هناك من يتعامل مع الصراصير على أنها  من عالم الحشرات مُسلِّية ورقيقة، وهؤلاء من أمثال اليابانيين والإيطاليين يرعونها ويحتفظون بها في أقفاص صغيرة لصحبتهم في حجرة نومهم لتؤنس وحدتهم، وهناك أمثالنا الذين لا يألون جهدًا في اللهث وراءها جريًا حتى الموت.

وفي بلاد الإغريق القديمة، كانت حشرة السيكادا Cicadas مقدَّسة، ووضعت هي الأخرى في أقفاص كرمز للموسيقى الراقية.

فما الذين جعل لهذه الحشرات تلك المكانة في قلوب هؤلاء؟

السر يكمن في “غنائها”، والأصوات التي تصدرها مثل هذه الحشرات، نعم هذه هي الحقيقة وبكل أسف.

سلوكيات معقدة

والحشرات – أكثر المخلوقات على وجه الأرض – التي لها سلوك معقد، يتحكم فيه الجهاز العصبي المركزي CNS، وتتبع من خلاله نظام ثابت في تفاعلها مع العالم الخارجي من حولها، ومع أعضاء فصيلتها، وهي تضطر إلى التصرف في مئات المواقف اليومية كالدفاع عن النفس، والبحث عن طعام أو عن شريك الحياة المناسب… وغيرها من المواقف، ولها في ذلك بكل تأكيد طرق متنوعة في التعبير عن أغراضها وعن ردود أفعالها.

واحدة من تلك الطرق الشهيرة هي إصدار أصوات معينة بدرجات محددة لتوصيل أو استقبال الرسائل.

إذن فإصدار الحشرات لتلك النغمات إنما يكون لتحقيق هدف بعينه، وعادة ما يدخل في سلوك التزاوج أو الدفاع عن النفس.

فقد تصدر الحشرات أصواتًا مخيفة لأعدائها في محاولة منها لإخافتهم.. أو تطلق صيحات إنذار للمستعمرات التي تفكر في غزو مكان عيشها، بل وتستدعي بالصوت أيضًا بقية أبناء العشيرة ليجتمعوا صفًّا واحدًا أمام العدو.

وفي موسم التزاوج.. حين تقوم بعض الحشرات برقصات أو حركات محدّدة لجذب الشريك الآخر يفضل آخرون إطلاق نغمات ينادي بها على شريك حياته.. يحدد بها موقعه ومكانه، حتى إن قوة الصوت في حد ذاتها تحدد مفهوم الرسالة المراد توصيلها.

والآن.. وبعد هذه المقدمة الطريفة، نتجول قليلاً في بعض النغمات التي تصدرها الحشرات حتى نعلم مضمون الرسالة المراد توصيلها وكيف تقوم بـ “تلحينها”.

صوت الصرصرة

تقوم حشرة السيكادا Cicadas بهذا الصوت عن طريق الطرق على غشاء مشدود taut membrane، ولذكورها وإناثها أذن خاصة تُسمّى طبلتها بـ Tympana لتميز كل منها أغنية الآخر.

وقد تقوم أنواع أخرى من الحشرات بإخراج صوت الصرصرة عن طريق كحت الأجسام ضد بعضها البعض أو احتكاك جزأين صلبين في جسم الحشرة ذاتها، كما يحدث في صراصير الغيط.

ويفسر الدكتور “كارم السيد” الأستاذ بكلية العلوم بجامعة الأزهر المصرية هذا النوع من الاحتكاك على أنه يتكون من جزأين: أحدهما على شكل نتوء يُسمّى المبرد ويعمل كسطح احتكاك، والآخر عبارة عن حلقة من حلقات الجسم أو جناح من الأجنحة يُسمّى بالمحكاك، وعند احتكاك الاثنين معًا يحدث صوت الصرصرة.. وتتوقف طبقة الصوت على حجم الفراغ الواقع بين نتوءات المبرد وبعضها.. وعلى سرعة الاحتكاك ذاته. وحينما تقوم الحشرات بهذا الصوت بصورة متتالية وسرعة عالية في وقت محدد يسمى نغمها بالأغنية.

يقوم بصوت الصرصرة أيضًا.. الجراد المعروف والقنوط والجنادب والنطاطات… وغيرها، ويختلف موقع جزأَي الاحتكاك من حشرة لأخرى.. فيقوم النطاط بحك السطح الداخلي لكل من الفخذين الخلفيين ضد عرق معين بالجناح الأمامي، ويحتوى كل جناح من الجناحين الأماميين لصراصير الغيط على مبرد ومحكاك، يحدث الصوت باحتكاكهما عكسيًّا.

أما يرقات الخنافس Passalidae فلها عضو متخصص في صوت الصرصرة، ويقع في الزوج الثالث من الأرجل، ومن العجيب أن درجة حرارة الجو لها تأثير كبير على سرعة الصرصرة، وهي تزداد كلما ارتفعت درجة الحرارة.

صوت النقر والقرع

تمتلك بعض الحشرات هيكلاً خارجيًّا يعمل على تدعيم الاتصالات العضلية في الجسم ويحمي المحتويات الداخلية الرقيقة، وهذا الهيكل يتجدد تباعًا في مراحل معينة من حياة الحشرة، وهو مع صلابته يتمتع بمرونة عالية لتسهيل حركة الحشرة، يبلغ أكبر قوة له في الخنافس من رتبة الحشرات غمدية الأجنحة Coleoptera.

هذا الهيكل له وظيفة أخرى حيوية وهامة ألا وهي إحداث ضربات مميزة في جسم صلب من حوله ليصدر صوت النقر أو القرع، فتقوم خنافس الخشب Anobium بإحداث هذا الصوت عن طريق ضرب رؤوسها بأرض الأنفاق المحفورة في الخشب، ويحدث ذلك في موسم التزاوج بشهري إبريل ومايو.

أما عساكر النمل الأبيض من رتبة الحشرات متساوية الأجنحة Isoptera فتقوم بقرع يشبه الطبول بفكوكها في حالة حدوث أي خطر محدق بها، وقد يصل إلى عشرة دقات/ثانية، أما إناث قمل الكتب من رتبة Psocoptera فتدق السطح الذي تعيش عليه بواسطة نتوءات موجودة على السطح السُّفلي لحلقات البطن الخلفية بغرض الإعلان عن التزاوج.

الأزيز

بعض الحشرات تقوم بهزّ أجنحتها بقوة في أثناء الطيران، وهذا التذبذب يتسبب في تذبذب الحلقات الصدرية، فينشأ الصوت نتيجة لهذا الاهتزاز والذي يفوق في قوته حركة الأجنحة ذاتها؛ ولذلك كان الاسم أزيزًا والذي يعبّر عن الحركة الشديدة.

يقوم الذباب الأزرق من رتبة الحشرات ثنائية الأجنحة Diptera بذبذبة حلقات الصدر نتيجة لاحتكاكها بقواعد الأجنحة عند الطيران، وفي بعض أنواع الجراد يعتقد أن صوتًا رخيمًا ينتج عن ارتطام الأجنحة بسطح الجسم.

قد يصل تذبذب الأجنحة إلى 1100 ضربة/ ثانية في أقصى سرعة لها، ومن أشهر الحشرات التي تقوم بالأزيز البعوض والذباب، حيث تقوم ذكور البعوض بضرب الأجنحة بسرعة مميزة لتنادي بها على الإناث والتي تستقبل صوت الذكور بقرون استشعارها التي تشبه الريش، ويستطع الذباب أن يصدر نغمته حتى وإن كان في وضع خمول؛ وذلك بسبب تذبذب حلقات الصدر أو اهتزاز أعضاء التوازن وهي عبارة عن الزوج الخلفي من الأجنحة.

الفرقعة

لعلك سمعت وأنت صغير صوت حشرة “فرقع لوز” والتي كانت تصدر صوتًا غريبًا قد يكون مخيفًا للبعض منا.

حشرة فرقع لوز Click Beetle أحد أنواع الخنافس من رتبة الحشرات غمدية الأجنحة، وهي تقوم بالدفاع عن نفسها من أي عدو خارجي عن طريق التظاهر بالموت، فهي تسقط على الأرض كما لو كانت في حالة إغماء وتظل لعدة ثواني مستلقية على ظهرها بلا حراك، وفجأة تثب وثبة سريعة عالية في الهواء في محاولة للابتعاد عن مكان الخطر، محدثة صوتًا مميزًا يُسمّى بالفرقعة. ويقول علماء الحشرات: إن مكمن هذا الصوت يأتي من شوكة أسفل الحلقة الصدرية الثانية والتي تظل ساكنة في تجويفها حينما تكون الحشرة في وضع سكون، وفي أثناء وثبة فرقع لوز تسحب الشوكة من تجويفها فتسبب بذلك ارتطام الجناحين الأماميين للجسم لسطح الأرض، يساعدها هذا الارتطام على حركتها السريعة الرشيقة.

وهكذا كانت هذه جولة خاطفة في عالم الحشرات الغريب وأنغامه التي لا تنتهي، حتى إن بعضها قد يحدث ترددات في المدى فوق المسموع ultra sonic wave ، وإصدار أصوات فوق مستوى السمع البشري بمقدار 100,00 ذبذبة/ ثانية.

عالم حقيقي من العجائب، يلفت أنظارنا إلى نوع آخر من السياحة في بلادنا، وهو نوع يدعو المولعين بغناء الحشرات إلى الانضمام إلينا، والاستماع إلى بعض أنغامها في حقولنا وبيوتنا.

نهى سلامة