بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن مياه الصرف الصحي إذا عولجت بأية طريقة تفصل النجاسة تماما عن الماء الأصلي الذي اختلطت به، بحيث يعود ماء مطلقا خاليا من النجاسة، فقد أصبح ماء طاهرا مطهرا، يستعمل في نحو الوضوء والغسل وتطهير الثياب وغيرها .

يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ رئيس لجنة تحقيق التراث بالكويت ـ:
قد ثبت قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” الماء طهور لا ينجسه شيء ” ، رواه أحمد وصححه ، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ، وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الماء في ذاته وخاصيته طهور أبداً ، وهو يزيل النجاسة من الماء ويحملها ، ولكنه لا يتغير بها تركيبه الكيميائي ، ولذلك فإنه متى فصلت النجاسة عن الماء ، عاد الماء كما كان طهوراً لا ينجسه شيء .

وقد قام الإجماع على أن الماء إذا غلبت عليه النجاسة التي يحملها وغيرت صفة من صفاته الثلاث ( اللون أو الطعم أو الرائحة ) فإنه يكون نجساً لا يجوز التطهر به . أما إذا كانت النجاسة يسيرة ، والماء كثير ، ولم تتغير صفة من صفاته ، لا لونه ولا طعمه ولا رائحته فإنه يكون طاهراً مطهراً . وأما الماء القليل الذي وقعت به نجاسة متيقنة فإنه يكون نجساً ، وإن لم تتغير أوصافه.

وقد استفيد هذا من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده ، ولا على ما وضعها ” رواه أبو داود ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (718) ، وللأحاديث السابقة ولقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” الماء طهور لا ينجسه شيء ” نستفيد من الأحكام الآتية من عملية فصل النجاسة عن الماء بأي صورة من صور الفصل والمعالجة :

– الماء لا ينجس في ذاته ، ولا يستحيل نجساً ، وإنما تتغير صفاته بما يحمله من نجس فيكون نجساً لحمله النجاسة ، ويكون طاهراً إذا حمل شيئا طاهرا كالملح والطين والسكر والروائح الطاهرة وعصارات الأعشاب..الخ .

– إذا عولج الماء النجس وفصلت منه النجاسة فصلاً كاملاً عاد طاهراً مطهراً كأصل خلقته. وإذا بقيت فيه نجاسة بعد المعالجة فالحكم عليه بحسب غلبة النجاسة ، فإن كانت بقايا النجاسة مغيرة لإحدى صفاته الثلاث : اللون أو الطعم أو الرائحة ، فإنه يبقى نجسا ً، وإن تمت المعالجة حتى يعود الماء كما هو في أصل الخلقة فهو طهور . وإن بقي به نجاسة يسيرة لا تغير أوصافه فهو من العفو إن شاء الله تعالى .

– والماء المعالج الطاهر ، الذي فصلت منه النجاسة ، وعاد طاهراً يجوز استعماله في كل ما يستعمل فيه الماء الطاهر المطهر كالغسل ، والوضوء ، وتطهير الثياب والأماكن .

– إذا كان الماء المعالج قد عولج معالجة جزئية ، وبقيت أوصافه كلها أو بعضها متغيرة فإن هذا يجوز استخدامه في الري والزراعة في محاصيل يأكلها الإنسان والحيوان ، ولكن لا يجوز استعماله في الطهارة .

– إذا حقن الماء المعالج أو مياه الصرف والمجاري قبل المعالجة في الأرض مرة ثانية ، وتم تسريبه خلال طبقات الأرض ، ودخل إلى الآبار ، فإن حكمه هو حكم المعالج ، فإذا وصل إلى الآبار أو المضخات ، وتم رفعه ، وقد فصلت عنه النجاسة فصلاً كاملا ً، وعاد إلى أصل خلقته دون رائحة ودون لون أو طعم إلا طعم الماء ، فهو ماء طاهر مطهر، وأما إذا كان فاقداً لخواص الماء الطاهر فحكمه حكم الماء النجس .

– ولا يخفى أن استخدام الماء في الشرب والطعام له أحكامه الخاصة ، وهذا يخضع إلى العوامل الصحية فإن الماء قد ينصح باجتنابه في الشرب والطعام ، إذا كانت فيه أنواع من البكتريا الضارة ، أو العوالق والمذابات الضارة ، ومعلوم أن مثل هذه الأشياء لا يحكم بها على عدم طهورية الماء ، ولكن يحكم بها على عدم صلاحيته للشرب ، وفرق بين هذا وهذا . انتهى كلام الشيخ

وقد جاء في مجلة البحوث الإسلامية ـ بتصرف ـ :
1-قال الجمهور: تطهير المياه إما بصب ماءٍ طهور عليها، أو نزح بعضها، أو زوال التغير بنفسه. إلاّ أن الشافعية والحنابلة يشترطون فيما نزح بعضها بان يبقى بعد النزح قلتان فأكثر، وللمالكية في النزح قولان.
2-وقال الحنفية: يطهر الماء النجس بنزح مقدار منه ، لكن يختلف مقدار ما ينزح لتحصل به الطهارة للباقي باختلاف نوع النجاسة واختلاف أحوالها.
فالجمهور يرون تغير الماء بنفسه إما بالشمس أو غيرها سبباً في طهارته ، لأنه استحال إلى شيءٍ طاهر.
وقد اختلف العلماء في الاستحالة.
1- فقال الحنفية والشافعية وهي رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية : يطهر الشيء باستحالته عن النجاسة ، واستدلوا بما يلي:
أ – أن عين النجاسة قد زالت واستحالت فلم يبق لها أثر فينبغي أن ينتفي حكمها ، لأنها صارت من الطيبات ، والله تعالى . قال ابن حزم: (إذا استحالت صفات[ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ]يقول: عين النجس أو الحرام فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم وانتقل إلى اسمٍ آخر وارد على حلالٍ طاهر فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئاً آخر ذا حكم آخر) .
ب- القياس على ما يطهر بالاستحالة كالمسك فإنه طاهر مع أنه من الدم ، لأنه استحال عن جميع صفات الدم ، والخمرة تطهر إذا انقلبت بنفسها خلاً، والدم يصبح منياً، والعلقة تصبح مضغة، ولحم الجلالة الخبيث يصبح طيباً إذا علف الطيب، وما سقي بنجس إذا سقي بالماء الطاهر، والجلد يصبح طاهراً بعد الدبغ.
قال ابن تيمية (رحمه الله):
وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحاً في الملاحة أو صارت رماداً ، أو صارت الميتة والدم والصديد تراباً كتراب المقبرة فهذا فيه خلاف ، ثم قال: والصواب أن ذلك كله طاهر إذ لم يبق شيء من النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها.
وقال ابن قدامة (رحمه الله):
يتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة.
وإن قيل : إن الخمر إذا انقلبت خلاً بنفسها طهرت، وإذا خللت لم تطهر فيقاس عليها غيرها. أجيب : إن الخمر إنما لم تطهر لأنه يحرم تخليلها، ولأن اقتناء الخمر حرام فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرماً.
2-وقيل :إن النجاسات لا تطهر بالاستحالة وهي وراية عن أحمد وقول لمالك، وللشافعي فيما نجاسته عينية كالميتة ، واستدلوا بما يلي:
أ- أن النجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر بها كالدم إذا صار قيحاً وصديداً.
ب – واحتياطاً للشك في النجاسة.
ج – ولأن الأجزاء الجديدة هي تلك الأجزاء السابقة للنجاسة.
د- قياساً على الجلالة فمع أن النجاسة استحالت لم يحكم بطهارتها.
ونوقش بأن النجاسة قد زالت ، وأما الجلالة فإنها تطهر بإطعامها الطاهر.
والراجح هو طهارة مياه الصرف الصحي إذا زالت النجاسة تماماً لزوال أوصافها وهي اللون والطعم والرائحة فتعود المياه إلى أصلها وهو الطهورية وإن كان ينبغي للمسلمين اجتنابها اكتفاءً بالمياه الأخرى ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً احتياطاً ، ولأن النفس قد تعاف تلك المياه وتستقذرها، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
والله أعلم .