يعتبر جامع القرويين بمدينة فاس بالمغرب أول جامعة في العالم، كما كان لها دورها  الحضاري في استيعاب أصحاب الديانات الأخرى؛ فاتخاذ القرارات الحاسمة من بيعة وحرب وسلم كانت تخرج “ممهورة” من علماء القرويين.

تكاد الدراسات التاريخية تجمع على أن مسجد القرويين أو”جامع الشرفاء” بنته فاطمة الفهرية (أم البنين) في عهد دولة الأدارسة في رمضان من سنة 245 هجرية(30 يونيو 859)، ويذكر المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي ـ الذي خصص أطروحته لنيل الدكتوراه، لجامعة القرويين من حيث بناؤها العمراني وأدوارها الفكرية والعلمية ـ ويذكر أن “حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله”

إلا أن هذا المؤرخ لم يستلم لهاته الحقيقة التاريخية، التي تواترت في نقلها عدة مصادر تاريخية، بل يحاول التدقيق في علميتها بعد اكتشاف وثيقة تعود إلى عصر الأدارسة (إحدى الدول التي حكمت المغرب)، توحي أن المسجد بناه السلطان داوود: “هذه حقيقة تاريخية لا يسمح الباحث لنفسه بالاستسلام للشك فيها والتردد أمامها، سيما وهي ترجع لوقت مبكر من تاريخ المغرب، أعني وقت بني مرين أوائل القرن الثامن الهجري، بيد أننا نجد أنفسنا اليوم أمام وثيقة معاصرة للأدارسة، إنها لوحة منقوشة عثر عليها ـ عند أعمال الترميم ـ في البلاط الأوسط فوق قوس المحراب القديم، الذي كان للقرويين قبل قيام المرابطين بتوسعة المسجد، اكتشفت مدفونة تحت الجبس وقد كتب عليها ـ في جملة ما كتب ـ بخط كوفي إفريقي عتيق: “بني هذا المسجد في شهر ذي القعدة من سنة ثلاثة وستين ومائتي سنة مما أمر به الإمام أعزه الله داود بن إدريس أبقاه الله… ونصره نصرا عزيزا” ليتساءل المؤرخ: هل القرويين من تأسيس فاطمة؟ أو من عمل داود؟

وبعض التمحيص يخلص إلى التأكيد أننا: ” بين احتمالين: فإما أن يكون ابتداء البناء كان في رمضان 245 في أيام يحيى ولكنه استمر إلى سنة 263 أيام داود بن إدريس، وتكون فاطمة استغرقت في صومها كل هذه المدة، ويؤيد هذا الرأي أولا ما استهدفت له البلاد من حالة الجفاف في هذه الأثناء. وثانيا ما تعهدت به فاطمة والتزمت من استخراج كل موارد البناء من نفس البقعة تحريا. وثالثا أن المصادر التاريخية إنما تحدثت عن ابتداء البناء ولم تتحدث عن انتهائه، فكل هذا مما يبرر استغراق كل هذه المدة.

بيد أن المؤرخ لا يركن لهاته الخلاصة ويريح الضمائر، بل يضيف متسائلا:” بقي أن يتساءل عن اختفاء اسم فاطمة من اللوحة مع أن النصوص المذكورة تتضافر على أنها المؤسسة؟

ويجيب:”إننا نعلم أن التقاليد القديمة لا تلح في ذكر أسماء النساء على المباني، سيما مع ما أثر من أن الشعوب قد تقوم بالمشاريع وترجو إلى الملوك تبنيها تقديرا لهم وتكريما لمقامهم”.

أول جامعة عالمية

ويؤكد الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني، رحمه الله، في كتابه “:”فاس: عاصمة الأدارسة” أن جامعة القرويين تعد أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين: فقد “تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180. ثم تأسست جامعة بادوا سنة1222 م، ثم جامعة أكسفورد عام1249 م، ثم جامعة كمبدرج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة1243م.

أما جامعة القرويين فهي أسست عام (245هـ=859م) فهي أقدم جامعة ظهرت قبل أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات. وجامع الأزهر بناه جوهر المغربي سنة 360هـ، ولم يتخذ معناه الجامعي إلا سنة547هـ، فالقرويين أقدم من الأزهر بـ125 عام، وأقدم من الأزهر جامعة بـ302 عام.

وقد ذكر “دلفان” في كتابه “حول فاس وجامعتها والتعليم العالي بها” المطبوع سنة1889 أن: “فاس هي دار العلم وأن القرويين هي أول مدرسة في الدنيا”

وفي كونها أقدم من جامع الأزهر، يذهب الدكتور عبد الهادي التازي إلى تأكيد ما أشار إليه الشيخ الكتاني، راجيا ألا يكون ذلك من قبيل العنصرية أو الميل النفسي إلى القرويين، ويقول: “القرويين تاريخيا أقدم من الأزهر، فقد بنيت قبل الأزهر، ثم أريد أن أقول ولا أخجل أن أقولها أمام زملائي وإخواني الأزهريين، إن القرويين ميزتها أنها منذ أسست وهي تؤدي واجبها العلمي من غير انقطاع، أما الأزهر فقد مرت بظروف كانت فيها معطلة، والأزهر مرت بظروف كانت فيها العربية ميتة، الأزهر مرت بظروف كان الناس لا يهتفون إليها، بينما القرويين، حتى في الظروف التي تمر فيها كانت لا تنقطع عن الدراسة، وأنا لا أنقص من دور الأزهر”(مجلة الفرقان المغربية، عدد54 سنة2006).

الأدوار الاقتصادية للقرويين

“المغرب هبة القرويين”، هذه هي العبارة أحكم نسجها الدكتور أحمد الريسوني، وهو يتحدث ضمن عن موضوع “العمل الأهلي من الجامع إلى الجامعة: نموذج القرويين”، يقول الريسوني: “حق لنا ولها(أي جامعة القرويين) أن نقول في حقها “المغرب هبة القرويين” وهو أصح وأحق من قولهم قديما: “مصر هبة النيل”.

وبعدما تحدث عن عمل فاطمة أم البنين، التي أنفقت من مالها الحلال الذي ورثته عن أبيها الفقيه “أبي عبد الله بن عبد الله الفهري:”لم يكن عملا استثنائيا ولا غريبا، فإن الناس عامة وخاصتهم، قد تعاقبوا على إهداء أموالهم وتحبيس ممتلكاتهم لفائدة القرويين كلما احتاج ودون أن يحتاج. وهكذا صمدت هذه المعلمة ونمت وتطورت وتوسعت حتى أصبحت كشجرة في فاس وثمارها تصل إلى كل الناس”. متسائلا: “كيف تحقق ذلك كله وعلى مدى قرون طويلة؟ من مول وأغدق على القرويين حتى أصبحت أغنى شخص “معنوي” في المغرب؟ من نظم وسير ورعى وحفظ؟ إنه المجتمع بعامته وأغنيائه وعلمائه وأحيانا بمساعدة أمرائه.

وينقل الريسوني كلاما نفيسا للمؤرخ الموسوعي عبد الهادي التازي من كتابه “جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس” عن حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلتها مستقلة ماليا عن خزينة الدولة: “ولما كان الناس يتخوفون أن تلتجئ القرويين في يوم من الأيام إلى مصاريف رجال الدولة، وهم ليسوا جميعا ودائما في مستوى واحد من حيث الحيطة والحذر، فقد عرف المحسنون والموسرون تلك الحقيقة وعمدوا إلى هذا المسجد يغدقون عليه من “خير وأنظف وأسلم” ما يملكون حتى سحموا مبدأه ويحفظوا شرفه..وغدت ميزانيتها تنافس ميزانية الدولة، بل إن الدولة استقرضت من خزينتها في كثير من الأحيان.. عند الأزمات الداخلية وعند ظروف الحرب، التي فرضت على البلاد، وعند بناء المرافق والجسور الحيوية في البلاد.بل وتوافرت أوقاف القرويين، فأفاضت منها على سائر مساجد فاس وسرت أوقافها الزائدة حتى المسجد الأقصى بالقدس، وحتى الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة وإلى كل الجماعة الإسلامية في كل جهات المعمور..وفضلت أحباس القرويين فشملت مشاريع الإحسان والبر بكل ما تشمله من نواحي إنسانية واتسعت مواد السجلات حتى شملت الوقف على”قبر مجهول”.

ويشير المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن “قاضي فاس عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة723 هـ، أمر بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين ولم يستثن من ذلك إلا من أدلى برسم أو شهادة معادلة تثبت الملكية من قبل قباضة الحبس”. وهو ما قام به أيضا السلطان أبي سعيد المريني والمولى الرشيد في أواخر دولة السعديين والمولى سليمان العلوي..

وهذا ليس غريبا عن فاس وجامعتها أو استثناء، إذ ذكر الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني مجموعة من الأوقاف يكفي ذكر أسمائها ليعلم كل مسلم أن الاهتمام بالوقف، كان أصلا مغربيا فهناك: وقف للتزويج، ووقف للدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات (للمجانين)، ووقف الموسيقى(الأندلسية)، وأوقاف العرائس (لتجهيز العرائس الفقيرات)، ووقف الأواني (للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة)، ووقف الديون (القرض الحسن)، ووقف الطيور (طيور اللقلاق أو (“بلارج” بالمغربية). (ينظر كتابه:”فاس عاصمة الأدارسة”من الصفحة47 إلى 51).

الأدوار العلمية

يمتد الإشعاع العلمي للقرويين منذ العصر الإدريسي إلى وقت الناس هذا، حيث لم يقتصر التدريس على العلوم الشرعية، بل اتسع ليشمل باقي علوم الحياة والعلوم العقلية والطبية.

واشتهرت فاس وجامعها بالعمق العلمي، حتى شاعت بين علماء فاس مقولة أن: “العلم ولد بالمدينة، وربي بمكة، وطحن بمصر، وغربل بفاس”.

وانتشرت في أرجاء القرويين كراسي العلم وخصصت لها أوقاف، واعتبر كرسي العلم في جامعة القرويين ولاية حكومية عليا كالوزارة والقضاء والفتوى، يقول صاحب كتاب “فاس عاصمة الأدارسة”: “ذكر مترجمو محمد بن إدريس العراقي ـ إمام النحاة في عصره ـ عنه أنه ولي تدريس كرسي سيبويه بالقرويين..وقالوا عن عبد الواحد الونشريسي أنه جمع بين خطط الولايات الثلاثة: الفتيا بفاس والقضاء بها والتدريس بالقرويين.. وعن فاس أخذت الدنيا بعد ذلك نظام كراسي العلم والأستاذ الجامعي الكبير”.

وقد سميت القرويين بالجامعة، لأنها مكان تلقى فيها دروس للجميع من طلاب وحرفيين، ومحاضرات يحضرها الرجال والنساء والأطفال، والولاة والقضاة والموسيقيين. وتخرج منها فقهاء المذاهب الفقهية السنية، مع التركيز على المذهب المالكي، لأنه المذهب الاجتماعي السائد في البلاد، وقد تبلور فيما كتبه أعلامه الذين احتفظوا بالأعراف والعوائد المكونة لشخصية المجتمع في كتب النوازل والأحكام الفقهية.
كما كانت هيئة التدريس تعين بظهائر سلطانية وتحصل على مرتباتها الرسمية من إدارة الحبوس، وكثيرا ما تدخل السلطان لتحديد البرامج الدراسية واستبعاد المواد التي لا تلائم التوجه الديني السلطاني. ولم ينحصر الإشعاع العلمي لفاس عامة وللقرويين خاصة على الذكور، بل نبغت عالمات وأديبات وسياسيات وفقيهات وقارئات ومحدثات..

ولم يكن العلماء المتخرجون من جامعة القرويين منعزلين عن تسيير الشأن العام في مختلف مجالاته، ولكنهم كانوا يبتون في القضايا المحلية والمعاهدات الدولية ويبايعون السلطان، ولا تتم البيعة إلا إذا كانت ممهورة(موقعة) بتوقيعات العلماء، فيكتسب السلطان المبايع هيبة اجتماعية إضافية.


عبدلاوي لخلافة – صحفي مغربي.