الأمة التي صنعت الحضارة القديمة قادرة على أن تصنع حضارة جديدة تأخذ من حضارة الغرب خير ما فيها من وثبات العلم، وتضيف إليها قيم الإيمان والإنسانية، وتضبط مسيرتها بالتشريعات الإلهية، وبهذا تكمل نقص الحضارة المعاصرة.

لم تصل حضارة من الحضارات طوال التاريخ إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية المعاصرة التي تسود عالمنا اليوم، والتي بلغت الأوج في التقدم العلمي والتكنولوجي، مما كان له أثره في اختصار المكان والزمان للإنسان، وتوفير الرفاهية والراحة له، حتى أصبحت حاجاته تُقضى بضغط على زر، بل يكاد الآن يستغني عن الأزرار، فهو يدخل الباب فينفتح له وحده، ويضع يده تحت الصنبور، فيصب الماء عليه، ويضع قدمه على السلم فيصعد به، إلى غير ذلك مما غدا معتادًا في حياتنا اليوم.

ولقد استطاع الإنسان أن يغزو الفضاء، ويبعث بمراكبه تدور حول الأرض، بل لقد نزل الإنسان بالفعل على سطح القمر، وجلب منه صخورًا وأتربة، وضعها تحت بحثه وتحليله. ويحاول الآن الوصول إلى الكواكب الأبعد في الفضاء الكوني، مثل الكوكب الأحمر، المريخ.

ولا ريب أن إنجازات العلم المادي في عصرنا إنجازات هائلة، لو ذكر عشر معشارها لمن كان قبلنا لاتهموا قائله بالجنون. وهي تدخل تحت قوله تعالى في القرآن: “ويخلق ما لا تعلمون” (النحل: 8).

شقاء الإنسان في هذه الحضارة

ولكن يبقى هنا سؤال في غاية الأهمية، وهو: هل استطاع العلم الذي رفع الإنسان إلى سطح القمر أن يحقق له السعادة على ظهر الأرض؟

الواقع المر يقول: لا. فإن العلم بمفهومه الغربي – وهو علم مادي بحت – وفر للإنسان راحة الجسم ولم يوفر له راحة النفس، حقق له الرفاهية المادية ولم يحقق له السكينة الروحية، هيأ له الوسائل والأدوات ولم يهيئ له المقاصد والغايات؛ ولهذا عاش الإنسان مزوق الظاهر، خرب الباطن، أشبه بقبور العظماء، مشيدة مزخرفة، وليس فيها إلا عظام نخرة.

ومن ثم رأينا الناس الذين يعيشون تحت سلطان هذه الحضارة يشكون من القلق، والاكتئاب، والخوف، والأسى، واليأس، والغربة النفسية، والشعور بالضياع وتفاهة الحياة، يحسون أن هذه الحياة لا هدف لها ولا رسالة ولا طعم ولا معنى. وهذا يحطم الإنسان من داخله.

ولا غرو أن كثرت العيادات النفسية والعصبية، حتى غدت تعد بالألوف، ومع هذا لا تكفي زائريها، وقلما يجدون عندها ما يشفي عليلاً، أو يروي غليلاً.

إن الناس يشكون في هذه الحضارة من الانحلال الأخلاقي، والقلق النفسي، والتفسخ العائلي، والاضطراب العقلي، والتفكك الاجتماعي، ومن انتشار الجريمة إلى حد يثير الخوف والذعر لدى جماهير الناس.

لقد بالغت الحضارة الغربية في إعطاء الحـرية الشخصية للإنسان، ليفعل ما يشاء ما دام لا يعتدي على غيره، فأفسدت عليه فطرته، ولم تستطع إشباع نهمه كله. فالشهوات كلما ازداد المرء منها عبًا، ازداد معها عطشًا، ولا يوجد في الكون كله شيء حر حرية مطلقة، فالبواخر في المحيطات، والطائرات في الفضاء، تسير في مسارات محـددة، لا يجــوز لها أن تتعــداها، وإلا هددت بكوارث لا تحمد عقباها، ولا تعرف نتائجها.

والحضارة لم تجن على الإنسان وحده، لقد جنت على البيئة من حوله، فلوثتها بدخان مصانعها، و فضلاتها، وآثار إشعاعها، ونفاياتها النووية، وتدخلاتها الكيماوية في النبات والحيوان، وأكثر من ذلك آثار الهندسة الوراثية. وقد بدأت هذه النتائج تبدو للعيان في مثل جنون البقر وغيره من المشكلات. وما يكنه الغد أشد وأقسى.

أضف إلى ذلك الإخلال بالتوازن الكوني، كما يبدو فيما ذكروه من ثقب الأوزون، ولا ندري ماذا بعد ذلك؟ وفي هذا يقول الشاعر:

والليالي من الزمان حُبالى مثقلات يلدن كل عجيب!

فهذه ثمار طبيعية لصنع الإنسان بنفسه وما حوله، إذا تصرف في نفسه وفي الكون، وكأنه إله لا يسأل عما يفعل، وما هو إلا مخلوق لخالق عظيم، يجب عليه أن يخضع لنواميسه الكونية، وقوانينه الشرعية، وبذلك ينجو ويفلح.

سر المعاناة في هذه الحضارة

وسر ما يعانيه الناس في الحضارة المعاصرة: أنها حضارة نسيت الله فأنساها أنفسها. إنها عاشت جسمًا بلا روح، أو قل :جسم فيل بروح نملة!

ولقد قال الشاعر الهندي الكبير طاغور لأحد مفكري الغرب: صحيح أنكم استطعتم أن تحلِّقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك، ولكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كالإنسان.

بل وجدنا من النقاد الغربيين أنفسهم من يشكو من الخواء الروحي في هذه الحضارة، بل من يدقون جرس الإنذار محذرين من التمادي في هذه الحياة المادية الإباحية النفعية، التي لا تطمئن الإنسان من قلق، ولا تؤمنه من خوف.

وقد توالت تحذيرات العلماء والفلاسفة والمربين والأدباء والسياسيين وغيرهم، من مادية الحضارة الغربية، وإغراقها في الآلية الصناعية، والحياة الاستهلاكية.

من ذلك: تحذيرات علماء أفذاذ مثل: إلكسيس كاريل و رينيه دوبو من رجال العلوم الطبيعية، ومن الحائزين على جائزة نوبل، وسننقل بعض كلامهما فيما بعد.

ومن ذلك – أيضًا – ما قاله الفيلسوف الأمريكي الشهير جون ديوي: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها، ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة. لهي حضارة تدمر نفسها بنفسها.

وأوضح منه ما قاله المفكر الكبير المؤرخ البريطاني المعاصر أرنولد توينبي؛ إذ ينقل عنه الكاتب الأمريكي كولن ولسون مقولته: “لقد أغرت فنون الصناعة ضحاياها، وجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم، ببيعها المصابيح الجديدة لهم مقابل المصابيح القديمة، لقد أغرتهم فباعوا أرواحهم وأخذوا بدلاً منها السينما، والراديو، وكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته تلك الصفقة الجديدة إقفارًا روحيًا وصفه أفلاطون بأنه مجتمع الخنازير، ووصفه إلدوس هكسلي بأنه عالم زاهٍ جديد!!”.

ويأمل توينبي في نهاية البحث بأن خلاص الغرب لا يكون إلا بالانتقال من الاقتصاد إلى الدين.

وقال الأديب الأمريكي الكبير جون شتاينيك في خطاب أرسله إلى صديقه إدلاى ستيفينسون: “إن مشكلة أمريكا هي ثراؤها، وأن لديها أشياء كثيرة، ولكن ليس لديها رسالة روحية كافية. إننا في حاجة إلى ضربة تجعلنا نفيق من ثرائنا، لقد انتصرنا على الطبيعة، ولكننا لم ننتصر على أنفسنا”.

وقد عبر الشاعر الألماني بروشرت عن مأساة الأجيال الجديدة، الناشئة في ظل الحضارة الآلية بقوله: “نحن جيل بلا رابط ولا عمق. عمقـنا هو الهاوية، نحن جيل بلا دين ولا راحة، شمسنا ضيقة، حبنا وحشية، وشبابنا بلا شباب. إننا جيل بلا قيود ولا حدود ولا حماية من أحد!”.

وفي أكثر من كتاب، ومن محاضرة للمفكر الفرنسي جارودي، حمل على الحضارة الغربية، وسماها الحضارة الفرعونية، فقد تهيأ لها العلم، ولم تضم إليه الحكمة، وعنيت بالآلة ولم تعن بالإنسان، ولا سيما الحضارة الأمريكية التي تقوم على تأليه الدولار، ووحدانية السوق بدل وحدانية الله. وقد ألف أخيرًا كتاب (أمريكا طليعة الانحطاط). ولا يقلل من شهادته اهتــداؤه إلى الإسلام، ومثله ليــوبولد فايس أو كما سمَّى نفسه: محمد أسد، ورينيه جينو أو كما سمَّى نفسه: عبد الواحد يحيى.

ومن السياسيين الذين عنوا بهذا الجانب جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي الشهير في عهد الرئيس الأميركي: أيزنهاور صاحب كتاب (حرب أم سلام) فقد خصص فصلاً من كتابه بعنوان (حاجتنا الروحية) بيَّن فيه ما ينقص أمريكا، فقال: “إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها”.

ومن أهم ما ذكره: ما نقله عن الرئيس ولسون مما كتبه قبيل وفاته: “إن اختصـار المسـألة هو: أن حضارتنـا لا تستطيــع البقـاء والاستـمرار من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها!”. وحسبنا هذه الشهادات من أهلها.

عجز العلم في حضارة اليوم عن إسعاد البشرية

لماذا يصرخ الناس في عصرنا، ويضجون بالشكوى من شقائهم، وشعورهم بأن الحياة بلا معنى؟ ألا يستطيع العلم الكوني، العلم الطبيعي والرياضي، وما أثمره من تكنولوجيا غيرت وجه الحياة، قربت البعيد، وأنطقت الحديد، ويسرت العسير: أن يهب السعادة للناس، ويزيح الشقاء والمرارة والبؤس، والتفاهة، التي يعاني منها الناس ? الحق أن العلماء الكبار أنفسهم أكدوا عجز العلم عن القيام بدور المنقذ.

شهادات كبار العلماء

من هؤلاء العلامة ألكسيس كاريل أحد أقطاب العلم، والحاصل على جائزة نوبل في العلوم، وصاحب الكتاب القيم الشهير (الإنسان ذلك المجهول) الذي نقد فيه الحضارة الغربية نقدًا علميًا رصينًا، قائمًا على منطق العلم ومسلماته.

يقول ألكسيس كاريل في كتابه ذاك: “إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولَّدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أُنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا”.

وفي موضع آخر يقول: “يجب أن نحرر الإنسان من الكونيات التي خلقها علماء الطبيعة والفلك. تلك الكونيات التي حُبس فيها الإنسان منذ عصر النهضة، إذ على الرغم من ضخامته الهائلة، فإن عالَم المادة أضيق من أن يتسع للإنسان، فهو كبيئته الاقتصادية والاجتماعية، لا يلائمه”.

ويختم الكتاب كله بقوله: “لقد حان اليوم الذي نبدأ فيه العمل لتجديد أنفسنا. ولكننا لن نضع برنامجًا، لأن البرنامج قد يخنق الحقيقة الحية خلف درع صُلب، إنه سيمنع انبثاق غير المتنبأ به، ويحبس المستقبل داخل حدود عقلنا”.

ومـا قـاله (ألكسيـس كاريــل) أكده عالم آخــر، من كبـار علـماء البيـولوجيا، ومن حملة جائزة نوبل أيضًا، وله كتاب يعتبر امتدادًا لكتاب (ألكسيس كاريل)، بعد نحو ثلث قرن من الزمان.

ذلك العالم هو (رينيه دوبو) الأمريكي الجنسية الفرنسي الأصل. وكتابه هو ( So Human An Animal ) الذي ترجمه إلى العربية الدكتور نبيل صبحي الطويل تحت عنوان (إنسانية الإنسان)، يقول (دوبو) في كتابه: “نحن نـدعي أننا نعـيش في عــصر العلم، إلا أن الحقيقة هي أن الميدان العلمي كما يُدار الآن، ليس فيه توازن يسمح للعلم بأن يكون ذا فائدة تذكر في إدارة أمور الإنسان! لقد جمعنا جسمًا هائلاً من المعلومات حول المادة، وتقنية قوية لضبط واستغلال العالم الخارجي. ومع ذلك لا يزال جهلنا فاضــحًا بالآثار التي قد تنـــتج عن اللَّعب بمهاراتنا هذه، ونتصرف في غالب الأحيان وكأننا آخر جيل يعيش على هذه الأرض”.

ويقول أيضًا: “إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية، ونمو الإمكانات الإنسانية”.

كما يقول: “إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية ومحيطية سخيفة عابثــة باطلة، نخلقها نحن لهم بدون أي تفكير، وأكـثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة، والشوارع المتراصة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الاجتماعية التي تهتم بالأشياء، وتهمل البشر”.

ويقول أيضًا: “منذ قرنين تقريبًا والإنسان الغربي يعتقد أن خلاصه سيأتي عن طريق الاكتشافات التكنولوجية، ولا جدال في أن المكتشفات التكنولوجية زادت من غناه المادي وحسَّنت صحته العضوية. إلا أنها لم تجلب له بالضرورة الغنى والصحة اللذين يولدان السعادة”.

وفي موضع آخر يقول: “وتواجهنا العلوم المادية بتناقضات لا حلول لها عندما نحاول فهم حدود الفضاء، أو بدايات الزمن، أضف إلى ذلك أن الإنجازات العلمية تثير – بصورة عامة – مسائل أخلاقية يعتبرها كثير من العلماء خارج نطاق كفاءاتهم، ويشيرون إلى أن العلم والتكنولوجيا أدوات ووسائل ليس لها أخلاق، ويمكـن استعمـالها لخيــر البشـريـة أو لدمارها. والاعتقاد بأن العلم قادر على حل أكثـر المشـاكل العلمـية أمر يكذبه الوعي المتــزايد بأن تكنولوجيا العلم تثير مشاكل جديدة في محاولاتها لحل المشكلات القديمة”.

وفي حديث بعنوان: (هل تستطيع أمريكا التغلب على خرافة النمو)؟ كان سكرتير وزارة الداخلية ستيوارت ل. أودال شجاعًا عندما قال: “إنه من السهل اعتبار أمريكا التي صنعها الإنسان. كارثة على مستوى القارة”. لقد ذكَّر أودال مستمعيه: “إننا نملك أكبر عدد من السيارات وأسوأ ساحات (الخردة) بالمقارنة مع أية دولة أخرى في العالم! نحن أكثر سكان العالم تنقلاً ونتحمل أكبر قدر من الازدحام! ونولِّد أكبر قدر من الطاقة، وفي أجوائنا أكثر الهواء تلوثاً في العالَم.”، ولقد نقل عن رئيس بلدية كليفلند قوله مازحاً: “إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ على أساس أننا الجيل الذي رفع إنسانًا إلى القمر. بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات!!”.

وثمة شهادة أخرى من الدكتور (هنري لنك) طبيب النفس الأمريكي الشهير، إذ يقول معارضًا للذين ينكرون الإيمان بالغيب، باسم العلم واحترام الفكر، مبينًا أن العلم وحده لا يستطيع أن يحقق للإنسان أسباب السعادة الحقة: “والواقع أنه يوجد الآن في كل ميدان من ميادين العلم من الظواهر ما يؤجج شعلة ذلك الضلال، وأعني به تعظيم شأن الفكر، ومع ذلك كان علماء النفس هم الذين توصلوا إلى أن الاعتماد المطلق على التفكير فحسب: أي بعيدًا عن الروح، كفيل بهدم سعادة الإنسان”.

وقال: “لن نهتدي إلى حل شاف لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن طريق تقدم المعلومات والمعرفة العلمية وحدها. فارتقاء العلم معناه ازدياد الارتباك واضطراد التخبط، وما لم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة وإخضاعها، فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول التي ابتدعتها وابتـكرتها، بل ستقــود حتمًا إلى انهـيار هذه العقـول وتعفـنها، كما أن هذا التوحيد لا بد أن يأتي عن طريق آخر غير طريق العلم، وأعني به طريق الإيمان”.

علم الغرب معزول عن الدين

أضف إلى ما ذكره هؤلاء العلماء الغربيون: أن العلم في الغرب – لظروف تاريخية معروفة – نشأ بمعزل عن الدين، بل نشأ مضادًا للدين، فقد وقفت الكنيسة وقفتها المعروفة في التاريخ، معادية للعلم ومكتشفاته، فتركها العلم، ومضى وحده، وحسب العلماء أن طبيعة الدين أن يقف في وجه العلم، فأعرض عن الله – مصدر الدين – ولم يذكر اسمه في بحوثه وابتكاراته وإنجازاته.

كانت هذه هي الروح السائدة على العلم ورجاله في حضارة الغرب، فلم تدرس قوانينه على أنها سنن الله في الكون، بل هي إفرازات الطبيعة الصماء. ولم يقل العلماء لطلابهم: هذا من صنع الله في خلقه، بل قالوا: هذا من صنع الطبيعة! والطبيعة أعجز من أن تصنع شيئًا، ولكن هذه الإبداعات التي نشهدها في الكون كله، أرضه وسمائه، إنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء، حيث قال تعالى: “الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” (طه: 50)، هذا ما نؤمن به نحن المسلمين.

ثم إن الغرب قد استخدم منجزات العلم في الخير والشر، والنفع والضر، والحياة والموت، ولم يبال أن يجعل من منتجات العـلم أدوات للتدمير وإهـلاك البشر. ألم تر ما صنعه في حربيه العالميتين الكبيرتين في القرن العشرين، وما قتل فيهما من الملايين ? ألم تر ما فعله بأهل هيروشيما وناجازاكي في اليابان من ضربهما بالقنابل الذرية المهلكة للحرث والنسل، المدمرة للحياة والأحياء بغير حساب؟

فلا يتصور من علم هذه نشأته، وهذا نهجه، وهذه روحه، وهذه منجزاته، أن يكون سببًا في سعادة البشر، و أن يقوم بدور المنقذ لما يعانون من شقوة في حياتهم، بل لعله – كما ذكر علماؤه أنفسهم – من أسباب تعاستهم، وفراغهم الروحي.

أ. د.  يوسف القرضاوي –  29-4-2002