الذميين بفعل خاصتهم إلا أن تثبت مشاركتهم أو رضاؤهم، كما تكلموا عن أوضاع الولاية العامة وهكذا، كل ذلك باستصحاب أصل التجربة التاريخية الأولى التي تولدت عنها هذه العلاقة في عهد الانتشار الأول للإسلام.

هذا الوضع انبنى عليه التصور العام، وبقي مستصحبا قرونا طويلة، ثم ما لبث أن تغير في عدد من أركانه المهمة في العصر الحديث؛ فمنذ نهايات القرن الثامن عشر حتى اليوم تطورت قوة الدولة الغربية تباعا، واكتشف طريق رأس الرجاء الصالح وسيطرت أساطيل بريطانيا على حركة بحر العرب والمحيط الهندي جنوبا وغزت الهند، وصعدت شمالا حتى حدود أفغانستان وطوقت العالم الإسلامي من جنوبه وشرقه، ثم توسعت روسيا القيصرية في آسيا وهبطت جنوبا تسيطر على بلاد المسلمين، وتضم إليها ما استطاعت من بلدان الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية العثمانية، وأطبقت الطوق الدولي على عالم المسلمين من الشمال والشرق، ثم بدأت بلدان الوسط الإسلامي تسقط تباعا على مدى القرن التاسع عشر، مثل الجزائر وتونس ومصر والسودان والمغرب وليبيا. ومع الحرب العالمية الأولى سقطت عاصمة المسلمين الباقية “إستانبول”، واقتطعت سوريا ولبنان وفلسطين والعراق كما هو معروف ومشتهر، وبهذا سقطت بلدان المسلمين في أيدي الغرب، وانفرط عقد الجامعة السياسية التي كانت تجمعهم، وسقطت الإرادة الإسلامية والإرادة الوطنية من أن نحكم أنفسنا بأنفسنا، وسقط فيما سقط عقد الذمة.

 وأصبح من الواجب البحث عمن يدرأ هذا الخطر ويحقق استقلال هذه الجماعة ويرد إليها عصمتها من جديد.

في البلدان التي شارك فيها المسيحيون المسلمين في هذا الأمر قامت جماعة وطنية، وبنفس المنطق الذي طبقه من قبل فقهاء المسلمين نجد أنفسنا أمام واقعة سياسية هي أقدر على تحديد المركز القانوني لغير المسلمين في الظرف الجديد من الواقعة التي بنى عليها الفقهاء القدامى المركز الذي أنشئوه لأهل الذمة في زمنهم. إنها واقعة قيام الجماعة من مسلمين ومسيحيين لدفع خطر الغزو الأجنبي وتحقيق استقرار البلاد وبذل التضحيات في سبيل ذلك؛ مما أدى إلى قيام جماعة جديدة، حق بموجبها لهؤلاء القوم أن يترابطوا وينشئوا علاقتهم على نمط جديد.

لم نعد الآن أمام تصنيف لما فتح صلحا وما فتح عنوة، وإنما أمام تصنيف جديد لمن تشاطروا في تحرير بلدانهم ومن لم يشاطروا من الطوائف، والملل التي تتشكل منها جماعات القلة في البلدان ذات العلاقة، علينا أن ندخل هذا المعيار في ضبط وجوه التعامل وفي المشاركة في الشئون العامة لهذه البلدان ونحن هنا نستهدي بحجم الولاء والصفاء ودرجة البراء والمعاداة للإسلام وجماعات المسلمين في بلداننا؛ نستهدي بذلك في ضوء الملامح الرئيسية التي تشكل حركة تاريخنا المعاصر، والتي تتركز في استهداف الاستقلال السياسي، وتوحيد بلداننا، ومقاومة الاستعمار الأجنبي، والتخلص من التبعية الأجنبية في صورها السياسية والاقتصادية والثقافية.

ومن جهة ثانية وبالنظر إلى التغييرات التي طرأت على مجتمعات اليوم.. فإنه ينبغي ملاحظة أن المسلمين في الصدر الأول للإسلام كانوا قوة سياسية وعسكرية غالبة لغيرها، بينما كانوا قوة عددية مرجوحة تشكل في البلاد التي حكموها عنصر ندرة شديدة، فلزمهم في هذه الظروف قصر تولي قيادة الأمور العامة والمشاركة في شئون إدارة المجتمعات على المسلمين، وكان هذا القصر ضروريا وقتها بالنظر إلى قوتهم العددية المرجوحة في مواجهة شعوب البلدان المفتوحة لئلا يفلت الزمام من أيديهم، ولئلا يذوبوا في تلك الكثرة الغالبة من شعوب لم تكن قد دخلت في الإسلام بعد، وكان هذا القصر ممكنا بحسبان التفوق السياسي والعسكري غير المنازع للمسلمين إزاء أي قوى تناهضهم في هذه البلدان، من الناحيتين العسكرية والسياسية.

أما اليوم فقد آل الوضع إلى عكس ما كان عليه في كل من الطرفين، صارت الغلبة العددية للمسلمين في بلادهم؛ بحيث لم يعد ثمة موجب للخشية على إسلام المسلم من مساهمة غير المسلمين معهم في الشئون العامة، بينما آلت أوضاع المسلمين السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى ضعف غير خاف في الموازين العالمية؛ بحيث يخشى من عدم استقرار الأوضاع في بلادهم، بسبب عدم مساواة غيرهم بهم، أو نتيجة انفصام عرى الرابطة الوطنية، واستغلال القوى الخارجية الطامعة لهذا الأمر.

وليكن لمفكر الإسلام اليوم أسوة بعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أسقط سهم المؤلفة قلوبهم المنصوص عليه؛ لما ارتآه من أن الله -تبارك وتعالى- قد أعز الإسلام بما لم يعد معه حاجة لتأليف القلوب.

ونحن عندما نرعى عنصر الولاء والصفاء، ونستخرج منه المعايير الفقهية لضبط العلاقة بين المسلمين وغيرهم.. إنما نسير على مناهج الأسلاف العظام دون أن ننحصر في مذاهبهم؛ لأن أكثر ما يميت الفكر هو أن يتحول المنهج إلى مذهب، ونحن عندما ندعو إلى ذلك إنما ندعو أيضًا إلى أن نتدبر في كيفية فتح الذرائع؛ فلا نقتصر على التسليم بما توافر في عناصر الولاء والصفاء، إنما نجتهد في فتح ذرائع تحقق من هذين الأمرين، ضمانا لاستقرار أواضع المسلمين وتحقق نهوضهم وعزتهم.

النصوص الشرعية في وضعية غير المسلمين

أما النقطة الرابعة فتتعلق بالنصوص الواردة في هذا الأمر، ولو أردنا استعراض النصوص لاستغرق ذلك منا وقتا طويلا؛ فلنأخذ على سبيل المثال قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يقول صاحب تفسير المنار بأن من استدل بهذه الآية على عدم جواز أن يحالف المسلمون غيرهم أو أن يتفقوا مع من سواهم فقد فاته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حالف خزاعة وهم على شركهم، ويذهب التفسير إلى تخصيص النص بوقائع جاءت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرى أن عبارة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} مهمة جدا؛ لأنها تحدد ما هو منهي عنه، ألا وهو ترك المؤمنين والتوجه إلى غيرهم، وقد تكررت عبارة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في عدد من النصوص القرآنية، وعلينا أن نعمل هذه الدلالة التي قد ضبطها الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا في تفسير المنار بهذه الكيفية.

ومسألة ثانية في هذا الجانب تتعلق بما ورد من نصوص ووقائع كثيرة جدا في كتاب “أحكام أهل الذمة” لابن القيم، وهو كتاب كبير يتكون من جزئين: مادته غزيرة جدًا، وقد أصبح في زمننا هذا من أكثر ما يعتمد عليه من كتب في إنكار ما لأهل الذمة من حقوق؛ مما ورد في الكتاب -على سبيل المثال- أن أبا موسى الأشعري كان قد استعان بمسيحي، فنهاه عمر بن الخطاب عن ذلك، فخلص ابن القيم إلى أن في ذلك ما يدل على عدم جواز الاستعانة بمسيحي، ولكن تعليقا على ذلك فلنا أن نتساءل: إذا كان لعمر رأيه في هذه القضية، فهل صدر هذا الرأي بموجب فقهه أم بموجب ولايته؟ سينفذ رأي عمر لأنه ولي الأمر الذي يختار من الآراء المطروحة ما يري فيه صالح المسلمين ما دامت النصوص تسع هذا المعنى وغيره؛ فإذا كان رأيه بموجب ولايته فإنه لا يصلح نموذجا قابلا للتكرار في غير هذه الحالة، ولكن إذا كان فقهه هو الذي هداه لهذا الرأي، فإن أبا موسى الأشعري فقيه أيضًا، إنه صحابي كبير مشهود له، إذن الأمر في هذه الحالة بين رأيين؛ أحدهما راجح والآخر مرجوح، وهذا ما يدل على أن النصوص تسع أكثر من معنى.

ومسألة ثالثة في نفس الموضوع تتعلق بلفظ الولاية الذي ورد في القرآن الكريم؛ فقد استخدم هذا اللفظ في كتابات حديثة للتضييق على أوضاع غير المسلمين، وذلك أننا إذا رجعنا إلى معنى الولاية، والولي، والمولي في القواميس نجد أن المولى من ألفاظ الأضداد، فيقصد بها الكبير والصغير.

والمولى هو القريب والداني، وهو الرب والسيد والمالك والمنعم المعتق والناصر والمحب والتابع والجار، وابن العم الحليف والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه. والولاية هي النسب والنصرة والعتق، وهي الإمارة، والولي هو الصديق والنصير والتابع والمحب، كل هذه المعاني من “المحب” وحتى “الولاية الشرعية” التي نعلمها وهي إمضاء القول على الغير تشملها لفظة واحدة هي الولاية، وهنا نجد أن الموسِّع يقول بأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم؛ بمعنى أنه ليس له قول ماض عليه، والمضيق يقول بعدم جواز المحبة في حق غير المسلمين على اعتبار أن من دلالات لفظ الولي المحبة.

أتصور أن لفظ “الولاية” ورد في القرآن مقصودًا به كل هذه السعة والتعدد التدريجي في المعاني؛ حتى يكون على مستوى فكرة الولاء والصفاء والبراء، وأن يطبق بأحد درجات معانيه وفقا لعلاقة المحبة والمودة أو علاقة الخصام والعداء التي تنشأ في الظروف التاريخية المختلفة؛ فنحن أمام نص مضى عليه خمسة عشر قرنا وأمامه ما شاء الله من الزمن إلى يوم القيامة، وسيظل رغم اختلاف الظروف والأمكنة والأزمنة صالحا للاستخدام، وعلى درجة من درجاته يكون الحساب وفقا لمدى الصفاء والولاء في هذا الأمر.

وأما المسألة الأخيرة فتتعلق بما آلت إليه أوضاع الولاية العامة في زماننا هذا، فكتب الفقه المتخصصة بالأحكام السلطانية عندما تكلمت عن الإمارة وعن الوزير إنما تكلمت عن فرد، ولذلك كانت تضع شروطا لتولي الولاية على اعتبار أن من يمارس هذه الولاية هو فرد، من الواضح أننا في زمننا هذه استبدلنا بولاية الفرد ولاية الهيئة، وصارت الهيئات هي التي تقوم مقام الأفراد في إنفاذ الولاية.

ولنمثل على ذلك بوضع القاضي؛ فحسبما أورد الماوردي فسلطات القاضي تشمل الاجتهاد؛ فهو مفسر إذن، وهذا ما لا يتمتع به قضاة اليوم، إذ القاضي الآن مضيق عليه في التفسير، ومقيد بعدد هائل من الأحكام التطبيقية والتفصيلية والإجراءات التي تحكم حركته، في الماضي كانت للقاضي صلاحيات تمنحه وضعا بين التفسير والتشريع؛ أي أنه كان يتمتع بقدر من سلطة التشريع، وكان القاضي هو الذي يوزع الصدقات، وكان يتولى الأوقاف؛ أي أنه كان يتمتع أيضا بسلطة تنفيذية في أمور كبيرة جدًا، وكان قاضيا فردًا لا يسقط حكمه إلا إذا خالف الشريعة، في واقعنا المعاصر سُحب من القضاء كل ما يتعلق بالتشريع والتنفيذ، والقاضي الفرد لا ينظر إلا فيما تفه من منازعات ومشاكل، وهي قليلة جدا، وأصبح القضاء جماعيا، تشكل هيئته من ثلاثة أو خمسة أو سبعة من القضاة، وصنف القضاء إلى عدد من الدرجات؛ بحيث لم يعد أي قاض فرد يملك الولاية التي صارت للهيئة، وما دامت الهيئة هي التي تملك الولاية فإن من الممكن أن يشارك فيها آخرون من غير المسلمين مع توافر ضوابط ثلاثة هي:

أولا: أن تكون الهيئة مسلمة، وهذا يعني أن تكون مرجعيتها هي الشريعة الإسلامية.

ثانيا: أن تكون غالبية أعضاء الهيئة من المسلمين.

ثالثا: أن تحقق الصالح الإسلامي العام -أي صالح الجماعة الإسلامية- وفقا للضوابط المحددة لكلمة “المصلحة” لدى الأصوليين.




* محاضرة ألقيت عام 1996 في ندوة بالعاصمة البريطانية لندن تحت عنوان “الشرعية السياسية في الإسلام”، ونشرت في كتاب ضم أبحاث تلك الندوة بالعنوان ذاته في بريطانيا في 1997، تحرير عزام التميمي.

** مفكر وقاضٍ ومؤرخ مصري.