بدأت كتابة التاريخ المصري القديم مع ازدهار عمليات البحث والكشف عن الآثار المصرية، وجاءت الخطوة الأولى مع حملة نابليون على مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ إذ صحب حملته طائفة من العلماء درسوا مصر دراسة علمية شاملة، ووضعوا خلاصة دراساتهم، ونتائج بحوثهم في كتاب علمي ضخم هو كتاب “وصف مصر”، الذي نُشر في باريس في الفترة ما بين عامي (1224: 1809م) و(1228: 1813م)، ويعد ما جاء في هذا العمل الكبير عن آثار مصر وما تضمّنه من رسوم وخرائط وصور بداية الأعمال العلمية التي تستهدف دراسة مصر القديمة دراسة علمية منظمة.

وتأتي الخطوة الثانية مع اكتشاف حجر رشيد الذي عثر عليه أحد رجال الحملة الفرنسية سنة (1214 هـ= 1799م)، وما إن نجح العالم الفرنسي “شامبليون” في الكشف عن أصول الكتابة واللغة المصرية القديمة حتى أسرع العلماء في قراءة الوثائق المصرية القديمة، وبدأ الغموض الذي كان يحيط بحياة المصريين القدماء ينقشع وتزداد صورتهم وضوحًا، ويتجلى تاريخهم وحضارتهم.

وكان لاكتشاف أصول اللغة المصرية أثره في اهتمام الجامعات والمؤسسات العلمية بالآثار المصرية، وبدأت مرحلة الكشف عن الآثار وفتح المقابر، وجمع أوراق البردي، على يد مجموعة من العلماء الذين شغفوا بالبحث والتنقيب، والتسجيل وترجمة الكتابات المصرية القديمة.

وكان من بين علماء الجيل الأول العالم الألماني “هنري بروكش” (1243 هـ – 1312هـ = 1827 – 1894)، وهو يعد من رواد اللغة الهيروغليفية، وله بحوث جيدة في تاريخ مصر وجغرافيتها القديمة، وأنشأ مدرسة للدراسات الأثرية بالقاهرة سنة (1286هـ= 1869م)، وكان من بين طلبتها أحمد كمال باشا، أول مؤرخ عربي يكتب في تاريخ مصر وحضارتها القديمة كتابة علمية سليمة، وله الفضل في إقناع “أحمد حشمت باشا”، وزير المعارف بإنشاء فرقة لدراسة علم الآثار المصرية بمدرسة المعلمين الخديوية، فأنشئت أول فرقة، التحق بها عدد من الطلاب صاروا بعد ذلك من كبار علماء التاريخ والآثار، نذكر منهم: أحمد عبد الوهاب باشا، وسليم حسن، ومحمود حمزة، ومحمد شفيق غربال.

المولد والنشأة

وُلد سليم حسن بقرية ميت ناجي التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية في (11 من رجب 1303 هـ = 15 من إبريل 1886م)، وتُوفي والده وهو صغير، فعُنيت به والدته وأحسنت تربيته وتعليمه، وبعد أن أتم دراسته الابتدائية والثانوية التحق بمدرسة المعلمين الخديوية، وانضم إلى الفرقة التي تدرس علم الآثار التي أشرنا إليها من قبل.

وبعد أن أتم دراسته سنة (1331هـ= 1912م) حاول أن يلتحق بالمتحف المصري بمسعى من أحمد كمال باشا، لكنه لم يُوفَّق، فعمل مدرسًا للتاريخ واللغة الإنجليزية بالمدرسة الناصرية بالقاهرة، ثم نُقل إلى مدرسة طنطا الثانوية، ومنها إلى أسيوط، ثم نُقل إلى القاهرة مدرسًا في المدرسة الخديوية الثانوية.

نشاطه العلمي المبكر

كان سليم حسن في أثناء انشغاله بالتدريس وافر النشاط، عالي الهمة، جاد النزعة، وحسبك أن تعلم أنه اشترك في وضع الكتب التاريخية التي كانت مقررة على طلبة المدارس، وهو في السن الغضة؛ فألّف تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر، وتاريخ أوروبا الحديثة وحضارتها، وشاركه في التأليف “عمر السكندري”، وترجم تاريخ دولة المماليك في مصر بالاشتراك مع “محمود عابدين”، وصفحة من تاريخ “محمد علي” بالاشتراك مع “طه السباعي”.

الالتحاق بالمتحف المصري

تعددت محاولات سليم حسن للعمل بمصلحة الآثار التي كان يُسيطر عليها الأجانب، لكن محاولاته لم يُكتب لها النجاح، حتى إذا أقبلت ثورة 1919م التي أججت الشعور الوطني، وأشعلت الحماس في النفوس ـ تغير الوضع، وأصبح الوزراء المصريون بعدها أكثر استقلالاً، وأوسع نفوذًا، فلاحت الفرصة لسليم حسن التي طال انتطارها لها، إذ انتهز “أحمد شفيق باشا” وزير الأشغال فرصة تعيين أمينين فرنسيين بالمتحف المصري، وأصر على تعيين أمينين مصريين مساعدين لهما، فالتحق سليم حسن بالمتحف أمينًا مساعدًا سنة (1340هـ= 1921م).

وفي أثناء عمله بالمتحف سافر إلى باريس على نفقته الخاصة إلى باريس سنة (1341هـ= 1922م) لحضور الاحتفال بمرور مائة عامة على فك شامبليون لرموز اللغة الهيروغليفية، وتمكّن من زيارة عدة متاحف أوروبية، وبعد عودته كتب عدة مقالات في جريدة الأهرام تحت عنوان: “الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية” كشف فيها عن أسرار سرقة الآثار المصرية، ودور الأثريين الأجانب في ذلك، الأمر الذي جعل المشرفين على الآثار يحنقون عليه.

البعثة إلى الخارج

أثار اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سنة (1341هـ= 1922م) دهشة الناس في العالم وإعجابهم بالحضارة المصرية القديمة، وولدت في المصريين الاعتزاز بتراثهم المجيد، فتداعت الأصوات إلى إرسال بعض المصريين لدراسة علم الآثار المصرية الخارج، فسافر سليم حسن إلى باريس، والتحق بجامعتها، وحصل على دبلوم في اللغة الشرقية، وثان في تاريخ الديانات، وثالث في اللغات الشرقية، ثم عاد إلى مصر في سنة (1346هـ= 1927م)، وعين سليم حسن مرة أخرى في المتحف المصري، وأقنعه المسئولون أن مكانه هو المكتبة وأن عمله الأساسي هو ترجمة دليل المتحف، وكان ذلك يعني تجميدًا لنشاطه، لكن هذا لم يدم طويلاً، فاستدعته كلية الآداب بالجامعة المصرية للتدريس بها، وترقى في المناصب العلمية إلى أن بلغ درجة الأستاذية مع الإشراف على حفائر الجامعة بمنطقة أهرامات الجيزة.

ولم تحل أعباء التدريس وأعمال الحفر والتنقيب دون مواصلة للدراسة والبحث، فوضع بحثًا قيما نال عليه درجة الدكتوراه من جامعة فيينا، سنة (1354هـ= 1935م)

العودة إلى مصلحة الآثار

في عام (1355هـ= 1926م) عين سليم حسن وكيلاً لمصلحة الآثار المصرية، فكان أول مصري يتولى هذا المنصب، الذي كان مقصورًا على العلماء الأجانب فأثار حفيظة بهم، ويذكر له أنه استرجع إلى المتحف المصري مجموعة من القطع الأثرية كانت في حوزة الملك فؤاد، فلما حاول ابنه الملك فاروق أن يستعيدها باعتبارها من الممتلكات الخاصة لأبيه، رفض سليم حسن إعادتها، ولم تطل إقامة سليم حسن في منصبه،وتعرض لمضايقات كثيرة، نجحت في إجباره على ترك العمل بمصلحة الآثار سنة (1359هـ= 1940).

اكتشافاته وحفائره

أحصت الدكتورة ضياء أبو غازي جهود سليم حسن في عمليات الحفر والتنقيب التي استمرت عشر سنوات (1348هـ= 1358هـ / 1929 = 1939م) ونشرت قائمة بها في حوليات مصلحة الآثار سنة( 1384هـ= 1964م) فبلغت 171 عملا، وذكرت نبذا عنها، وكانت حفائره في منطقة الأهرامات بالجيزة من أهم ما قام به من أعمال؛ إذ كشفت عن عدد كبير من مقابر الدولة القديمة، وتعد مقبرة (رع ور التي كشفها جنوبي منطقة “أبو الهول” من أكبر المقابر، وتكاد تضارع مقابر الملوك من حيث ضخامتها وكثرة التماثيل بها).

كما كشف مقبرة الملكة (خنكاوس) آخر ملوك الأسرة الخامسة، وحلقة الوصل بين تلك الأسرة والأسرة السادسة، وصممت المقبرة على هيئة تابوت أقيم فوق صخرة كبيرة، وأطلق سليم حسن على هذه المقبرة الهرم الرابع.

وكانت حفائر سليم حسن في منطقة أبي الهول من أهم أعماله التي كشفت عن أسرار “أبو الهول” وما يحيط به من غموض وإيهام، وامتد نشاطه إلى منطقة سقارة ومنطقة النوبة.

التفرغ للتأليف

بعد أن ترك سليم حسن العمل الحكومي تفرغ للدراسة والتأليف، وعكف على وضع مؤلفاته التي لا تزال محل إعجاب وتقدير، على الرغم من استمرار الاكتشافات الأثرية التي قد تؤدي إلى تصويب أو تخطئة ما كان مستقرًا من قبل من معلومات أثرية في المؤلفات التاريخية وأهم مؤلفاته قاطبة هو كتابة “مصر القديمة” الذي أخرجه في ستة عشر جزءًا، وبدأ في نشره سنة (1359هـ= 1940م) وأصدر الجزء السادس عشر سنة (1380هـ= 1960م) متناولاً تاريخ مصر وحضارتها من عصر ما قبل التاريخ، ومرورًا بالدولة القديمة والوسطي والرعامسة والعهد الفارسي، وانتهاء بأواخر العصر البطلمي، وكان قد شرع في كتابة الجزء السابع عشر عن (كليوباترا) لكن حال موته دون إصداره”.

وهذه الموسوعة تغني القارئ عن عشرات الكتب والمراجع التي تتناول تاريخ مصر في هذه الفترة الطويلة، وتعد فريدة في بابها، فلم يسبق أن تناول عالم واحد كل هذه الفترة في مؤلف له.

وله إلى جانب ذلك(الأدب المصري القديم) الذي نشره سنة (1365هـ= 1945م) في مجلدين، تناول فيهما الأدب في مصر القديمة، وكتب فصلا كبيرًا عن الحياة الدينية وأثرها على المجتمع في المجلد الأول من تاريخ الحضارة المصرية الذي أخرجته وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

وأسهم في ميدان الترجمة فنقل إلى العربية كتاب “ديانة قدماء المصرين” للعالم الألماني” شتيدورف” سنة (1342هـ= 1923م) وكتاب فجر الضمير للمؤرخ الأمريكي جيمس عهنري بريستد سنة ( 1376هـ= 1956م).

أما عن مؤلفاته التي كتبها بغير العربية فقد بلغت ثلاثة وثلاثين مؤلفًا وضمت كتبًا علمية ككتابه عن “أبو الهول” وكتابه عن “الأناشيد الدينية للدولة الوسطى) بالإضافة إلى بحوثه ومقالاته في حوليات مصلحة الآثار والمجلات الأثرية الأجنبية، وتقارير حفائر في الجيزة وسقارة والنوبة.

وفاة سليم حسن

ظل سليم حسن يعمل بعزيمة لا تلين حتى وهو في شيخوخته منصرفًا إلى كتبه وبحوثه، ونفي بعيدًا عن العمل الحكومي، عدا فترات قليلة كانت الحكومة تلجأ إليه حين تشتد الحاجة ويطلب الرأي فلا يكون هناك أصدق حديثًا منه في هذه الموضع، من ذلك أنه ترأس البعثة المصرية التي زارت منطقة النوبة سنة (1375هـ= 1955م) لكتابة تقرير عن وسائل إنقاذ معابد المنطقة وآثارها قبل أن تغمرها مياه السد العالي، كما أشرف على حفائر مصلحة الآثار في النوبة سنة (1378هـ= 1958م) وعلى عملية جرد المتحف المصري سنة (1379هـ= 1959م).

وفي (29 من ربيع الآخر 1381هـ= 29 من سبتمبر 1961م) انتقل سليم حسن إلى لقاء ربه، وهو في الخامسة والسبعين من عمره.

أحمد تمام


من مصادر الدراسة

  • محمد جمال مختار ـ سليم حسن كمنقب وعالم آثار ـ المجلة التاريخية المصرية ـ المجلد التاسع عشر ـ 1972م.
  • مختار السويقي ـ مقدمته لكتاب مصر القديمة ـ مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 2001م.
  • أنور الجندي ـ أعلام وأقلام ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ بدون تاريخ حير الدين الزركلي ـ الأعلام ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ 1986م.