معتز الخطيب**

22/08/2005 

ما يسمى بـ “الطب النبوي” أصبح فكرة رائجة هذه الأيام، وكثر المشتغلون به من أطباء ومشايخ وعامة، وكُتب الكثير عنه احتفاء به، وتقديسا له بفضل انتسابه للنبي صلى الله عليه وسلم، بل وصل الأمر إلى حد القول بالعودة إليه (وكأنه ساد ثم انصرف الناس عنه!)، ورأى هؤلاء أن فيه الحل لمشاكل العصر، ودعوا إلى ترك ما أسموه بـ “الطب الغربي”.

نحن نتفهم وجود مثل هذه الدعوات التي تأتي في الغالب من بعض المتحمسين للإسلام من غير أهل العلم الشرعي، أو من بعض المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وسلطان العاطفة قاهر. وحين يأتي ذلك في سياق هيمنة واستعلاء غربي على المسلمين والإسلام نصبح أكثر تفهما لتلك الدعوات، مع الإقرار بأن هناك فريقا من طالبي الشهرة، وطالبي المال من وراء هذه الدعوات التي تعزف على وتر الدين.

وفي المقابل: وُجدت دعوات وجهودٌ وتنظيمات لإبراز الدور التاريخي والإرث العلمي المخطوط في الطب العربي والإسلامي، وعُقدت المؤتمرات العديدة لأجله، وفي الغالب إنما يَعنون ذلك الطب الذي أُنتج وكُتب في ظل الحضارة الإسلامية، لا أنه متضمن للدين بنصوصه التأسيسية (القرآن والسنة)، فمن يقرأ تاريخ تشكل الطب في الحضارة الإسلامية يدرك جيدا دور الأطباء المسلمين وغير المسلمين، من نصارى ومجوس وغيرهم. بل إن الطب اليوناني كان الأساس الذي بُني عليه الطب في الحضارة الإسلامية.

ودراسة تاريخ الطب في الحضارة الإسلامية مهمة جدا لأنها توفر مصدرا ثريا لتحليل ومعرفة كيفية تعاطي المسلمين الحر مع عصرهم ومنجزاته، وكيف استفادوا من غيرهم وأفادوا.

فكرة الملف .. ومحاوره

برزت فكرة تخصيص ملف عما يسمى بـ “الطب النبوي” من شيوع الرؤى المحتفية به، والتي تجعله دينا من الدين، ولذلك آثرنا أن يكون ملفنا هذا مشتملا على الرؤى النقدية فقط والتي تستند إلى أساس علمي متين، لأنها تكاد تكون غائبة هذه الأيام. وآثرت أن تكون محاور الملف كالآتي:

  • بيان مفهوم الطب النبوي في كتب الحديث الأصلية، وحدود الوعي به حديثيا وفقهيا، وعلاقة الطب بالفلسفة، وتأثر الطب النبوي بطب اليونان.
  • أحاديث الطب النبوي، وما يحتج به منها وما لا يحتج به مع صحته وثبوته. وذلك بناء على التمييز بين ما هو تشريع وما ليس كذلك من تصرفات الرسول وأقواله.
  • اختلافات أحاديث الطب النبوي، وتناقض بعضها مع الآخر، واختلافات كتب شروح الحديث واضطرابها في ذلك.
  • دراسة تطبيقية لنماذج من كتاب “الطب النبوي” لابن القيم، في ميزان الطب الحديث. وبيان قيمته من الناحية العلمية.
  • الأخطاء المنهجية لأبحاث ما يعرف بـ “الطب النبوي”، وبيان أخطائها العلمية ومدى قيمة نتائجها.

وقد جاءت المشاركات من الكتاب والباحثين مفيدة ومتقنة بحمد الله، نأمل أن تحقق النفع وتُجلِي ما خفي على كثير من الناس.

“الطب النبوي” .. مفهومه ونشأته

يبين معتز الخطيب في مقاله أن أصل إطلاق “الطب النبوي” لدى الأئمة المتأخرين من علماء الحديث خاصة، يُراد به تلك الأحاديث الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل تتعلق بالطب: من علاج ودواء ووقاية ورقية ونحوها. غير أنه بهذا اللفظ: “الطب النبوي” تعبير مستحدث في حدود القرن الرابع الهجري.

ويقول: إن الوعي الفقهي في القرون الأولى كان في حدود جواز التداوي، وأن الطب له منافع، وعلى هذا المستوى دار الجدل ابتداء! ففي القرن الهجري الأول إلى منتصف القرن الثاني لم يبلغ الطب عند العرب “رتبة العلم المتقن، بل اقتصر على بعض المعلومات المكتسبة بالاختبار”. ويبين أن حركة الترجمة وانفتاح المسلمين على الثقافة اليونانية، هو ما ساعد على تلك النهضة الطبية في صدر الإسلام، دون توقف عند ملة الطبيب أو الطب ومصدره.

ويوضح أن كتب ما يسمى بالطب النبوي، لا ترقى إلى مستوى “العلم” الشامل، بل هي شذرات من هنا وهناك، وهو في غالبه يدور حول توجيهات عامة، فهو لا يتضمن نظرية طبية محددة حتى يسمى علما.

كما أن الانشغال بما عرف بالطب النبوي هو انشغال حديثي بالدرجة الأولى؛ فهو بالأصل باب من أبواب الحديث، ونهضة الطب تمت بمعزل عن الوعي الفقهي والحديثي معا، ومع ذلك نجد أن كتب شروح الحديث أفادت من الطب اليوناني.

هذا كله يعني أن كلام ابن رشد حين تحدث عن إسقاط الاعتبار بالملة، مقابل اعتبار النفع والصحة، كان له مصداق واقعي في تاريخ الحضارة الإسلامية ومفاعيلها. في حين أن الفصل التام الذي يحدث الآن، بالحديث عن طب غربي، وآخر إسلامي، وثالث نبوي، والتمحور حول تحصينات ودفاعات هوياتية في مقابل اضطراب علاقتنا مع الغرب في العقود الأخيرة، وفي سياق رحلة الأسلمة وابتذالاتها من قبل العديد من المتحمسين للإسلام، هذا كله يعني أن الوضع الإسلامي ليس بعافية.

أحاديث الطب النبوي .. ومدى الاحتجاج بها

هناك سؤال بالغ الأهمية لا يلتفت إليه كثيرون وهو: هل كل هذه الأحاديث في الأمور الدنيوية عامة، وفي الطب خاصة (ولو صحت): تعتبر حجة يجب الأخذ بها واعتبارها وحيا؟.

هذا السؤال يعالجه د. محمد سليمان الأشقر في بحثه هنا معالجة جريئة، ويخلص إلى أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله الدنيوية ليست تشريعا. وأنه صلى الله عليه وسلم إنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، ويجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها الخطأ، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وأقواله وأفعاله في الأمور الطبية الصرفة ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية.

أحاديث الطب النبوي واختلافاتها!

وأمام الأحاديث النبوية حول ذكر بعض الأدوية التي تشفي من بعض الأمراض أو من جميعها بحسب بعض الروايات، يُطرح تساؤل مفاده: إلى أي مدى قد تبنى النبيr شخصية الطبيب ليصف للمرضى الأدوية؟

يبين د. عمار الحريري في مساهمته أنه بمراجعة عدد من أحاديث الطب النبوي، نجد أن ثمة اختلافا فيما بينها يصل في بعض الحالات إلى التناقض، فضلا عن الإشكالات التي تحيط بمحتواها إذا ما قورن بالمعلوم من الطب والممارسة النبوية، وهذا الأمر أوقع شراح الحديث في كثير من الاضطراب أثناء سعيهم للتوفيق بين الأحاديث فيما بينها، وبينها وبين علم الأطباء.

فمن خلال ما سبق يمكن أن نخلص إلى أن ما نسب إلى النبي r من أحاديث طبية قد خالفت العلم وظاهرها الصحة؛ يحكم عليها بعدم الصحة حسب استثناءات المحدثين، فهي خرجت عن نطاق الوحي والسنة، أما ما صح منها ولم يخالف العلم فيمكن أن تنسب إلى النبي r وإلى الوحي.

ويستدرك الحريري: إن التسرع في رد الأحاديث من جهة مخالفة العلم: فيه تعسف ولا شك، ولكن ما ذكرناه من أمثلة لا يحمل على مخالفة العلم فحسب، بل على تضارب الأحاديث مع بعضها من جهة، ومخالفتها للعلم من جهة أخرى، وما ذكره الشراح من تخصيص وتقييد للأحاديث يفتقر إلى دليل، وما لجأ الشراح لذلك إلا بعد أن خالف الحديث الحس المشاهد والعلم التجريبي، وبالتالي لا بد من أن نعيد النظر فيما نسب إلى النبي r من بعض ذلك، وتنزيهه عن أن يتكلم بما يناقض العلم.

الأخطاء المنهجية في بحوث الطب النبوي

د. صهباء بندق ترصد الأخطاء المنهجية في البحوث التي تناولت الهدي النبوي في الطب، وتذكر من الأخطاء: افتراض صحة الحديث وعدم التثبت، واعتبار “أحاديث الآحاد” حقائق قطعية الثبوت، والتساهل في ذكر الأحاديث الضعيفة، وشيوع الأخطاء المعلوماتية وضعف التحضير للبحث.

وتستشهد بقول الدكتورة “فرانسيس باك” الأستاذ المساعد بقسم الأمراض المتوطنة وأمراض الدم والسرطان في جامعة وين ستيت بالولايات المتحدة: “إن كان هذا المؤتمر (مؤتمر دبي 2004م) عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فلا بد أن يكون هناك معلومات علمية حقيقية؛ لأن الكثير مما يقدم ليس مبنيا على الدليل العـلمي. ومن ضمن الأخطاء أيضا: التكلف والتحايل على الحقائق العلمية، والاعتماد على النظريات التي لم تثبت والتسليم بصحتها، وضعف مراجع البحث ومصادره.

وتقول: يحدث كثيرا أن يتقدم الباحث في مجال الطب النبوي بتقارير تفتقر إلى أي وثيقة تعزز ما توصل إليه، ودون أن يذكر مرجعا علميا واحدا موثقا يبرهن على صحة ما توصل إليه، أو يعتمد على الكتب الحديثة التي لا تكتب مصادر مادتها وهي كتب قليلة الفائدة وما تقدمه يعد كلاما مرسلا لا يمكن الاطمئنان إليه أو الوثوق به، والنتيجة أبحاث غير مؤهلة لا تستطيع أن تقنع أي عقلية علمية.

وتجاوز تلك المعايير والقواعد البحثية أمر شائع في أبحاث الطب النبوي، فكثيرا ما يقفز الباحث إلى استنتاج يفيد أن التجربة العلمية الحديثة قد أثبتت الأسرار الغامضة في الحديث النبوي الذي يتناوله، وغالبا ما تكون تلك الاستنتاجات مبنية على الملاحظة غير المقيدة.

وقد أشارت الدكتورة “آني أكاسو” عالمة الآثار التي حضرت مؤتمر الإعجاز العلمي السابع بالنيابة عن معهد الحفريات البشرية human paleontology في باريس، إلى هذه الملاحظة قائلة: “لا أرى العلاقة بين الدليل العلمي المقدم في الأبحاث وبين النص القرآني المشار إليه”.

الطب النبوي والطب الحديث

د. نبيل حنفي يعالج سؤالا مهما وهو ما مدى توافق أو اختلاف الطب الذي كان سائدا في جزيرة العرب على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع ما يسمى بـ”الطب النبوي”؟ ثم ما موقعه من “الطب الحديث”؟

ويقول: الطب المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا طب كان سائدا في جزيرة العرب قبل البعثة وأثناءها، تعامل معه فأخذ منه وترك، وكانت له فيه آراء واجتهادات وأحاديث مثل غيره من أمور الدنيا.

ويخلص إلى أنه لا يمكن مقارنة هذا الطب البدائي بالطب الحديث؛ فأين وسائل التشخيص الحديثة من مختبرات ومعامل وأشعة من تشخيص المريض لمرضه بنفسه؟! وهذا يؤكد على بشرية هذه الأحاديث (في الطب خاصة)، فلو كانت (أحاديث الطب) وحيا من عند الله ما نسخ بعضها بعضا، حيث إن (الحقيقة العلمية) مقررة في علم الله لا تقبل التغيير ولا التبديل، وإن كانت تتغير في علم الإنسان من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.

والسؤال الآن: إذا مَن الله على عباده بعلاجات أكثر مصداقية وأكثر فاعلية وأكثر قبولا لدى الناس من بول الجمال مثلا، فهل نترك هذه العلاجات ونعود إلى بول الجمال تحت زعم أنه طب نبوي؟!

ويناقش بعض مفردات الطب النبوي في كتاب ابن القيم فيقول: من الناحية الطبية فإن تقييم العسل كدواء لا يخرج عن كونه مادة مسهلة وطاردة للبلغم، كما أنه يستخدم بنجاح في علاج الجروح والقروح والحروق المستعصية، والحبة السوداء لا تحتوي على أي مادة غذائية أو كيميائية يندر وجودها في مواد غذائية أخرى، وهي مثل العسل ليس بها أي محتوى علاجي محدد لعلاج مرض معين.

والنتائج في الحجامة -شأنها شأن كل مفردات الطب البديل- لا تخضع لمنهج علمي منضبط، وهناك ما يزيد على سبعين حديثا نبويا في الحجامة تختلف اختلافا متباينا في صحتها وضعفها، كما أن بعضها يختلف مع بعضه في المعاني والمقاصد، لدرجة أن مثل هذه الأحاديث يقع تحت بند “مُختلف الحديث”. والطب الحديث يؤكد على الحجامة وينصح بها، لكن في صورة عصرية -لا تفيد الشخص نفسه فحسب بل تفيد المجتمع كله- ألا وهي التبرع بالدم.

طالع أوراق الملف:

اقرأ أيضًا:


** كاتب وباحث سوري