اقترن اسم علي مبارك في تاريخ مصر الحديث بالجانب العملي للنهضة والعمران، وتعددت إسهاماته فيها على نحو يثير الإعجاب والتقدير، وكان له في كل عمل يوكل إليه أثر بارز، وبصمة واضحة، لا تقيد خطاه قلة المال، ولا ضعف الإمكانات، يستعيض عنهما بالدراسة المتأنية، والنظر الممعن، والجهد الوافر، والصبر الجميل، فيأتي بالنتائج المدهشة، ويصير ما كان صعبًا معقدًا في يد غيره سهلاً ميسورًا في يده.

المولد والنشأة

ولد علي مبارك في قرية برنبال الجديدة التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية سنة (1239 هـ= 1824م)، ونشأ في أسرة كريمة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودفعه ذكاؤه الحاد وطموحة الشديد ورغبته العارمة في التعلم إلى الهرب من بلدته ليلتحق بمدرسة الجهادية بالقصر العيني سنة (1251هـ= 1835م) وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت المدرسة داخلية يحكمها النظام العسكري الصارم، وبعد عام ألغيت مدرسة الجهادية من القصر العيني، واختصت مدرسة الطب بهذا المكان، وانتقل علي مبارك مع زملائه إلى المدرسة التجهيزية بأبي زعبل، وكان نظام التعليم بها أحسن حالاً وأكثر تقدمًا من مدرسة القصر العيني.

وبعد أن أمضى علي مبارك في مدرسة أبي زعبل ثلاث سنوات اختير مع مجموعة من المتفوقين للالتحاق بمدرسة المهندسخانة في بولاق سنة (1255 هـ= 1839م)، وكان ناظرها مهندس فرنسي يسمى “يوسف لامبيز بك”، ومكث علي مبارك في المدرسة خمس سنوات درس في أثنائها الجبر والهندسة والطبيعة والكيمياء والمعادن والجيولوجيا، والميكانيكا والديناميكا، والفلك، ومساحة الأراضي وغيرها، حتى تخرج فيها سنة (1260هـ= 1844م) بتفوق، إذ كان أول دفعته باستمرار.

البعثة إلى فرنسا

اختير علي مبارك ضمن مجموعة من الطلاب النابهين للسفر إلى فرنسا في بعثة دراسية سنة (1260هـ= 1844م)، وضمت هذه البعثة أربعة من أمراء بيت محمد علي: اثنين من أبنائه، واثنين من أحفاده، أحدهما كان إسماعيل بك إبراهيم، الذي صار بعد ذلكالخديوي إسماعيل، ولذا عُرفت هذه البعثة باسم بعثة الأنجال، واستطاع بجِدّه ومثابرته أن يتعلم الفرنسية حتى أتقنها، ولم يكن له سابقة بها قبل ذلك، وبعد أن قضى ثلاث سنوات في المدرسة المصرية الحربية بباريس، التحق بكلية “متز” سنة (1263 هـ= 1847م) لدراسة المدفعية والهندسة الحربية، وظل بها عامين، التحق بعدهما بالجيش الفرنسي للتدريب والتطبيق، ولم تطل مدة التحاقه؛ إذ صدرت الأوامر من عباس الأول الذي تولى الحكم في (27 من ذي الحجة 1264هـ= 24 من نوفمبر 1848م) بعودة علي مبارك واثنين من زملائه الملتحقين بالجيش، فعادوا إلى جميعًا إلى مصر سنة (1267هـ= 1851م).

في عهد عباس الأول

وبعد عودته إلى مصر عمل بالتدريس، ثم التحق بحاشية عباس الأول مع اثنين من زملائه في البعثة، وأشرف معهما على امتحان المهندسين، وصيانة القناطر الخيرية، ويقوم معهما بما يكلفون به من أعمال الهندسة، حتى أحيل عليهم مشروع “لامبيز بك” الذي كُلّف بإعداد خطة لإعادة تنظيم ديوان المدارس وتخفيض أعباء الإنفاق، فعرض على عباس الأول مشروعًا لتنظيم المدارس تبلغ ميزانيته مائة ألف جنيه، فاستكثر عباس الأول المبلغ، وأحال المشروع إلى علي مبارك وزميليه، وكلفهم بوضع مشروع أقل نفقة.

أدرك علي مبارك هدف عباس، فوضع مشروعًا لإعادة تنظيم المدارس تبلغ ميزانيته خمسة آلاف جنيه، وتقدم به هو وزميلاه إلى عباس الأول الذي استحسنه لأنه يمشي مع هواه في تخفيض الإنفاق، وكلف علي مبارك بنظارة المدارس وتنفيذ المشروع والإشراف عليه، ومنحه رتبه “أميرلاي”، وكان مشروعه يقوم على تجميع المدارس كلها في مكان واحد وتحت إدارة ناظر واحد، وإلغاء مدرسة الرصدخانة لعدم وجود من يقوم بها حق القيام من أبناء الوطن، وإرجاء فتحها حتى تعود البعثة التي اقترح إرسالها إلى أوروبا فتديرها.

وبعد أن تولى إدارة ديوان المدارس أعاد ترتيبها وفق مشروعه، وعين المدرسين، ورتّب الدروس، واختار الكتب، واشترك مع عدد من الأساتذة في تأليف بعض الكتب المدرسية، وأنشأ لطبعها مطبعتين، وباشر بنفسه رعاية شئون الطلاب من مأكل وملبس ومسكن، وأسهم بالتدريس في بعض المواد، واهتم بتعليم اللغة الفرنسية حتى أجادها الخريجون.

في حرب القرم

ظل علي مبارك قائمًا على ديوان المدارس حتى تولى “سعيد” باشا الحكم في (20 من شوال 1270هـ= 16 من يوليو 1854م) فعزله عن منصبه وعن نظارة مدرسة المهندسخانة بفعل الوشاة، وألحقه بالقوات المصرية التي تشارك مع الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، وقد انتهت هذه الحرب المعروفة بـ”حرب القرم” بانتصار العثمانيين.

وقد استغرقت مهمته سنتين ونصف سنة، أقام منها في إستانبول أربعة أشهر، تعلم في أثنائها اللغة التركية، ثم ذهب إلى منطقة القرم وأمضى هناك عشرة أشهر، واشترك في المفاوضات التي جرت بين الروس والدولة العثمانية، ثم ذهب إلى بلاد الأناضول حيث أقام ثمانية أشهر يشرف على الشئون الإدارية للقوات العثمانية المحاربة، وينظم تحركاتها، وأقام مستشفى عسكري بالجهود الذاتية لعلاج الأمراض التي تفشت بين الجنود، لسوء الأحوال الجوية والمعيشية، وبعد عودته إلى القاهرة فوجئ بأن “سعيد” باشا سرح الجنود العائدين من الميدان، وفصل كثيرًا من الضباط، وكان علي مبارك واحدًا ممن شملهم قرار إنهاء الخدمة.

من نظارة المعارف إلى معلم لمحو الأمية

عزم علي مبارك بعد فصله من وظيفته على الرجوع إلى بلدته برنبال والاشتغال بالزراعة، غير أن يد القدر تدخلت فعاد إلى الخدمة بديوان الجهادية، وتقلّب في عدة وظائف مدنية، ولا يكاد يستقر في وظيفة حتى يفاجأ بقرار الفصل والإبعاد دون سبب أو جريرة، ثم التحق بمعية سعيد دون عمل يتناسب مع قدرته وكفاءته، حتى إذا طلب سعيد من “أدهم باشا” الإشراف على تعليم الضباط وصفّ الضباط القراءة والكتابة والحساب، احتاج أدهم باشا إلى معلمين للقيام بهذه الوظيفة، وسأل علي مبارك أن يرشح له من يعرف من المعلمين الصالحين لهذا المشروع، فإذا بعلي مبارك يرشح نفسه لهذا العمل، وظنّ أدهم باشا أن علي مبارك يمزح!! فكيف يقبل من تولّى نظارة ديوان المدارس أن يعمل معلمًا للقراءة والكتابة؟! لكن علي مبارك كان جادًا في استجابته، وعزز رغبته بقوله له: “وكيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن، وبث فوائد العلوم؟! فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه”.

ولما عرض أدهم باشا الأمر على سعيد أسند الإشراف على المشروع لعلي مبارك، فكون فريق العمل، ووضع المناهج الدراسية وطريقة التعليم، واستخدم كل وسيلة تمكنه من تحقيق الهدف، فكان يعلّم في الخيام، ويتخذ من الأرض والبلاط أماكن للكتابة، ويكتب بالفحم على البلاط، أو يخط في التراب، فلما تخرجت منهم دفعة، اختار من نجبائهم من يقوم بالتدريس، ثم أدخل في برنامج التدريس مادة الهندسة، ولجأ إلى أبسط الوسائل التعليمية كالعصا والحبل لتعليم قواعد الهندسة، يجري ذلك على الأرض حتى يثبت في أذهانهم، وألّف لهم كتابًا سماه “تقريب الهندسة”.. وهكذا حول هذا المعلم المقتدر مشروع محو الأمية إلى ما يقرب من كلية حربية.

وما كادت أحواله تتحسن وحماسه للعمل يزداد حتى فاجأه سعيد باشا بقرار فصل غير مسئول في (ذي القعدة 1278هـ= مايو 1862م)

الأعمال العظيمة

تولى الخديوي إسماعيل الحكم في (27 من رجب 1279هـ= 18 من يناير 1863م) وكان قد زامل علي مبارك في بعثة الأنجال، فاستدعاه فور جلوسه على عرش البلاد، وألحقه بحاشيته، وعهد إليه قيادة مشروعه المعماري العمراني، بإعادة تنظيم القاهرة على نمط حديث: بشق الشوارع الواسعة، وإنشاء الميادين، وإقامة المباني والعمائر العثمانية الجديدة، وإمداد القاهرة بالمياه وإضاءتها بالغاز، ولا يزال هذا التخطيط باقيًا حتى الآن في وسط القاهرة، شاهدا على براعة علي مبارك وحسن تخطيطه.

وأسند إليه إلى جانب ذلك نظارة القناطر الخيرية ليحل مشكلاتها، فنجح في ذلك وتدفقت المياه إلى فرع النيل الشرقي لتحيي أرضه وزراعاته، فكافأه الخديوي ومنحه 300 فدان، ثم عهد الخديوي إليه بتمثيل مصر في النزاع الذي اشتعل بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، فنجح في فض النزاع؛ الأمر الذي استحق عليه أن يُكّرم من العاهلين: المصري والفرنسي.

ثم أصدر الخديوي قرارًا في (13 من جمادى الآخرة 1283هـ= 23 من أكتوبر 1866م) بتعيينه وكيلا عامًا لديوان المدارس، مع بقائه ناظرًا على القناطر الخيرية، وفي أثناء ذلك أصدر لائحة لإصلاح التعليم عُرفت بلائحة رجب سنة (1284هـ=1868م) ثم ضم إليه الخديوي ديوان الأشغال العمومية، وإدارة السكك الحديدية، ونظارة عموم الأوقاف، والإشراف على الاحتفال بافتتاح قناة السويس.

ومع ظهور الوزارات كمؤسسات هامة في حكم البلاد سنة (1295هـ= 1878م) تولى علي مبارك ثلاث وزارات: اثنتين منها بالأصالة، هما الأوقاف والمعارف، والثالثة هي الأشغال العمومية.

غير أن أعظم ما قام به علي مبارك، ولا يزال أثره باقيًا حتى الآن، هو إنشاؤه “دار العلوم” ذلك المعهد الذي لا يزال يمد المدارس بصفوة معلمي اللغة العربية، كما أصدر مجلة “روضة المدارس” لإحياء الآداب العربية، ونشر المعارف الحديثة.

مؤلفاته

ترك علي مبارك مؤلفات كثيرة تدل على نبوغه في ميدان العمل الإصلاحي والتأليف، فلم تشغله وظائفه على كثرتها وتعدد مسئولياتها عن القيام بالتأليف، وتأتي “الخطط التوفيقية” على رأس أعماله، ولو لم يكن له من الأعمال سواها لكفته ذكرًا باقيا، وأثرًا شاهدًا على عزيمة جبارة وعقل متوهج، وقلم سيّال، يسطر عملاً في عشرين جزءًا يتناول مدن مصر وقراها من أقدم العصور إلى الوقت الذي اندثرت فيه أو ظلت قائمة حتى عصره، واصفًا ما بها من منشآت ومرافق عامة مثل المساجد والزوايا والأضرحة والأديرة والكنائس وغير ذلك.

وله كتاب “علم الدين” وهو موسوعة ضخمة حوت كثيرًا من المعارف والحكم، ويقع في أربعة أجزاء، تحوي على 125 مسامرة، كل واحدة تتناول موضوعًا بعينه كالبورصة، والنحل وأوراق المعاملة، والهوام والدواب.

وإلى جانب ذلك له كتب مدرسية منها: تقريب الهندسة، وحقائق الأخبار في أوصاف البحار، وتذكرة المهندسين، والميزان في الأقيسة والمكاييل والموازين.

وفاته

كانت نظارة المعارف في وزارة رياض باشا آخر مناصب علي مبارك، فلما استقالت سنة (1309هـ= 1891م) لزم بيته، ثم سافر إلى بلده لإدارة أملاكه، حتى مرض، فرجع إلى القاهرة للعلاج، فاشتد عليه المرض حتى وافته المنية في (5 من جمادى الأولى 1311هـ= 14 من نوفمبر 1893م).


أحمد تمام –   باحث مصري في التاريخ والتراث


هوامش ومصادر:

أمين سامي: تقويم النيل ـ دار الكتب المصرية ـ القاهرة ـ 1916 ـ 1936.
محمد عمارة: علي مبارك مؤرخ ومهندس العمران ـ دار المستقبل العربي ـ القاهرة ـ 1984م.
حسين فوزي النجار: علي مبارك أبو التعليم ـ دار الكتب بالعربي ـ القاهرة ـ 1967.
أنور حجازي: عمالقة ورواد ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.
أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ـ القاهرة ـ 1948م.