قبل التعرف على البيمارستان العضدي لابد من معرفة الدولة البويهية، فقد ظهر بنو بويه في أوائل القرن الرابع الهجري، وتمكنوا من تأسيس دولة لهم في بلاد فارس، ثم أغراهم ما كانت عليه الخلافة العباسية من ضعف وهزال إلى تطلع السيطرة عليها، ولم يجد أحمد بن بويه -أحد الإخوة الثلاثة الذين قامت على أكتافهم الدولة البويهية- صعوبة في دخول بغداد والسيطرة عليها دون قتال في (11 من جمادى الأولى 334 هـ = 19 يناير 946م)..

وبدخول أحمد بن بويه عاصمة الخلافة ابتدأ عصر نفوذ البويهيين الذي استمر أكثر من مائة عام، خضع لهم أثناءها خلفاء بني العباس، ولم يبق لهم من النفوذ والسلطان إلا بعض المظاهر الدينية كالدعاء لهم في الخطب، وكتابة أسمائهم على السكة، بينما استأثر البويهيون بالحكم وتلقبوا بألقاب الملوك والسلاطين.

ويعد عماد الدولة علي بن بويه مؤسس هذه الدولة، وكان متصفًا بالحكمة والأناة، اتخذ من شيراز قاعدة لدولته، وخص أخويه بمنطقة يحكمها كل واحد منهما باسمه، فكان الجزء الشمالي من بلاد فارس تحت حكم ركن الدولة حسن بن بويه، أما العراق فكان يحكمها أخوه الأصغر أحمد بن بويه.

وبعد موته انتقلت رئاسة البيت البويهي إلى ركن الدولة سنة (338هـ = 949م)، وانتقلت عاصمة البويهيين إلى “الري” حيث كان يقيم ركن الدولة، وتولى ابنه عضد الدولة حكم شيراز.

 

حدود الدولة البويهية
حدود الدولة البويهية
 

بروز عضد الدولة

برز عضد الدولة بعد وفاة عمه عماد الدولة، حيث خلفه في حكم أصبهان وشيراز وبلاد الكرج، وتطلعت طموحاته إلى الاستيلاء على العراق التي كانت تحت يد ابن عمه بختيار بن معز الدولة، لكنها كانت تصطدم بيقظة أبيه ركن الدولة الراغب في أن يعم السلام أسرة بني بويه، فلما توفي في سنة (36هـ = 9769) آلت رئاسة البيت البويهي إلى ابنه عضد الدولة، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه، واشتعلت بينهما عدة معارك انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367هـ = 978م)، واستولى على ما تحت يديه، واستقر في بغداد، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه، وخُطب له على منابرها إلى جانب الخليفة العباسي.

وبعد ذلك شرع في مواصلة سياسة التوسع الإقليمي، فاستولى على الموصل وديار بكر وديار ربيعة وما حولها من الحمدانيين، وضم الأقاليم الخاضعة لأخيه فخر الدولة بسبب وقوفه إلى جانب بختيار، فاستولى على همدان والري وما بينهما من البلاد، وبسط نفوذه إلى بلاد جرجان وطبرستان، فتعاظم بذلك نفوذ عضد الدولة وذاع صيته، وخلع عليه الخليفة الطائع العباسي ما لم يخلعه على غيره، وعقد له لواءين، ولقبه بالملك وبتاج الملك، وأمر أن يُخطب له على منابر بغداد، فكان أول من خطب له بعد الخلفاء.

الإنجازات الحضارية

بلغت الدولة البويهية شأنًا كبيرًا في عهد عضد الدولة، وشهدت إنجازات حضارية راقية على يديه، إلى جانب نجاحه في توحيد مناطق الدولة وجمعها تحت نفوذه، فبعد دخوله في بغداد بدأ في عمارتها وإعادة ما تهدم من مساجدها وأسواقها، وأقام الميادين، والمتنزهات، وأصلح الطريق بين مكة والعراق، وأقام سد السهيلة بالقرب من مدينة النهروان بالعراق، وأعاد حفر الأنهار التي اندثرت وهو ما أسهم في ازدهار الزراعة، وشيد مشهدًا عظيمًا على قبر الإمام علي رضي الله عنه.

ويذكر له أنه أمر بإخراج أموال الصدقات وتسليمها للقضاة والأعيان، لإعانة من يستحق من الفقراء وذوي الحاجات، وإعانة العاطلين الذين لا يجدون أعمالاً يقتاتون منها.

وشهدت الحياة العلمية في عهده ازدهارًا واسعًا، حيث قرب إليه العلماء، وأكرم وفادتهم، وأغدق عليهم العطاء وأحاطهم بكل مظاهر التكريم والتبجيل، وكان مجلسه منتدى يجتمع فيه الفقهاء والمحدثون والنحاة، والأدباء والشعراء، والأطباء والمهندسون، تدور فيه المناقشات العلمية، وتطرح القضايا على مائدة البحث، يدلي كل منهم بما عنده، وكان عضد الدولة يشترك معهم في هذه المناقشات.

ومن أبرز من اتصلوا به: أبو علي الفارسي وهو واحد من أكبر علماء العربية، ألّف له كتاب “الإيضاح” و”التكملة” في النحو، وكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي في النحو، ومنهم أيضا أبو إسحاق الصابي الذي ألف له كتاب “التاجي في أخبار بني بويه”، وعلي بن العباسي المجوسي الذي صنف “الكناش العضدي” في الطب، وأبو الحسن ابن عمر الرازي، وكان فلكيًا كبيرًا صنع لعضد الدولة كرة كبيرة تمثل السماء بما فيها من نجوم وكواكب.

وكان عضد الدولة يحب الشعر ويتذوقه، ويغمر الشعراء بكريم عطاياه، فقصدوا بلاطه، ويأتي في مقدمتهم أبو الطيب المتنبي الذي خصه بمدائح عظيمة، وأبو الحسن السلامي أبرز شعراء العراق في ذلك الوقت، وكان عضد الدولة يقول عنه: “إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يدي”.

البيمارستان العضدي

غير أن أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نسب إليه، فعرف باسم البيمارستان العضدي، أقامه سنة (371هـ = 192م) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم بعضهم عضد الدولة للعمل في البيمارستان من أماكن مختلفة، ومن هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، والكحال أبو نصر الرحبي، وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان.

والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أو دار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى “مارستان” التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.

وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).

ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.

وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين.

رسالة من مريض إلى أبيه

ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته المستشرقة الألمانية “سيجريد هونكه” في كتابها “شمس العرب تطلع على الغرب” عن مريض كان يعالج في أحد مستشفيات قرطبة كتب رسالة إلى أبيه يصف له ما وجده من غيابه في المستشفى، يقول:

“لقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحمّني حمامًا ساخنًا، وألبسني ثيابًا نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرًا نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الخارجي مرورا عابرا، فإذا سمعت موسيقى أو غناء ينبعثان من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النُقَّه (جمع ناقه) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.. واليوم صباحًا جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه. ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحًا، وبوسعي الخروج قريبًا من المستشفى صحيح الجسم معافى، وإني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرّة وثيرة وأغطيتها من الدمقس الأبيض، والملاء بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تدفأ كل الغرف…”.

وكانت تلك البيمارستانات تُرصد لها الأوقاف؛ ليصرف من ريعها على رواتب الأطباء والعاملين، علاج المرضى، وخصص لإدارتها ناظر يقوم على أمرها وعلى الأموال والأوقاف المخصصة لها، وكان هذا المنصب من الوظائف الديوانية العظيمة في الدولة لا يُختار له إلا الأكفاء من ذوي القدرة والأمانة.

وفاة عضد الدولة

لم تطل الحياة بعضد الدولة بعد أن قام بتلك الأعمال بعد توحيده العراق وفارس تحت حكمه وازداد نفوذه، فتوفي بداء الصرع في بغداد في (8 من شوال 372هـ = 26 من مارس 983م) عن ثمانية وأربعين عامًا.

أحمد تمام

من مصادر الدراسة:

  • ابن الأثير على بن محمد: الكامل في التاريخ – دار صادر – بيروت 1402هـ = 1982م.

  • ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1978.

  • حسن أحمد محمود وأحمد إبراهيم الشريف: العالم الإسلامي في العصر العباسي – دار الفكر العربي – القاهرة – بدون تاريخ.

  • عصام عبد الرؤوف: الدولة الإسلامية المستقلة في الشرق – دار الفكر العربي – القاهرة – 1974م.

  • سيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب- ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي – دار الآفاق الجديدة – 1401هـ = 1981م.

  • كمال السامرائي: مختصر تاريخ الطب العربي – دار النضال – بيروت – 1409هـ = 1989م.