|
||
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: “يا رسول الله في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم، فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نر للمتحابين غير النكاح” (قال الألباني: الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطبراني وغيرهم، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، صحيح السلسلة الصحيحة، 624، صحيح ابن ماجه 1497). وقال عمرو بن العاص: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش وفيهم أبو بكر وعمر، فلما رجعت قلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قلت إنما أعني من الرجال، قال: أبوها” (رواه البخاري ومسلم). قالت عائشة رضي الله عنها: “أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت وهو مضطجع معي في مرطي، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة (تقصد السيدة عائشة)، وأنا ساكتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تحبين ما أحب؟! قالت: بلى، قال: فأحبي هذه” (رواه مسلم والنسائي). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك” (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُريتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك. فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه” (رواه البخاري). قال الزهري: “أول حب كان في الإسلام حب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، وكان مسروق يسميها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم” (روى ذلك الإمام ابن القيم). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: “كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا” (رواه مسلم والنسائي والطبراني). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل” (رواه أبو داود والطحاوي وأحمد وابن ماجه). وعن سهل بن أبي حثمة أنه قال: “رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحال فوق أجران لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أُلقيَ في قلب امرئٍ خطبة المرأة فلا بأس أن ينظر إليها” (الحديث رواه أحمد وابن ماجه والطحاوي). وفي الصحيح كان مغيث يمضي خلف زوجته بريرة بعد فراقها له، وقد صارت أجنبية عنه، ودموعه تسيل على خديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا ابن عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا، ثم قال لها لو راجعته، فقالت: أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه” (رواه البخاري). وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري تعليقًا على هذا الحديث: “فيه إن فرط الحب يُذهِب الحياء لما ذكر من حال مغيث وغلبة الوجد حتى لم يستطع كتمان حبها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله ممن يقع ما لا يليق بمنصبه إذا وقع بغير اختياره” (فتح الباري، ج 9، ص 325). وقال الإمام الصنعاني في تعليقه عليه أيضًا: “ومما ذكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكة المدينة؛ ينحدر دمعه لفرط محبته لها. قالوا: يقصد العلماء فيُؤخذ منه أن الحب يُذهِب الحياء، وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه” (سبل السلام، ج: 3، ص: 278). وفي الحديث الشهير جدًّا الذي روى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الثلاثة الذي آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ فدعا الأول بما يعني تفانيه في خدمة والديه ابتغاء وجه الله فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. ودعا الثالث بما يعني أنه استثمر أمانة عنده فربحت أموالاً هائلة وعلى الرغم من ذلك رد الأمانة وما ربحت من الأموال الهائلة لصاحبها ابتغاء وجه الله. والذي يهمنا من هذه القصة الشهيرة التي رواها الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بالرجل الثاني. فبماذا دعا الله تعالى بصالح أعماله؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ، وفي رواية كنت أحبها لما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها (أي أراد مواقعتها) فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين (أي ضاقت بها الظروف لمصيبة أصابتها)؛ فجاءتني، فاشترطت لمساعدتها أن أعطيها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها (أي تسلم له نفسها)، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، وفي رواية فلما قعدت بين رجليها (وأنا لا أتحرج هنا أن أقول للقارئ أن ينتبه للغاية لمعنى هذا الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم لأهميته الشديدة[a1] ) قالت: اتق الله، ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه (أي لا تزل غشاء البكارة إلا بعقد الزواج)، فانصرفت عنها؛ وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعرتها. اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة (متفق عليه). وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يملك” (رواه ابن حزم بسنده في طوق الحمامة). وقال عمر بن الخطاب أيضًا: “لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما” (رواه ابن الجوزي بسنده). وعروة عاشق عذري وعده عمه بالزواج من ابنته عفراء بعد عودته من سفر للتجارة، ثم زوجها لرجل من الأثرياء. وقال هشام بن عروة عن أبيه: مات عاشق، فصلى عليه زيد بن ثابت، وأحد كتاب الوحي، وجامع القرآن الكريم، فقيل له في ذلك، فقال: إني رحمته” (رواه ابن القيم في روضة المحبين ونزهة العاشقين). ويروي ابن حزم في طوق الحمامة أنه قد جاء من فتيا ابن عباس في العشق ما لا يُحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود. الأحكام العامة المأخوذة من النصوص:
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تعاطف مع المحب ولم ينهه عن حبه. ثانيًا: الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ تعاطفه مع المحب أن تشفع له بنفسه عند من يحب، وهذا أمر تثقل دونه الجبال. ثالثًا: الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه مغيثًا عن حبه لبريرة حتى بعد أن رفضت بريرة الزواج منه. أي إنه لم يُحرِّم حبه لها. وكيف يُحرِّم هذا الأمر وهو يقول عنه إنه لا يملك؟! رابعًا: إن مغيثًا كان يمشي وراءها ويبكي، وليس من المعقول أنه كان يمشي وراءها مغمض العينين. إذن هو كان ينظر إليها، ويراها، ولم ينهه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو أمر لم يتركه صلى الله عليه وسلم إلا مع هذا المحب، وهو أمر يرتبط بالمحب ارتباطًا لاإراديًا؛ فلا يستطيع المحب أن يمر من يحبه أمامه ولا ينظر إليه. خامسًا: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟!” قول لا يكاد يكون له مثيل. أفلا يكون ذلك مستندًا لنا في أن الحب أمر عجيب وسر من أسرار الله؟! وسنعود إلى هذا الحديث في أمور أخرى إن شاء الله.
إذن المقصود هو ألا يحملهم الله الحب مع الحرمان من الحبيب؛ فذلك هو ما لا طاقة للإنسان به. فليس هناك من يدعو الله بألا يحمله الحب مع وجود المحبوب، ولكن ألا يحمله الحب مع الحرمان من المحبوب. ولم تكن هناك مشكلة لدى مغيث في حب بريرة وهو زوجها، ولكن المشكلة أتت مغيثًا من استمرار حبه لها، وهو أمر لا يملكه، في الوقت الذي كان قد فقدها فيه.
الحب والعبودية وأحكام أخرى متعلقة بالحب: الحكم فيمن قال لمحبوبه: “أعبدك” فقد كفر. أما من قال له: أنا عبدك فهو على نيته فإن كان يقصد من ذلك أنه بمثابة المملوك له لم يكفر، وإن كان ذلك لا يتفق وعزة النفس في الإسلام. أما إن كان يقصد من قوله ذلك أن محبوبه إله وأنه عبد لهذا الإله فقد كفر. وإن أطاع محبوبه فيما يخالف شرع الله مع اعتقاده ببطلان ذلك فقد عصى، وإذا أطاع محبوبه فيما يخالف شرع الله وهو يعتقد بصحة ذلك، أي أنه مقتنع بصحة تقديم ما يريده محبوبه على ما يريده الله فقد كفر. وعلى القارئ أن يراجع العلاقة بين تقديم طاعة الغير على طاعة الله بالشرك والكفر في رسالة العبودية للإمام ابن تيمية على وجه الخصوص وكذلك كتب العقيدة الأخرى، مثل: * معارج القبول: لحافظ بن أحمد حكمي. * شرح العقيد الطحاوية: للعز الحنفي. * فتح المجيد: لآل الشيخ. وللحب أنواع مختلفة. ولا تعارض بين هذه الأنواع؛ بحيث تؤدي شدة هذا النوع من الحب إلى ضعف ذاك. فلا تعارض بين حب الله وأنواع الحب الأخرى مثل حب ذوي القربى، وحب الإخوة، وحب العلم، وحب الحبيبة، بحيث يقال إن شدة حب الحبيبة تؤدي إلى ضعف حب الله أو حب العلم مثلاً، بل إن كل هذه الأنواع من الحب باستثناء حب الله فروع من شجرة الروحانية. أما حب الله فيعتبر بمثابة الساق التي تغذي كل أنواع الحب الأخرى. طالع معنا بقية محاور الدراسة: [a1] الأهمية الشديدة التي يقصدها الكاتب هنا تتمثل في أن النبي صلى الله عليه وسلم روى هذه الرواية بتفاصيلها دون أن يهاجم حالة الحب نفسها، بل كان التركيز فقط على رفض الفاحشة. |