كانت مدرسة دار العلوم نبتة طيبة، زرعها رجل نابه هو “علي باشا مبارك”، فاستحالت هذه النبتة المباركة في سنوات معدودة إلى شجرة سامقة، كثيرة الفروع والأغصان، طيبة الثمار، وقد امتد ظلها الظليل ليشمل مصر والعالم العربي بما أمدتهما من أساتذة للغة العربية، يقومون بتدريسها في المدارس والمعاهد، ويندر أن تجد أحدًا لم ينتفع بأحد خريجي هذا المعهد العتيد (دار العلوم)، أو يدرس على يديه، أو يقرأ كتابًا له.

وإذا كان بعض الباحثين يعظمون دور بعض رواد النهضة الأدبية والفكرية في مصر، ويرون في نتاجهم نقلة حضارية أخذت مصر إلى القرن العشرين، فإنهم يجانبون الحقيقة والصواب، ويبتعدون عن الموضوعية حين يغفلون دور المؤسسات التعليمية، مثل: مدرسة دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعي، فدورهما في إثراء الحياة الأدبية والفكرية لا ينكر، وإذا كانت مدرسة القضاء الشرعي قد أُغلقت فإن دار العلوم لا تزال تؤدي رسالتها حتى اليوم، وإن كانت أبطأ خُطًى عما كانت من قبل.

وقد شاركت دار العلوم في إثراء الفكر والأدب بإنتاج ثريٍّ غزير. وإذا كان بعضه لم يأخذ ما يستحقه من التقدير والإجلال والشهرة وزيوع الصيت فإن ذلك يعود إلى طبيعة الحياة الأدبية في مصر التي تعتمد على الصحافة في الزيوع والتأثير. ويتعجب المرء حين يرى نوابغ دار العلوم من أصحاب العلم والبيان والبحث والدرس يُعرض عنهم، وتُطوَى صفحاتهم، ويُغفَل دورهم عن قصد أو عن غير قصد، لكن أصحاب البصيرة والعقل الراشد يدركون ما أدوه من رسالة وما قاموا به من جهد مشكور.

وإذا أردت أن تدرك جهاد مدرسة دار العلوم فحسبك أن تعلم أن من بين خريجيها وأساتذتها كان “أحمد الإسكندري” و”أحمد العوامري” و”عباس حسن” في الدراسات النحوية، و”أحمد ضيف” و”أحمد الحوفي” و”علي النجدي ناصف” في الدراسات الأدبية، و”إبراهيم بيومي مدكور” و”محمود قاسم” في الدراسات الفلسفية، و”محمد غنيمي هلال” في الدراسات الأدبية المقارنة، و”إبراهيم أنيس” و”تمّام حسّان” في الدراسات اللغوية، و”علي الجارم” و”علي الجندي” و”محمود حسن إسماعيل” من شعرائها الفحول، و”حسن البنا” و”سيد قطب” و”محمد عمارة” من رواد الفكر والإصلاح، و”عبد السلام هارون”، و”محمد أبو الفضل إبراهيم الإبياري” من رواد فن تحقيق التراث.

وما ذكرته إنما هو حبات قليلة في عقد عظيم يزين جِيدَ مصر، ويزيده بهاء وحسنًا. و”إبراهيم أنيس” واحد من تلك الحبات اللامعة التي نبغت في الدراسات اللغوية، وقد عُدَّ رائدا لها في مصر والعالم العربي.

المولد والنشأة

شهدت مدينة القاهرة مولد إبراهيم أنيس سنة (1324 هـ = 1906م)، وقد نشأ في أسرة كريمة يقوم عائلها على تربية أولاده تربية كريمة وتعليمهم تعليمًا راقيًا. ولما اشتد عوده بدأ رحلته للتلقي والدرس؛ فالتحق بإحدى المدارس الابتدائية، وبعد ذلك انتقل إلى المدرسة التجهيزية التي كانت ملحقة بدار العلوم، وعندما حصل منها على شهادة الدراسة الثانوية انتقل إلى دار العلوم العليا وتخرج فيها سنة (1349 هـ = 1930).

وكان له إبان هذه الفترة نشاط أدبي؛ حيث كان ينظم القصائد الشعرية، ويكتب المسرحيات التاريخية والاجتماعية، وكان يهوى التمثيل أيضا، ويذكر الدكتور “مهدي علام” أن إبراهيم أنيس كان رئيسًا لجمعية التمثيل بدار العلوم، وأنه كتب تمثيلية بقلمه بعنوان “الشيخ المتصابي”، قام بدور البطولة فيها.

البعثة إلى إنجلترا

عمل “إبراهيم أنيس” بعد تخرجه مدرسًا في المدارس الثانوية. ولمَّا أعلنت وزارة المعارف مسابقتها لاختيار بعثة دراسية إلى أوربا تقدم لها، وفاز بها وسافر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه، وفي جامعة لندن حصل على درجة البكالوريوس في الآداب سنة (1358 هـ = 1939م)، ثم دكتوراه الفلسفة في الدراسات اللغوية السامية سنة (1360 هـ = 1941م)، ولم تصرفه دراسته الجادة عن العمل الاجتماعي، فقد كان له دور بارز فيه، فانتخب رئيسًا للنادي المصري بلندن، يدير أعماله ويدير شؤونه.

العمل في الجامعة

وبعد عودته من البعثة عُين مدرسًا بكلية دار العلوم، ثم انتقل إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وظل بها عامين أنشأ خلالهما معمل الصوتيات لتحديث الدراسات اللغوية ودراسة الأصوات ومقاييس تصنيفها، ثم عاد إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغويات، ثم تولَّى العمادة سنة (1375 هـ = 1955م) للمرة الأولى، ثم عين عميدًا لها مرة أخرى في سنة (1378هـ = 1958م)، وظل في منصبه عدة سنوات حتى قدَّم استقالته حين رأى الأمور تسير على غير ما يحب ويريد، ورأى العراقيل توضع في طريقه دون سبب يذكر، فانصرف إلى دراسته وبحوثه وعمله بالتدريس ولقائه بطلابه.

ويذكر تلميذه الدكتور “عبد الله درويش” أنه كان يخصص كل طاقته ووقته لكليته من الصباح المبكر إلى ما بعد الظهر، وكان يقضي في الكلية أحد عشر شهرًا، لا يبرحها إلا في شهر أغسطس حيث يقضي إجازته.

عضوية المجمع

لفت إبراهيم أنيس الأنظار إليه بدارساته وبحوثه الجديدة في علم اللغة، فاختير خبيرًا بمجمع اللغة العربية سنة (1378 هـ = 1958م)، ثم نال عضوية المجمع سنة (1381هـ = 1961م) مع تسعة آخرين انضموا إلى المجمع حين عدل في قانونه وزيد عدد أعضائه.

وقد ساهم مساهمة فعالة في أعمال لجنة الأصول ولجنة اللهجات، ولجنة المعجم الكبير وغيرها، وكتب بحوثًا راقية ودراسات بالغة الأهمية في مجلة المجمع، ثم عُهد إليه بالإشراف على المجلة منذ العدد الثاني والعشرين، الصادر في سنة (1387 هـ = 1967م)، خلفًا للأستاذ “زكي المهندس” عضو المجمع البارز.

وتجدر الإشارة أن الأستاذ زكي هو خال الدكتور إبراهيم أنيس، وكان من المربين الكبار، وتولَّى عمادة دار العلوم العليا، واختير عضوا بالمجمع سنة (1366 هـ = 1946م).

نتاجه العلمي

درس إبراهيم أنيس علوم اللغة العربية على شيوخ دار العلوم وأعلامها، وكانوا من ذوي العلم والإتقان، فتمرس بالعربية وتزود من معينها الصافي- تساعده سليقة فطرية وشغف بلغة العرب- ثم درس في لندن؛ حيث رأى مناهج جديدة، وقرأ بحوثًا لعلماء في لغاتهم القديمة والحديثة، واطلع على محاولاتهم في تفسير الظواهر اللغوية على هُدىً من نظائرها في اللغات المختلفة، فأضاف ذلك علمًا إلى علمه، وأنضجت هذه الدراسات تفكيره وأثْرَت منهجه، دون أن تطغى هذه المناهج الجديدة على عقله أو تجعله ينقل حاكيًا مرددا دون فهم وبصيرة، وإنما كان يأخذ ويختار عن بينة واقتناع.

ودارت بحوثه حول الأصوات اللغوية، واللهجات العربية، ودلالات الألفاظ، وموسيقى الشعر، إلى جانب طائفة من قضايا النحو والصرف رآها مجالا للنظر والتأمل، وفي كل ما يكتب كان يلجأ في مواقف الاحتجاج وإصدار الأحكام إلى الاستشهاد بالقرآن الكريم والكلام المأثور من منظوم ومنثور وكلام العلماء.

وكان يؤمن أن الحواجز التقليدية بين فروع المعرفة المختلفة ليست إلا حواجز وهمية في كثير من الأحيان، وأن العالم الحق لا يستطيع أن يغفل عن الاستفادة من إمكانات الفروع المختلفة؛ ولذلك كان يهتم بالرياضيات والإحصاء، ويحرص على الاستفادة منذ وقت مبكر من إمكانات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) في بحوثه اللغوية، ويكلف طلابه بعمل إحصاءات من القرآن الكريم ومن معجمات اللغة.

وتناول الدكتور إبراهيم أنيس “اللهجات العربية”، فبحث حال العربية قبل الإسلام، وواقع اللهجات فيها، ودرس ما بينها وبين القراءات القرآنية من صلات، وعرض أهم قضاياها في بنيتها ودلالتها وما بينها من اتفاق واختلاف، ثم انتهى إلى أن العناصر المشتركة في اللهجات العربية الحديثة تنتمي إلى لهجات عربية قديمة.

واشتغل بدراسة الأصوات اللغوية، ومقاييس تصنيفها ومنهج القدماء فيها، وكذلك موسيقى الكلام، وتكَوُّن الأصوات عند الأطفال والكبار.

وكان أنيس أول من دعا إلى إيجاد نطق نموذجي يُنشر في جميع البلاد العربية، وقد وضع لمشروعه هذا خطة مفصلة تشمل: إعداد المدرسين، واستغلال الإذاعة، وتوجيه السينما والمسرح، والاستعانة بالسلطة التشريعية؛ للقضاء على سلطان اللهجات المحلية، فلا تستعمل في المدارس والإذاعة ودور المسرح والسينما، وكانت صيحته هذه غِيرةً على اللغة العربية.

ودرس دلالة الألفاظ وأنواعها، وبيَّن كيف تكون الدلالة عند الأطفال وعند الكبار، وكيف تتطور مع الزمن، وتطرَّق إلى أثر الدلالة في الترجمة.

وقد تضمنت مؤلفات إبراهيم أنيس هذه القضايا وغيرها، ومن مؤلفاته:

“الأصوات اللغوية”، و”من أسرار اللغة العربية”، و”موسيقى الشعر”، و”في اللهجات العربية”، و”دلالة الألفاظ”، الذي نال عنه جائرة الدولة التشجيعية سنة (1378هـ = 1958م)، وكتاب “اللغة بين القومية والعالمية”.

وفاته

ظل إبراهيم أنيس مُكبًّا على عمله، مخلصًا له، لا يشغله عن بحوثه وكتبه شاغل مهما كثرت المغريات من المال والجاه، حتى لبى نداء ربه إثر حادث أليم في (20 من جمادى الآخرة 1397 هـ = 8 من يونيو 1977م).


أحمد تمام