تعددت الرؤى الاقتصادية النابعة من الفكر السياسي الغربي، وأقامت عدة نماذج اقتصادية، تبدأ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وأصبح الظن الغالب، أن البدائل الاقتصادية لن تخرج عن تلك البدائل التي مورست في التجربة الغربية. وحيث أن النموذج الغربي الشيوعي قد سقط، لذا أصبح البديل الرأسمالي يمثل البديل الاقتصادي الوحيد القائم، والذي حقق نجاحا في التجربة الغربية.

والبديل الرأسمالي، ليس رؤية واحدة، ولكنه عدة رؤى تبدأ من أقصى اليمين المتطرف، حتى البدائل اليسارية والتي تحد الرأسمالية ببعض القواعد الاشتراكية. ولكن هذه البدائل في جملتها ليست عالمية النزعة، بل هي مشاريع ورؤى اقتصادية غربية. لذا من المهم التفكير في قواعد الرؤية الاقتصادية المستندة على المرجعية الإسلامية، من خارج تلك القوالب الاقتصادية التي أقيمت في النموذج الغربي، ومن خلال اكتشاف الفروق بين المبادئ الأساسية الحاكمة لكل نموذج حضاري اقتصادي.

ولعل القضية المحورية التي دار حولها الجدل في الفكر الاقتصادي الغربي، هي دور الدولة في الاقتصاد. والبدائل الغربية تراوحت بين السيطرة الكاملة للدولة على الاقتصاد كما في النموذج الشيوعي، وبين خروج الدولة وانسحابها بالكامل من السوق، كما في الرأسمالية المتطرفة.

وبين هذين البديلين، نجد عدة بدائل تختلف في مدى تدخل الدولة في السوق أو في النشاط الاقتصادي. وعندما انفجرت الأزمة المالية الأمريكية، والتي صارت عالمية بسبب سيادة تأثير الاقتصاد الغربي، ظهر توجه لدى مختلف الدول الغربية للتدخل في الأزمة من خلال دور مركزي للدولة، أدى إلى تملك الدولة لأصول بنوك وشركات، حتى تمنعها من الانهيار. ولكن هذا التدخل وقتي، ويمثل حلا لأزمة أو لأعراض تلك الأزمة، ولم يؤسس لفكر اقتصادي جديد.

تلك القضية التي أثارت الفكر الاقتصادي الغربي، تمثل في الواقع أحد الجوانب المهمة في أي فكر اقتصادي، نقصد دور الدولة في الاقتصاد. والغالب على الرؤى التي تنبع من المرجعية الإسلامية، أنها تقدم الدولة بوصفها ملزمة بالإشراف على السوق أو على الاقتصاد، أكثر من كونها منسحبة أو متدخلة.

فإذا نظرنا للرؤى الاقتصادية الإسلامية، سنجد أنها تحدد قواعد للعمل الاقتصادي الشريف والعادل، وتلك القواعد هي التي تجعل العمل الاقتصادي يدخل في إطار القيم الحاكمة للمنظومة الإسلامية. فالتصرف الاقتصادي الذي يتبع قيم المنظومة الإسلامية، هو التصرف المقبول. وهنا يبرز دور الدولة في مراقبة التصرفات الاقتصادية، لتكون تصرفات قانونية. ودور الرقابة على السوق، دور مهم ومؤثر. فالدولة لا تتدخل في السوق، ولا تنسحب منه، ولكن تراقب السوق حتى تتأكد من أنه يتبع القواعد السليمة المنظمة له.

لكن دور الدولة في الأزمات، يختلف بالطبع عن دورها في الظروف العادية، حيث أنها تصبح ملزمة في أي أزمة غذائية مثلا، أن توفر الغذاء الضروري لحل الأزمة.

وحتى يكون لرقابة الدولة على السوق معنى، يجب أن يكون السوق منظما طبقا لقواعد عادلة. وتلك قضية مهمة، فالسوق الحر في التصور الغربي يكاد أن يكون سوق متحرر من القيود، وليس فقط سوقا حرا. وهنا سنجد أن تنظيم السوق مسألة مهمة، وهذا التنظيم يحتاج للعديد من القواعد المحققة للممارسة الاقتصادية العادلة.

صحيح أن الفكر الاقتصادي الغربي يعرف قواعد لمنع الغش والاستغلال والاحتكار، ولكن كل تلك القواعد لا تقييم علاقة عادلة بين البائع والمشتري. والحقيقة أن المشتري هو الطرف الأضعف في علاقة السوق، لذا يصبح من الضروري تعميق القواعد المانعة للغش والاستغلال والاحتكار، بالصورة التي تقيم علاقة عادلة في السوق.

وعندما تؤسس رؤية جديدة لكيفية وضع معايير للنشاط الاقتصادي العادل، عندئذ يتحدد دور الدولة في الحفاظ على تلك القواعد وتحقيق العدل في العملية الاقتصادية. وتصبح الدولة هي الرقيب على أطراف العملية الاقتصادية، ومن وظيفتها حماية المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، وذلك من خلال حمايتها للمجتمع وحقوقه في العملية الاقتصادية التي تجري في السوق.

والملاحظ مثلا، في معظم الإعلانات التجارية أنها تنطوي على الغش، كما أن ممارسات السوق ومن خلال التكتلات الاقتصادية تنطوي على قدر واضح من الاستغلال؛  بجانب أن الشركات الكبرى وكبار التجار، قادرون على ممارسة الاحتكار.

والاحتكار لا يتحقق فقط من خلال شركة تسيطر على الجزء الأكبر من السوق، ولكن من خلال ممارسات شركة تلحق الضرر بالمستهلك، حتى وإن لم تكن مسيطرة على جزء احتكاري من السوق. فمع توسيع وتعميق القواعد الحاكمة للعلاقة العادلة بالسوق، والقائمة على الشفافية، يمكن للدولة أن تقوم بدور مهم في رعاية عدالة السوق..وهنا نتكلم عن سوق حر، ولكنه سوق عادل، ومنظم.

لا يمكن أن يكون هناك تخطيط مركزي إلا من خلال دور الدولة. فالدولة عليها وضع تخطيط مركزي للاقتصاد، يحدد مسار التطور المستقبلي حسب احتياجات المجتمع. والدولة قادرة على تقديم نظام للتحفيز يسمح بتشجيع القطاع الخاص على القيام بدور في خطة الدولة المركزية. ولكن ليس للدولة أن تجبر القطاع الخاص على القيام بدور محدد. من هنا تظهر أهمية نظام الحوافز، باعتباره الوسيلة الأنسب لتحقيق الخطة الاقتصادية، من خلال تحفيز القطاع الخاص للاشتراك فيها.

وداخل التخطيط المركزي، سيكون هناك مشروعات مهمة، لا يقدر عليها القطاع الخاص، ويمكن أن تقيمها الدولة. والغالب أن الدولة عندما تملك مشروعا، لا يفضل أن تديره، فيصبح لها حق الملكية فقط دون الإدارة. وهنا يتم استثمار المال العام في مشروعات ضرورية لم يقدر عليها القطاع الخاص.

والمعنى المحدد هنا، أن دور الدولة في الاستثمار هو دور تكميلي للقطاع الخاص، وليس دورها الأساسي. بالطبع على الدولة دور أساسي في الاستثمار في المرافق العامة، وفي استخراج الثروات المعدنية، وهذه كلها تقع في إطار الملكية العامة. ولكن دور الدولة في الاقتصاد الإنتاجي أو الزراعي أو التجاري، هو فقط دور حسب الحاجة، ولنجاح التخطيط المركزي، أي كما قلنا هو دور تكميلي. وهو ينتج من أهمية وجود خطة مركزية عامة، تضع تصورا للوضع الاقتصادي في المستقبل، بما يسمح بتطوير الاقتصاد وتحقيق التقدم.

لهذا نتوقع أن يكون دور الدولة في بناء البنية الاقتصادية اللازمة للتطور والتقدم، كبيرا نسبيا في مراحل التراجع الاقتصادي، ويقل كلما تحقق قدر ملحوظ من التقدم في المجال الاقتصادي. فالدولة تقوم بدور لتنشيط الوضع الاقتصادي، وحل الأزمات، تحقيقا للغاية الأكبر وهي تحقيق التطور والتقدم. ولكن هذه الأدوار تظل مرحلية وللضرورة، وانتهاء هذه الأدوار يكون دليلا على اكتمال بناء بنية اقتصادية قوية.

بهذا يتبلور دور الدولة المنظم، وهو تصور مهم، ويختلف عن الدولة المنسحبة وعن الدولة المتدخلة. فالدولة المنظمة، هي التي ترعى مشروع التقدم الاقتصادي، وتعمل على إنجاح هذا المشروع، مما يعظم من دورها أحيانا، ويقلل من دورها أحيانا أخرى. وبهذا تكون الدولة، وأيضا النظام السياسي، في موقع المسئولية. فالدولة مسئولة عن الحالة الاقتصادية العامة، وعليها القيام بتلك المسئولية، لتحقيق التقدم، وأيضا تحقيق العدل.

وهنا تصبح الدولة هي المنظم، الذي يؤدي دوره في وجود سوق منظم. فإذا كانت النظرية الرأسمالية قد قامت على أفكار أدم سميث، والتي ترى أن قوانين العرض والطلب تمثل اليد الخفية التي تنظم السوق. فإن الاقتصاد المنظم، والقائم على قيمة العدل حسب الرؤية الحضارية الإسلامية، يؤسس لسوق حر، تقوم فيه الدولة بدور اليد الخفية التي تنظم العلاقة بين العرض والطلب، وتمنع أي استغلال أو احتكار، كما تمنع أي خلل حاد في العرض والطلب، مما قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية.

لذا نقول: أن الدولة الحارسة، والتي تحمي العدل، تقوم بدور منظم السوق والاقتصاد، وهي ليست دولة متدخلة، وأيضا ليست دولة منسحبة، بل هي منظم يقوم بدوره في تنظيم علاقات السوق، ويقوم بدوره في توجيه حركة السوق نحو التطور والتقدم.

ومن الضروري تحديد القيم الأساسية التي تقوم عليها المنظومة الحضارية الإسلامية في المجال الاقتصادي. وهو أمر يتحقق من خلال التوافق العام على الرؤية الحضارية الإسلامية، ولكن هناك العديد من المفاهيم التي تبدو وأنها تعبر عن الرؤية المتفق عيها، أو التي سادت لدى الأطروحة الإسلامية.

ومن تلك القيم، قيمة العمل؛ حيث يتضح أن الرؤية الإسلامية تقوم أساسا على تحقيق قيمة العمل، باعتبار أن العمل هو المنتج للربح. وكل ربح بلا عمل، ينظر له بنظرة سلبية. وتلك قضية مهمة. فالعمل هو الذي ينتج الربح، لأنه ينتج النشاط الاقتصادي المفيد. وكل نشاط اقتصادي أو مالي لا يقوم على العمل، يعتبر نشاطا ثانويا مضرا، أو طفيليا.

وتلك الرؤية يمكن أن يكون لها تأثير كبير في الحكم على أنواع النشاط الاقتصادي المختلفة.. ففي كل نظام اقتصادي هناك أنشطة منتجة، ولكن بجوار هذه الأنشطة، هناك أنشطة غير منتجة أو طفيلية، وهي في الغالب أنشطة مالية صرفة، وتحقق ربحا دون أن تنتج عملا أو تنتج نشاطا.

لذا نجد الرؤية المجتمعية السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية، تفرق بين الغني الذي يكون ثروته من العمل والنشاط الاقتصادي، وذلك الذي يكون ثروته من أنشطة طفيلية تقوم على المضربات المالية أو العقارية أو غيرها. حيث يغلب على الناس رؤية مفادها، أن المال الناتج من الجهد والعمل، هو مال شريف، أما المال الذي يتحقق فجأة وبأرباح هائلة، ودون نشاط، فهو في الغالب مال إما غير شريف، أو ينطوي على قدر من الاستغلال..فالقاعدة الأساسية هنا، أن العمل ينتج مالا، ولكن المال لا ينتج مالا.

من خلال أهمية دور العمل في النشاط الاقتصادي، تظهر قضية مهمة، نتصور أنها تمثل جوهر الفكرة الاقتصادية الإسلامية. وهي فكرة العلاقة بين عائد المال وعائد العمل، في أي نشاط اقتصادي. فأي نشاط إنتاجي، يحتاج إلى رأس مال وإلى عمالة. وجزء من عائد هذا النشاط، يذهب إلى أصحاب رأس المال، وجزء آخر يذهب إلى العمال. والقضية المهمة هنا، هي كيفية وضع قواعد تجعل عائد رأس المال من النشاط، لا يجور على عائد العمالة من النشاط.

وتلك القضية ليست بسيطة، فهي تحتاج إلى قواعد تحدد الوضع المثالي لعائد العمل وعائد رأس المال في كل نشاط، ومن ثم علاج أي خلل يحدث في النشاط الاقتصادي، من خلال شرائح الضرائب التجارية والصناعية، والتي يمكن أن تتيح حوافز لصاحب العمل، ليوسع في توزيع الأرباح على العاملين، بصورة تحقق العدالة بين عائد المال وعائد العمل.

والدولة كمنظم للنشاط الاقتصادي، عليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لقيام علاقة عادلة بين عائد المال، وعائد العمل، مع غيرها من المؤسسات النقابية والمهنية. فتأسيس تلك العلاقة العادلة، يمثل جوهر قيام الاقتصاد العادل. وليس من السهل إقامة اقتصاد عادل، خاصة وأن الصور الغالبة عن الاقتصاد خاصة الرأسمالي، توحي بأن العدل في النشاط الاقتصادي مستحيل.

ولكن النظام الاقتصادي المتوازن، هو الذي يقوم على العدل. خاصة وأن النظام الرأسمالي، والذي يقوم على قدر من الاستغلال، استطاع أن يستمر لأنه انتقل من مرحلة استغلال أصحاب العمل للعمال، إلى استغلال العمالة في الدول الفقيرة والنامية، إلى استغلال ثروات الدول الأضعف. حتى بات الاستغلال، كمصدر لتراكم الثروة في النظام الرأسمالي، يتم حمايته من خلال القوة العسكرية، وممارسة الاحتلال العسكري والهيمنة السياسية على الدول الأضعف.

نقصد من هذا، أن الاقتصاد القائم على الاستغلال ينتج حضارة استعمارية. ولكن الاقتصاد القائم على العدل، هو الذي يحقق النمو والتطور، دون التعدي على حق الآخرين، ودون استغلال الطرف الأضعف في العملية الاقتصادية، أو الطرف الأضعف في العلاقات الدولية.

الخلاصة

الاقتصاد المنظم هو الاقتصاد القائم على قيمة العدل، أي الاقتصاد الذي يحقق العدل في علاقات السوق، كما يحقق العدل في العلاقة بين صاحب رأس المال والعامل. والدولة هي منظم لهذا الاقتصاد، والذي يقوم على إطلاق حرية النشاط الاقتصادي، ولكن طبقا لقواعد تحافظ على حق كل الأطراف المشاركة فيه. والاقتصاد العادل يقوم أساسا على حماية حق المجتمع، وحق الأمة، أي حق الجماعة، فهو يحمي الجماعة من أي استغلال تتعرض له، أو أي وضع احتكاري يلحق بها ضررا. وبهذا يتم حماية الطرف الأضعف في العملية الاقتصادية، وأيضا حماية حقوق الأمة، وحقها في تحقيق التطور والنمو الاقتصادي.