رفض الدكتور محمد سيد طنطاوي -شيخ الأزهر- في لقاء جمعه بأطباء وقضاة في القاهرة كل ما يثار عن قتل الرحمة مؤكدًا أن قتل المريض الميئوس من شفائه ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه، غير أن شيخ الأزهر أكَّد إلى جانب ذلك أن الأمر قد يختلف فيما يتعلَّق بحالات الوفاة المخية، حيث يجوز للطبيب أن يفصل الأجهزة الطبية عن المريض ليتوقَّف قلبه إذا تأكَّد أن عودته للحياة مستحيلة.

رأي شيخ الأزهر

وأضاف شيخ الأزهر في الجلسة التي عُقدت خلال المؤتمر الدولي السنوي الثالث والعشرين لكلية طب عين شمس تحت عنوان “الطب المتكامل”، والذي عُقد في الفترة من 21-24 فبراير 2000م.. أن حياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وأن يحافظ على بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ)، وحرَّم الإسلام قتل النفس لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، ونهى الرسول -- عن أن يقتل الإنسان نفسه نهيًا شديدًا، وتوعَّد من يفعلون ذلك بسوء المصير في الدنيا والآخرة؛ فقد أكَّدت شريعة الإسلام على التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، كما أمرت الشريعة الإسلامية الأطباء بأن يهتموا بالمريض، وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به، وعلى الطبيب والمريض أن يتركا النتيجة على الله -سبحانه وتعالى-، وعلى الطبيب ألا يستجيب لطلب المريض في إنهاء حياته، وإذا استجاب يكون خائنًا للأمانة؛ سواء بطلب المريض أو بغير طلبه، والعقاب للطبيب في هذه الحالة يكون حسبما يراه القاضي لكل حالة على حدةٍ.

وطرح الأطباء على شيخ الأزهر خلال الجلسة عدة حالات يحتار فيها الطبيب؛ منها رفض مريض السرطان أخذ العلاج لإدراكه أن أيامه قليلة، وطلب الأسر في بعض الحالات المتأخرة خروج المريض من المستشفى الموجود به الأجهزة التي تساعده على الحياة لعدم استطاعتها سدَّ نفقات العلاج بالمستشفى، وحالة المرضى الذين ماتوا مُخيًّا لكن قلبهم ما زال ينبض، في حين أن فرص عودتهم للحياة معدومة، فهل من حق الطبيب أو الأهل أن يطالبوا بمنع هذه الأجهزة عن المريض؛ إما لحاجة مريض آخر فرصته في الشفاء أعلى من المريض الأول، أو للتقليل من النفقات التي قد لا تؤدي إلى نتيجة؟!

وكان ردّ شيخ الأزهر على هذه الأسئلة هو أن “الموت هو مفارقة الحياة، ومن يحكم بمفارقة الحياة هم الأطباء، وليس علماء الدين، فإذا رأى الطبيب أن المريض الذي ينبض قلبه ومات مخّه ميتًا فهذا شأن الطبيب، لكن لا يجوز للأسرة إخراج المريض من المستشفى لتحرمه من الشفاء، أما في حالة أن بقاء قلب المريض ينبض مرتبط بوجوده على الأجهزة ومخه قد مات أصلا فلا بأس من أن تطلب الأسرة منع الأجهزة عنه؛ لعدم استطاعتهم الوفاء بمصروفات هذه الأجهزة، ويرضون بقضاء الله، أما المريض الذي يطلب موت الشفقة أو موت الرحمة أو غير ذلك من المسميات لينتهي من عذاب الآلام.. فلا يجوز له ذلك”.

فتوى دار الإفتاء بالكويت

وفي سؤال حول قتل المريض الميئوس من حياته وجّه إلى دار الإفتاء بالكويت بتاريخ 13/8/2001م، هذا نصه:

“هل يجوز إيقاف العلاج في الحالات الميئوس منها، أو يجب مواصلته إلى أن يموت المريض أو يتم إنقاذه؟ وهل يجوز القتل بدافع الرحمة الإنسانية، وقياس ذلك على قتل الحصان الذي بلغ سنا معينة؟”.

كان نص الإجابة كما يلي:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

“التخلص من المريض بأية وسيلة محرم قطعاً، ومن يقوم بذلك يكون قاتلاً عمداً؛ لأنه لا يباح دم امرئ مسلم صغيراً أو مريضاً إلا بإحدى ثلاث حددها رسول الله بقوله: “لا يحلّ دمُ امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفسُ بالنفس، والثيّبُ الزاني، والمارقُ من الدين التارك للجماعة” (أخرجه البخاري). وهذا القتل ليس من هؤلاء الثلاثة، والنص القرآني قاطع في الدلالة على أن قتل النفس محرم قطعاً لقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفسَ التي حرّم الله إلا بالحق}، ويشترك في الإثم والعقوبة من أمر بهذا أو حرص عليه، وقياس هذا القتل على قتل الحصان الميئوس من شفائه فيه امتهان لكرامة الإنسان؛ إذ الحصان يجوز ذبحه حتى ولو كان صحيحاً، بخلاف الإنسان فإنه معصوم الدم، ووصف الرصاصة القاتلة للحصان برصاصة الرحمة وصف لم يقم عليه دليل شرعي؛ فكيف نسمي الحقنة القاتلة للإنسان بهذا الاسم؟

وأما بالنسبة للمريض بمرض ميئوس منه إذا طرأ عليه مرض آخر قابل للعلاج ويؤدي للوفاة إذا أهمل فإنه يطبق عليه الحكم الأصلي للتداوي، وهو عدم الوجوب من جهة الشرع؛ لأن حصول الشفاء بالتداوي أمر ظني، وهو مطلوب على سبيل الترغيب لا على سبيل الوجوب، أما من جهة التعليمات الطبية والقرارات الرسمية المنظمة للمهنة فينبغي شرعاً العمل بما تقضي به فيما لا يتنافى مع الشرع”. والله أعلم.

فتوى الشيخ عطية صقر

وجوابا على سؤال حول جواز قتل المريض المصاب بفقد المناعة (الإيدز) أجاب الشيخ عطية صقر بما يلي:

“من المقرّر شرعًا وعقلاً أن قتْل النفس جريمة من كبرى الجرائم ما دام لا يوجد مبرِّر لذلك، والنصوص في ذلك أشهر من أن تُذكَر، يكفي منها قوله تعالى عن الشرائع السابقة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (سورة المائدة: 32)، وقوله تعالى {ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التِي حَرَّم اللهُ إِلا بِالحَقِّ} (سورة الأنعام: 151، والإسراء: 33)، وقوله تعالى: {ومَنْ يَقتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (سورة النساء: 93).

والقتل الجائِز هو ما كان بالحقّ، كالدفاع عن النفس والمال والعِرض والدِّين والجهاد في سبيل الله، وما نصَّ عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقارِبة “لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسلم إلا بإحدى ثلاث: الثَّيِّبُ الزّاني، والنَّفْس بالنَّفْس، والتّارِك لدِينِه المُفارِق للجَماعَةِ”،وهناك مسائلُ أخرى يجوز فيها القتل تُطْلب من مَظانِّها.

والمريض أيًّا كان مرضُه وكيف كانت حالة مرضِه لا يجوز قتله لليأس من شفائِه أو لمنع انتقال مرضِه إلى غيره؛ ففي حالة اليأس من الشّفاء -مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه- يحرُم على المريض أن يقتُل نفسَه، ويحرُم على غيره أن يقتلَه حتى لو أُذِنَ له في قتلِه؛فالأول انتحار، والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلِّل الحرام؛ فهو لا يملِك رُوحَه حتّى يأذَنَ لغيره أو أن يقضيَ عليها. والحديث معروف في تحريم الانتحار عامّة؛ فالمُنتحِر يُعذَّب في النار بالصّورة التي انتحر بها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، إن استحلّ ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود في العذاب، وإن لم يستحلّه عُذِّب عذابًا شديدًا، جاء التعبير عنه بهذه الصورة للتنفير منه.

روى البخاري ومسلم أن النبيّ -- قال: “كان فيمن قبلَكم رجل به جُرح فجَزِع فأخذ سكِّينًا فحزَّ به يده، فما رَقَأ الدّم حتى ماتَ” قال الله تعالى: “بادَرني عبدي بنفسِه، حَرَّمْتُ عليه الجَنَّة”، وفي رواية لهما أن رجلا مسلمًا قاتَل في خيبر قتالا شديدًا ومات، فلما أُخبر به الرسولُ قال: “إنّه من أهل النار” فعجِب الصّحابة لذلك، ثم عَرَفوا أنّه كان به جُرح شديد فلم يصبِرْ عليه، فوضَع نصلَ سيفِه بالأرض وجعل ذُبابَه -أي طرفَه- بين ثديَيه ثم تحامَل على نفسه حتّى مات، وتقول الرواية إن الرسول أمر بلالا أن ينادِيَ في النّاس أنّه لا يدخل الجنّة إلا نفس مُسلمة، وأنّ الله يؤيِّد هذا الدّين بالرجل الفاجر.

وقد أُلِّفت في إنجلترا جمعيّة باسم “القتل بدافع الرّحمة” طالبت السلطات سنة 1936م بإباحة الإجهاز على المريض الميئوس من شفائه، وتكرّر الطلب فرُفِضَ، كما تكونت جمعيّة لهذا الغرض في أمريكا، وباءَ مشروعُها بالفشل سنة 1938، وما زالت هذه الدعوة تكسِب أنصارًا في هذه البلاد.

فالخُلاصة أن قتل المريض الميئوس من شفائه حرام شرعًا حتّى لو كان بإذنه، فهو انتحار بطريق مباشر أو غير مباشر، أو عُدوان على الغير إن كان بدون إذنِه، والرُّوح مِلك لله لا يُضحَّى بها إلا فيما شرعه الله من الجهاد ونحوه ممّا سبق ذكره.

أما المريض الذي يخشى انتقال مرضِه إلى غيره بالعدوى حتى لو كان ميئوسا من شفائه؛ فلا يجوز قتله من أجل منع ضررِه؛ ذلك لأنّ هناك وسائل أخرى لمنع الضّرر أخفّ من القتل ومنها العزل، ومنع الاختلاط به على وجه يَنقل المرض؛ فوسائل انتقال المرض متنوعة، وتختلف من مرض إلى مرض، وليس كل اختلاط بالمريض بفَقد المناعة “الإيدز” محقِّقًا للعدوى؛ فهي لا تكون إلا باختلاط معيَّن، كما ذكره المختصُّون؛ فالإجراء الذي يُتَّخذ معه هو منع هذه الاتصالات الخاصة، مع المحافظة على حياته كآدمي يقدّم إليه الغِذاء حتّى يَقضِيَ الله أمرًا كان مفعولا.

وعدم الاختلاط بالمريض مرضًا مُعْدِيًا (أي العزل أو الحجر الصِّحِّي) مبدأ إسلامي، جاء فيه قول النبي -- “فِرّ من المجذوم فِرارَك مِنَ الأسَدَ” (رواه البخاري)، وقوله “إذا سمِعْتُم بالطّاعون في أرض فلا تدخُلُوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرُجوا منها”،والله سبحانه يقول {خُذُوا حِذْرَكُمْ} ( سورة النساء: 71)، وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة بإسناد حسن “لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ”.

فالمريض بالإيدز على فرض اليأس من شفائه.. لا يجوز قتله منعًا لضرره عن الغير؛ فمنع الضّرر له وسائلُ أخرى غير القتل، ولا يقال إنه يَستحِقُّ القتلَ؛ لأنه ارتكب مُنكرًا نَقَل إليه هذا المرض، فليس كل مُنكر حتى لو كان اتِّصالاً محرَّمًا يوجِب القتل؛ فهناك شروط موضوعة لإقامة حدِّ الرَّجم “القتل” على مرتكب الفاحِشة، كما أن هناك وسائل لانتقال المرض إليه ليست مُحرَّمة وربما لا يكون له فيها اختيار، كنقل دَمِ مريض به دون عِلم، أو غير ذلك.

وعلى العموم لا يصِحُّ قتل المريض بالإيدز أو بغيره، لا لليأس من شفائه، ولا لمنع انتقال المرض منه إلى غيره، فالله على كل شيء قدير، ووسائل الوقاية متعدِّدة، وقد يكون بريئًا من ارتكاب ما سبَّب له المرضَ، فهو يستحِق العطفَ والرحمةَ، ومداوَمة العِلاج بالقدر المُستطاع، جاء في الحديث الذي رواه الترمذي “يا عبادَ الله تداوَوْا، فإنّ الله لم يضَعْ داء إلا وَضَع له دواءً”، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم “ما أنزلَ الله من داءٍ إلا أنزلَ له شفاءً”، وفي الحديث الذي رواه أحمد “إنّ الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه وجهِله مَن جهِله”، وجاء في بعض روايات أحمد استثناء “الهَرَم” فإنه ليس له شفاءٌ.

وهذه الأحاديث تُعطينا أملا في اكتشاف دواء لهذا المرض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظنَّ الناس أن شفاءَها ميئوس منه، فلا يصِحُّ قتل حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضّرر عن الأصِحّاء؛ حيث لم يتعيّن القتل وسيلة له؛ فالوسائِل المُباحة موجودة، وعليه فليست هناك ضرورة أو حاجة مُلِحّة حتّى يُباح لها المحظور، ولا محلّ أيضًا لقياس قتلِه على إلقاء أحد رُكّاب السفينة في البحر لإنقاذ حياة الباقين؛ تقديمًا لحقِّ الجَماعة على حقّ الفرد، أو على قتل المُسلِم الذي تَترَّسَ به العدو للتوصُّل إلى قتله. فذلك وأمثالُه تحتّم الإغراقُ والقتلُ وسيلة، فأُبيحَ للّضرورة، والأمر في منع العَدْوى ليس كذلك.

فتوى الدكتور يوسف القرضاوي

ومن الفتاوى الجامعة في هذا الموضوع فتوى للعلامة الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي حول أسئلة وجهت إليه من قبل منظمة الطب الإسلامي بجنوب أفريقيا، ضمن أسئلة عن الطب الإسلامي وأحكامه وآدابه، جاء في السؤال الأول منها ما يلي:

قتل الرحمة (تيسير الموت):

التعريف: تسهيل موت الشخص بدون ألم بسبب الرحمة لتخفيف معاناة المريض سواء بطرق فعالة أو منفعلة.

تيسير الموت الفعال: يتخذ الطبيب إجراءات فعالة لإنهاء حياة المريض.

أمثلة:

1- مريض مصاب بالسرطان يعاني من الألم والإغماء، ويعتقد الطبيب بأنه سيموت بأي حال من الأحوال ويعطيه جرعة عالية من علاج قاتل للألم الذي يوقف تنفسه.

2- مريض في حالة إغماء لفترة طويلة مثلا بعد إصابته بالتهاب السحايا أو بإصابة شديدة في رأسه، ومن الممكن أن يبقى حيًّا باستعمال منفِّسة (جهاز إنعاش)، ويعتقد الطبيب بعدم وجود أي أمل بشفائه، والمنفِّسة تضخّ الهواء للرئتين، وتديم تنفسه “أوتوماتيكيا”. فإذا ما أوقف المنفسة فلن يتمكن المريض من إدامة تنفسه، فمن الممكن إبقاء هذا المريض حيًّا بواسطة هذه المنفسة الصناعية التي تديم فعالياته الحيوية، ولكن لكل الاعتبارات الأخرى يعتبر مثل هذا المريض “ميتًا” وغير قادر على السيطرة على وظائفه وإيقاف هذه المنفسة يعتبر تيسيرًا فعالاً للموت.

تيسير الموت المنفعل:

هنا لا تتخذ خطوات فعالة لإنهاء حياة المريض بل يترك للمرض أن يأخذ أدواره بدون إعطاء المريض أي علاج لإطالة حياته.

أمثلة:

1- مريض نهائي بالسرطان أو الإغماء من إصابة بالرأس أو التهاب سحائي ولا يرجى شفاؤه منه، ومصاب بالتهاب الرئة التي إن لم تعالج -وهي ممكنة العلاج- يمكن أن تقتل المريض، وإيقاف العلاج من الممكن أن يعجل بموت المريض.

2- طفل مشوه تشويها شديدًا بتصلب أشرم -شوكة مشقوقة- أو بشلل مخي، يمكن أن يترك من دون علاج إذا أصيب بالتهاب الرئتين أو بالتهاب السحايا، ويمكن أن يموت الطفل من هذه الالتهابات.

والتصلب الأشرم -الشوكة المشقوقة- هي حالة غير طبيعية للعمود الفقري تؤدي إلى شلل الساقين وفقدان السيطرة على المثانة والأمعاء الغليظة، والطفل المريض بهذا الداء يكون مشلولا يحتاج إلى عناية خاصة طيلة حياته.

أما الشلل المخي فهو حالة تلف في المخ خلال الولادة تسبب تخلفًا عقليًّا وشللا في الأطراف بدرجات متفاوتة، ومثل هذا الطفل يكون مشلولا جسميًا وعقليًّا، ويحتاج لعناية خاصة طيلة حياته.

في الأمثلة السابقة “إيقاف العلاج” نوع من أنواع تيسير الموت المنفعل، وبصورة عامة لا يعيش هؤلاء الأطفال عمرًا طويلا، وإيقاف العلاج وتيسير الموت المنفعل يمنع إطالة معاناة الطفل المريض أو والديه.

الأسئلة:

1- هل تيسير الموت الفعال مسموح به في الإسلام؟

2- هل تيسير الموت المنفعل مسموح به في الإسلام؟

وقد أجاب فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي بما يلي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

تيسير الموت الفعال:

1- تيسير الموت الفعال في المثال رقم 1 لا يجوز شرعا؛ لأن فيه عملا إيجابيًا من الطبيب بقصد قتل المريض، والتعجيل بموته بإعطائه تلك الجرعة العالية من الدواء المتسبب في الموت؛ فهو قتل على أي حال. سواء كان بهذه الوسيلة أم بإعطاء مادة سمية سريعة التأثير، أم بصعقة كهربائية، أم بآلة حادة.. كله قتل، وهو محرم، بل هو من الكبائر الموبقة. ولا يزيل عنه صفة القتل أن دافعه هو الرحمة بالمريض، وتخفيف المعاناة عنه. فليس الطبيب أرحم به ممن خلقه. وليترك أمره إلى الله تعالى، فهو الذي وهب الحياة للإنسان وهو الذي يسلبها في أجلها المسمى عنده.

2- أما المثال رقم 2 من أمثلة تيسير الموت الفعال، فنؤخر الحديث عنه بعد الحديث عن تيسير الموت المنفعل.

تيسير الموت المنفعل (بإيقاف العلاج):

وأما تيسير الموت “بالطرق المنفعلة” كما في السؤال. فإنها تدور كلها سواء في المثال “1” أم “2” على “إيقاف العلاج” عن المريض، والامتناع عن إعطائه الدواء الذي يوقن الطبيب أنه لا جدوى منه، ولا رجاء فيه للمريض، وفق سنن الله تعالى، وقانون الأسباب والمسببات.

ومن المعروف لدى علماء الشرع: أن العلاج أو التداوي من الأمراض ليس بواجب عند جماهير الفقهاء، وأئمة المذاهب. بل هو في دائرة المباح عندهم. وإنما أوجبه طائفة قليلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260ط. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة) وبعضهم استحبه.
بل قد تنازع العلماء أيهما أفضل: التداوي أم الصبر؟ فمنهم من قال الصبر أفضل؛ لحديث ابن عباس في الصحيح عن الجارية التي كانت تصرع (يصيبها الصرع)، وسألت النبي -- أن يدعو لها، فقال: “إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك”، فقالت: بل أصبر، ولكني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف (متفق عليه. رواه البخاري في كتاب المرضى، ومسلم في البر والصلة 2265).

ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض؛ كأبي بن كعب، وأبي ذر -رضي الله عنهما- ومع هذا فلم ينكر عليهما ترك التداوي (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260ط. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة).

وقد عقد الإمام أبو حامد الغزالي في “كتاب التوكل” من “الإحياء” بابًا في الرد على من قال ترك التداوي أفضل بكل حال (انظر: إحياء علوم الدين 4/290 وما بعدها).

هذا هو رأي فقهاء الأمة في العلاج أو التداوي للمريض. فأكثرهم يجعلونه من قسم المباح، وأقلهم يجعلونه من المستحب، والأقل منهم يجعلونه واجبًا. وأنا مع الذين يوجبونه في حالة ما إذا كان الألم شديدًا، والدواء ناجحًا، والشفاء مرجوًا منه وفق سنة الله تعالى.

وهو الموافق لهَدْي النبي -- الذي تداوى وأمر أصحابه بالتداوي، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في هديه -- في “زاد المعاد” (انظر: الجزء الثالث، طـ. الرسالة ببيروت). وأدنى ما يدل عليه ذلك هو السنية والاستحباب.

ومن هنا يكون العلاج أو التداوي، حيث يرجى للمريض الشفاء مستحبًا أو واجبًا، أما إذا لم يكن يرجى له الشفاء وفق سنن الله في الأسباب والمسببات التي يعرفها أهلها وخبراؤها من أرباب الطب والاختصاص.. فلا يقول أحد باستحباب ذلك فضلا عن وجوبه.

وإذا كان تعريض المريض للعلاج بأي صورة كانت -شربًا أو حقنًا أو تغذية بالجلوكوز ونحوه، أو توصيلا بأجهزة التنفس والإنعاش الصناعي، أو غير ذلك مما وصل إليه الطب الحديث، ومما قد يصل إليه بعد- يطيل عليه مدة المرض ويُبقي عليه الآلام زمنا أطول؛ فمن باب أولى ألا يكون ذلك واجبًا ولا مستحبًا، بل لعل عكسه هو الواجب أو المستحب.

فهذا النوع من تيسير الموت -إن صحت التسمية- ينبغي ألا يدخل في مسمى “قتل الرحمة“؛ لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب، إنما هو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، حتى يكون مؤاخذًا على تركه.

وهو إذن أمر جائز ومشروع إن لم يكن مطلوبًا، وللطبيب أن يمارسه؛ طلبًا لراحة المريض وراحة أهله. ولا حرج عليه إن شاء الله.

تيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش:

بقي الجواب عن المثال الثاني في النوع الأول الذي اعتبره السؤال من تيسير الموت بالطرق الفعالة لا المنفعلة. وهو يقوم على إيقاف المنفسة الصناعية أو ما يسمونه “أجهزة الإنعاش الصناعي” عن المريض، الذي يعتبر في نظر الطب “ميتًا” أو “في حكم الميت”؛ وذلك لتلف جذع الدماغ، أو المخ، الذي به يحيا الإنسـان ويحس ويشعر.

وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج فلا يخرج عن كونه تركًا للتداوي، شأنه شأن الحالات الأخرى التي سماها “الطرق المنفعلة”.

ومن أجل ذلك أرى إخراج هذه الحالة وأمثالها عن دائرة النوع الأول “تيسير الموت بالطرق الفعالة” وإدخالها في النوع الآخر.

وبناء على ذلك يكون هذا أمرًا مشروعًا ولا حرج فيه أيضًا، وبخاصة أن هذه الأجهزة تبقي على هذه الحياة الظاهرية -المتمثلة في التنفس والدورة الدموية- وإن كان المريض ميتًا بالفعل؛ فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر؛ نظرًا لتلف مصدر ذلك كله وهو المخ.

وبقاء المريض على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل، ويحجز أجهزة يحتاج إليها غيره ممن يجدي معه العلاج، وهو -وإن كان لا يحس- فإن أهله وذويه يظلون في قلق وألم ما دام على هذه الحالة التي قد تطول إلى عشر سنوات أو أكثر!

وقد ذكرت هذا الرأي منذ سنوات أمام جمع من الفقهاء والأطباء في أحد اجتماعات الندوة التي تقيمها بين الحين والحين “المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية” بالكويت، فلقي قبول الحاضرين من أهل الفقه وأهل الطب.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

والله أعلم.

فتوى المجمع الفقهي

وحول رفع أجهزة الإنعاش الاصطناعي عن المريض المتوفى دماغيًّا صدرت فتاوى عن المجامع الفقهية، منها: الفتوى الصادرة من المجلس الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة في 24/2/1408هـ، ومفادها:

أن المجلس قد نظر في موضوع تقرير حصول الوفاة بالعلامات الطبية القاطعة، وفي جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الموضوعة عليه في حالة العناية المركزة، واستعرض المجلس الآراء والبيانات الطبية المقدمة شفهيا وخطيا من وزارة الصحة في المملكة العربيةالسعودية، ومن الأطباء الاختصاصيين، واطلع المجلس كذلك على قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في مدينة عمان العاصمة الأردنية رقم (5) في3/7/1986م، وبعد المداولة في هذا الموضوع من جميع جوانبه وملابساته انتهى المجلس إلى القرار التالي:

“المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه نهائيا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليا بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعاً إلا إذا توقف التنفس والقلب توقفاً تاماً بعد رفع هذه الأجهزة” أ.هـ.

وكان المؤتمر الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر قراره رقم 17(5/3) ومفاده: “أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة الأردن من 8-13 صفر 1407هـ /11-16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986م، بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.. قرر ما يلي: يعد شرعا أن الشخص قد مات، وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:

1-إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما، وحكم الأطباء بأن هذه التوقف لا رجعة فيه.
2-إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.

وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل آليًّا بفعل الأجهزة المركبة. أ.هـ.

والفارق بين القرارين السابقين -كما يلاحظ- أن القرار الأول لا يحكم بموت المريض حتى يتوقف قلبه وتنفسه نهائيًّا بعد رفع الأجهزة، بينما يرى القرار الثاني أن يعد المريض ميتاً شرعاً بتعطل جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا حتى وإن كان قلبه ينبض بفعل أجهزة الإنعاش.

والله أعلم.

وخلاصة القول:

فإن قتل الرحمة كما ذكرنا أمر وافد على علم الطب والأطباء، ساعد انتشاره في الأمم الغربية عوامل مختلفة من اجتماعية واقتصادية وتفكك الروابط الإنسانية والأسرية، ويتجه كثير من البلدان الغربية المعاصرة إلى تقنينه تحت مسمياته المختلفة.

وبحمد الله لم نسمع إلى اليوم عن ممارسة هذا النوع من القتل في عالمنا الإسلامي، ولكن يخشى أن تتطور القوانين المدنية وتتأثر بما هو جار في عالم اليوم؛ فعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من قوانين العقوبات في البلاد العربية لا تأخذ بفكرة تخفيف العقوبة في حال قتل الرحمة..فإن ذلك لا يمنع من تطبيق فكرة “الظروف المخففة” المعروفة في ميدان القوانين الجنائية، وهي في الواقع تؤدي إلى تخفيف العقوبة إذا اقتضت الجريمة المقامة من أجلها الدعوة العمومية رأفة القضاة.

ومن ناحية النصوص تأخذ قوانين العقوبات في كل من السودان وسوريا ولبنان بفكرة تخفيف العقوبة في حالة القتل بناء على رضا المجني عليه (المادة 249 / الفقرة الخامسة من قانون العقوبات السوداني)، وفي حالة القتل بعامل الإشفاق بناء على إلحاح المجني عليه (المادة 538 من قانون العقوبات السوري) و(المادة 552 من قانون العقوبات اللبناني).

وأرى أن يصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فتواه التي تتضمن ما يلي:

1- تعريف قتل الرحمة اللغوي والطبي.

2- التعرض لذكر أنواعه المختلفة وتعريفها.

3- تحريم قتل الرحمة الفعال المباشر وغير المباشر.

4- تحريم الانتحار الذاتي أو المساعدة عليه بأي وسيلة كانت.

5- تعريف الموت وأماراته.

6- إباحة تيسير الموت غير الفعال بشروطه، وعدم استعمال تعبير القتل في هذه الحالة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين