إن التحولات التي تشهدها المنطقة العربية ليست منفصلة عن التحولات التي تصيب النظام العالمي، والتي نجم عنها تحدّيات بشرية مشتركة (صحية، تكنولوجية، بيئية، وأمنية) تتطلب استجابة أُممية عاجلة منعاً لإندثار بعض الثقافات، والأقليات، وتجنباً لزوال بعض الدول عن الخارطة السياسية.. بدورها هذه التحديات ليست وليدة اللحظة، فهي عبارة عن ترسبّات تاريخية لقرون خلت منها ما عُرف بالقرون المُظلمة ومنها ما اشتهر بالنهضة.

وما بين تلك القرون أسئلة محورية لو استطعنا الإجابة عليها لتمكنّا من فهم طبيعة التحوّلات في النظام العالمي، وبالتالي تلمّس معالم الطريق الذي تسير فيه المنطقة العربية اليوم، واستشراف مستقبل المُسلمين، وذلك بالإستناد إلى فلسفة التاريخ واستخلاص القواعد المشتركة بين الوقائع التاريخية والقاسم المشترك بين جميع الحضارات وكيفية تحوّل الأُمم من واقعٍ إلى آخر.

لقد خصص عُلماء الغرب لعِلم فلسفة التاريخ أولوية وأهمية قصوى، ووضعوا له معايير ومقاييس لدراسة تاريخ الأفراد وتاريخ الحضارات معاً، منطلقين من قناعة مفادها وجود علاقة دائمة وقوّية بين الطريقة التي فكّر بها الأفراد من الماضي والطريقة التي نُفكّر فيها بالحاضر، معتبرين أن المصير مشترك بين الماضي والحاضر والمُستقبل، وأن الحراك داخل المجتمعات مُتشابه: قبل وقوع الأحداث، لحظة وقوعها، وبعد وقوعها. وذلك في حال توفرت العوامل نفسها والظروف المحيطة المُشابهة.

قد يظنّ البعض أنه حينما نتحدّث عن فلسفة التاريخ، فإننا نقصد في ذلك، المعارك والحروب والأنظمة والمعاهدات، أو أن محور الحديث سيكون الشخصيات التي دخلت التاريخ من باب المؤرخين. لكن فلسفة التاريخ ليست كذلك. فهي لا تقتصر على الجوانب العسكرية والسياسية والقيادية، وإنّما على التأمل بالأخلاقيات والمفاهيم والمفردات التي واكبت مسار وحركة التاريخ والأحداث.

أبسط تعاريف “فلسفة التاريخ” تقول أنها محاولة معرفة العوامل الأساسية التي تتحكم في سير الوقائع التاريخية، والعمل على استنباط القوانين التي تتطور بموجبها الأمم على مر الأزمنة.

وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو العلامة ابن خلدون في القرن الرابع عشر في مقدمته الشهيرة، ووضع فيها القواعد التأسيسية لفهم التاريخ من خلال النظر في صحة المنقول وربط الأحداث ببعضها وتعليلها، ومن ثم جاء بعده فولتير في القرن الثامن عشر ورأى وجوب دراسة التاريخ من خلال الفلسفة، وأن تتنقل إلى ما هو أوسع من التاريخ السياسي والعسكري بعقلية ناقدة شاملة لكل مظاهر الحضارة.

إذا كان الهدف من العلوم الطبيعية تسخير القوانين الطبيعية لخدمة الإنسان في الطبّ، والفيزياء، والكيمياء، فإن الهدف من فلسفة التاريخ هو فتح بصيرة الإنسان على منهجية تُمكنّه من فهم الأحداث الحاضرة وتصوّر السيناريوهات المستقبلية على ضوء الماضي.. وفي هذا يصحّ قول عالم الانثروبولوجيا (إدوارد إيفان ايفانز- بريتشارد):” التاريخ ليس سلسلة من الأحداث..وإنما الرابط بينهما”.