قبل التعرف على السلطان الكامل الأيوبي ، توفي صلاح الدين الأيوبي سنة (589هـ = 1193م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وبمفاخر عظيمة لا يزال صداها يتردد حتى الآن، وكانت دولة صلاح الدين التي أنشأها موزعة عند وفاته بين أبنائه وإخوته وأبناء عمومته؛ فاختص ابنه الأكبر الملك الأفضل نور الدين محمود بدمشق عاصمة لدولته، التي ضمت مدن ساحل البحر المتوسط، وبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى حتى الداروم بالقرب من حدود مصر، وحكم ابنه العزيز عثمان مصر، في حين أخذ الابن الثالث -وهو الملك الظاهر غازي- حلب وشمال الشام، وتولى الملك العادل أخو صلاح الدين الأردن والكرك والجزيرة وديار بكر، أما بقية أبناء صلاح الدين وإخوته وآل بيته فكانت لهم إقطاعات صغيرة.

وكان صلاح الدين قد أوصى لابنه الملك الأفضل بالسلطنة من بعده، وأن تكون له السلطة العليا والكلمة النافذة في الدولة الأيوبية كلها، غير أن الأفضل لم يكن مؤهلا للنهوض بهذه المهمة، فحدث نزاع بينه وبين إخوته، واحتكم كل منهم إلى سيفه وقوته، وضاعت الوحدة والتماسك بين المطامع والمصالح، ونسوا جهد أبيهم في بناء الدولة، وتحقيق مجدها، وانتهز الملك العادل هذه الفرصة -وكان ذا أناة وصبر وعقل وحكمة- وتمكن من خلعهم واحدا إثر الآخر، وأصبح يحكم الدولة الموحدة التي كان يحكمها أخوه صلاح الدين من قبل.

وإذا كان العادل قد نجح في توحيد الدولة الأيوبية من جديد، فإن ذلك تطلّب منه إعادة تنظيم الدولة، والاستعانة بأبنائه في إدارتها، فأناب ابنه الكامل “محمد” في حكم مصر، وجعل ابنه المعظم عيسى في دمشق، وأعطى الأشرف موسى حران، واحتفظ العادل لنفسه بالإشراف التام على جميع أنحاء دولته.

الملك الكامل وحملة الصليبيين الخامسة

كان السلطان الكامل بن العادل في مصر، حين تعرضت لحملة صليبية هائلة بقيادة “حنادة برين”، تألفت من سبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل، وعُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية الخامسة، ورست الحملة على الضفة الغربية للنيل المواجهة لمدينة دمياط في 4 من ربيع الأول 615 هـ = 1 من يونيو 1218م.

ولما علم السلطان الكامل بأخبار هذه الحملة الهائلة تحرك على وجه السرعة لدفع خطرها، واتجه بجنده إلى مكان قريب، وعسكر جنوبي دمياط؛ ليكون على اتصال بها، وكانت دمياط مدينة حصينة تحيط بها الأسوار والقلاع والأبراج، ويرتفع عند مدخل فرع دمياط النيلي برج مشحون بالجند لمنع سفن الأعداء من العبور في النيل والوصول إلى دمياط، وما كادت هذه الأنباء المحزنة يسمع بها الملك العادل في الشام حتى مَرِضَ مَرَضَ الموت، ولقي ربه تاركا لأبنائه فرصة تغيير الأوضاع، وإخراج الغازي المحتل من أرض مصر.

تمكن الصليبيون من دخول دمياط، ولم تُجْدِ محاولات الكامل في الدفاع عن المدينة، ومنع سقوطها، وأسقط في يده، وفزع إخوته في الشام، فأجمعوا أمرهم على النصرة والتصدي للصليبيين في مصر والشام، وكان يمكن للصليبيين أن يستثمروا نجاحهم في احتلال دمياط، ومواصلة السير في قلب البلاد، ولكنهم تنازعوا فيما بينهم، وبرزت أهواؤهم، وانسحب بعضهم إلى عكا، وظلوا عاما ونصفا دون تحرك.

وفي تلك الفترة قام السلطان الكامل بعمل ما في وسعه لإيقاف الزحف، وإقامة خطوط الدفاع في قبالة طلخا، وجمع جيوشه وجيوش إخوته (المعظم عيسى والأشرف موسى) استعدادا للقاء الحاسم، وفي الوقت نفسه ظل السلطان الكامل يكرر عرضه السخي للصليبيين بالجلاء عن مصر مقابل إعطائهم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين من مدن الساحل، وقد رفض الصليبيون هذا العرض المتخاذل قبل سقوط دمياط في أيديهم، وتكرر رفضهم لهذا العرض بعد السقوط؛ بل إنهم تمادوا في غرورهم، وطلبوا 300 ألف دينار عوضا عن تخريب سور القديس.

تحرك الصليبيون بحشودهم الجرّارة جنوبا حتى مدينة فارسكور في ربيع الآخر 618هـ = يوليو 1221م، وكان هذا وقت فيضان النيل السنوي، الذي يشتد في شهر أغسطس من كل عام، وعبرت قوات الجيش المصري؛ لكي تحاصر الصليبيين قرب “المنزلة”، وشاء الله أن يأتي فيضان النيل عارما، ففتحت الجسور، وأغرقت كل الطرق أمام الصليبيين، وعلى صفحة النهر كانت السفن المصرية تقطع خطوط الإمداد، وتفصل الحملة الصليبية عن قاعدتها في دمياط، وتستولي على عدد من سفن العدو، وتأْسِر بَحَّارته.

ولم يكن أمام الصليبيين بعد أن فاجأتهم الكارثة، وأحيط بهم من كل مكان سوى الاستسلام دون قيد أو شرط، وضاعت أحلام البابوية في أوحال الدلتا وعلى صفحة النهر الخالد، وخرجت الحملة من دمياط في 19 من رجب 618 هـ = 8 من سبتمبر 1221 تجرّ أذيال الخيبة والفشل.

الكامل والإمبراطور فريدريك

كان لتضامن أبناء العادل الثلاثة، وتكاتفهم أثر لا يُنكر في تحقيق النصر وإفشال الحملة الصليبية الخامسة، وكان المأمول أن يبقى هذا التحالف، ويزداد مع الأيام قوة وترابطا بعد المحنة الحالكة، ولكن ذلك لم يحدث؛ فانفرط العقد، ومضى كل واحد منهم في طريقه، ينظر إلى نفسه، ويعظم من شأن مصالحه ومكاسبه دون نظر إلى مصلحة أبيه، ولم تكد تمضي سنوات معدودة حتى شبّ صراع بين السلطان الكامل وأخيه المعظم عيسى صاحب دمشق، واستعان كل منهما بمن يحقق له الظفر؛ فاستعان المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين الخوارزمي سلطان الدولة الخوارزمية، واستنجد السلطان الكامل بالإمبراطور فردريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة في غرب أوروبا.

الإمبراطور فردريك

ولد هذا الإمبراطور من أب ألماني هو هنري السادس وأم إيطالية هي الأميرة كونستانس وريثة عرش صقلية، وتربى وتعلم في صقلية التي كانت مظاهر الحضارة الإسلامية تفرض نفسها في كل مكان فيها، فنشأ محبا للحضارة الإسلامية، مبديا تقديره وإجلاله للمسلمين، وكان واسع العلم، متبحرا في الهندسة والحساب والرياضيات، مجيدا للعربية واليونانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية، ولما تُوِّج على عرش الإمبراطورية سنة (612هـ = 1215م) وعد بالقيام على رأس حملة صليبية إلى الشرق ثمنا للمساعدة التي لقيها من البابوية في الوصول إلى حكم الإمبراطورية، ولكنه لم ينهض للوفاء بنذره الصليبي، وظل يماطل في تنفيذه، على الرغم من زواجه من “يولاند” ابنة الملك الصليبي يوحنا دي برين الذي جعل منه ملكا على بيت المقدس ومسؤولا عن الصليبيين في المشرق.

المراسلات بين الكامل وفردريك

أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير فخر الدين يوسف إلى الإمبراطور فريدريك يعرض عليه أن يقوم بنجدته ومساعدته في حربه ضد أخيه المعظم عيسى، في مقابل أن يسلمه بيت المقدس وجميع فتوحات صلاح الدين بالساحل الشامي، ويا له من ثمن غالٍ مقابل هدف رخيص!! وقد أحسن الإمبراطور استقبال مبعوث السلطان الكامل، ورد عليه بسفارة مماثلة، واستجاب لعرضه السخي الذي قطع عليه تردده سنوات طويلة كان البابا جريجوري التاسع يستحثه للنهوض بها دون جدوى، وغادر صقلية في رجب 625 هـ = يونيو 1228م قاصدا الشام، ممنيًا نفسه بالتتويج في بيت المقدس، وبفخار يحققه يظل التاريخ الأوروبي يلهج بذكره.

الحملة الصليبية السادسة

وكانت الحملة التي عُرفت في التاريخ بالحملة الصليبية من أعجب الحملات العسكرية؛ فلم يتجاوز أفرادها 600 فارس، يصحبهم أسطول هزيل، وكان الإمبراطور الألماني قد جاء إلى الشام في نزهة جميلة مع أفراد حاشيته، أو جاء ليفاوض لا ليحارب، وعندما وصل إلى عكا وجد الأمور على غير ما تمنى؛ فقد توفي الملك المعظم عيسي، واقتسم السلطان الكامل وأخوه الملك الأشرف ممتلكاته، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار، ولم تعد هناك حاجة إلى جهود الإمبراطور.

كانت تلك الأخبار مفاجأة قاسية لـ”فرديريك”، فساء موقفه، ولكنه لم يفقد الأمل في تحقيق أمانيه مع سلطان اشتهر بالسماحة إلى حد التفريط، ولجأ إلى سلاح المفاوضة والاستعطاف، فبعث سفارة تطلب من السلطان الكامل الوفاء بما تعهد به من تسليمه بيت المقدس، وكان طبيعيا أن يرفض السلطان بعدما زال السبب الذي من أجله أقدم على هذا العرض، ولكن هذا الرفض زاد الإمبراطور إصرارا على إعادة المحاولة والمبالغة في استمالة قلب السلطان، وبلغ به الأمر أن كتب للسلطان الكامل في أثناء المفاوضات: “أنا مملوكك وعتيقك، وليس لي عما تأمر به خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي؛ فإن رجعت خائبا انكسرت حربتي بينهم، فإن رأى السلطان أن يُنعم عليّ بقبضة البلد والزيارة؛ فسيكون صدقة منه”.

أفلحت هذه السياسة، ونجحت مع السلطان الكامل، ففرّط فيما لا يملك، واستسلم دون قتال إلا من سلاح الدمع، وعقد معاهدة عُرفت بمعاهدة “يافا” في 22 من ربيع الأول 626هـ = 18 من فبراير 1229م بمقتضاها تقرر الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا، ونصّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه؛ فلا يجدد سورها، وأن يظل الحرم بها بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة.

فردريك في بيت المقدس

أثارت هذه المعاهدة المخزية حفيظة المسلمين وغضبهم في كل مكان، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى، وشعر “الكامل” بأنه تورط مع الإمبراطور، فأخذ يهون من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يُعطِ الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين ظل المسجد الأقصى على حاله، وبعد عقد الصلح اتجه فردريك إلى بيت المقدس، فدخلها في 19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من مارس 1229م، ويذكر المقريزي أن الإمبراطور حين رأى قسيسا بيده الإنجيل يهمّ بدخول المسجد الأقصى زجره، وطرده، وهدد كل من يدخل المسجد الأقصى بغير إذن، فقال: “إنما نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه؛ فلا يتعدَّ أحد منكم طوره”.

وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة؛ ليتوَّج ملكا على بيت المقدس، ولم تطُلْ إقامته في الشام، وكرّ راجعا إلى بلاده بعد أن حقق ما لم تحققه أي حملة صليبية منذ الحملة الأولى.

العلاقات بين الكامل وفردريك

أدى التقارب في الصفات بين الرجلين؛ فقد كان كلاهما سمحا ليّن الخلق إلى توثيق العلاقات بينهما وتبادل الهدايا، وكان فردريك بعد عودته إلى الغرب لا يفتأ يردد أمام أصدقائه: “إن صديقي السلطان المسلم أثمنُ لدي من أي شخص، ما عدا ولدي الملك كونارد”. وقد استمرت الصداقة بين فردريك وخلفاء السلطان الكامل في مصر، ومن ذلك تحذيره الصالح أيوب سلطان مصر عندما علم بنية التفريط في بيت المقدس.


أحمد تمام

من مصادر الدراسة:

  • المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك – تحقيق محمد مصطفى زيادة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة – 1934م.

  • ابن وصال الحموي: مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب – تحقيق حسني محمد ربيع – دار الكتب المصرية – القاهرة – 1977م.

  • سعيد عبد التفاح عاشور: بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى – جامعة بيروت العربية – 1977م.

  • قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية – عالم المعرفة – الكويت – 1410 هـ – 1990م.