عبد الغني بوضره

تتشكل فسيفساء مادة كتاب “قيمة القيم” للدكتور المهدي المنجرة من مجموعة من النصوص التي يعود معظمها للفترة ما بين 1977 و2005، وهي إما محاضرات له في مؤسسات دولية، أو حوارات مبثوثة في الصحف والإنترنت، أو مقالات متناثرة هنا وهناك.

وخلص “المنجرة” بعد ثلاثة عقود من الكتابات المتنوعة والتأملات المستقبلية حول صيرورة العالم بشقيه الشمالي والجنوبي إلى دور القيم في تماسك وانحلال الروابط المجتمعية والحروب العصرية؛ وهو ما أوحى إليه بضرورة إصدار كتابه “قيمة القيم”.

ويتناول المنجرة -من خلال الكتاب الذي يقع في 323 صفحة- تصورات مستقبلية لعالم تصدع بفعل تهميشه لقيمه، مبرزا عبر ثلاثة محاور أساسية للكتاب العلاقة بين القيم والمجتمع، والعلاقة بين القيم والإبداع، ومكانة الذاكرة بوصفها قيمة لا تقبل النسيان أو التناسي.

يرى المنجرة أن القيم والأهداف والحاجيات تختلف من جيل لآخر؛ ولذلك لا يحق لأي أحد فرض منظومة القيم التي سينتج عنها تصور جامد للتنمية، ومن هذا المنطلق فإنه لا يعقل أن يتم فرض وصفات شاملة وموحدة لحل مشكلة التنمية التي لا تقبل بحلول نهائية، باعتبار أن أحد أسباب الوجود لدى الإنسان هو البحث الدائم عن سبب الأشياء، وأن المعايير تتغير، والقيم الاجتماعية والثقافية محور غائب عند بعض الاقتصاديين في نماذجهم، مع العلم بأنها تلعب دورا أساسيا.

ويؤكد الكتاب أنه لا قيمة للحضارة إلا إذا كان هناك بُعد للنظر، وإيمان وراء هذه الرؤية؛ إذ إن أعز ما يملك الإنسان هو “هويته الثقافية”.

القيم ومنظومة التنمية

شكّل دور القيم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الدوام انشغالا كبيرا في كل أنشطة وحياة وكتابات “المهدي المنجرة”؛ إذ يحث على إعطاء الأسبقية لمنظومة القيم، ويؤكد أن الأزمة الحالية بين الشمال والجنوب هي أزمة النظام العالمي برمته؛ وهو ما يوجب على الأفكار وعالم الإبداع ألا يخضع لنفس المقاييس التي تنطبق على المنتوجات الفلاحية والصناعية؛ فالميدان الثقافي لا يتم احتلاله كما يتم احتلال ساحة المعركة؛ لأن كل ما يمكن أن نتوصل إليه من نتائج هو تكريس “الإثنو- مركزية” والهيمنة الثقافية التي تطبع موقع عدد كبير من الدول الغربية من جهة، وتأجيج مقاومة أغلب الشعوب للاعتداءات ذات الصبغة الثقافية من جهة أخرى.

وشدد “المنجرة” على أن تكون التكنولوجيات الجديدة في خدمة السكان اقتصاديا واجتماعيا، وأن يحس هؤلاء بأن حاجاتهم وانشغالاتهم تحظى بالاهتمام، مع عدم إغفال البعد الثقافي والاجتماعي. وفي هذا الصدد، يؤكد على حماية القيم الثقافية؛ إذ إن التنوع برغم كونه مصدر غنى، فإنه ينبغي بأي حال من الأحوال ألا يكون باعثا على فقدان الشخصية والتاريخ والماضي والذاكرة تحت دعوى الانفتاح. وبهذا الخصوص يبدو النموذج الآسيوي ذا أهمية كبيرة؛ فهذه الرقعة من العالم أدركت أهمية القيم الثقافية، وهكذا أصبح التعليم العلمي والتقني والجامعي عندها يتم كله باللغات المحلية؛ ويبدو أن البلدان التي لم تستعمل لغاتها في ميدان العلوم والتكنولوجيا، لن يكتب لها النجاح في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي.

ورأى المنجرة أنه من الضروري فهم أسباب هذا الفقر وعدم الاقتصار على بعض الصدقات التي لا تعوض روح المحبة؛ إذ لا تنمية مع هذه الصدقة (المساعدات والمعونات).

الكونية والمساواة

الاقتراب من القيم الكونية التي يتبجح بها الآخر نصل إليه -في نظر “المنجرة”- عندما تتساوى حياة أمريكي وإسرائيلي مع حياة أي مواطن من ساكني العالم الثالث.

فالقيم الكونية -حسب الكتاب- هي نتاج تداخل وتفاعل للاختلافات المرتكزة على العدالة والإنصاف المطبق دون تمييز عرقي، أو عقائدي، أو جنسي أو اجتماعي.

وانتقل المؤلِّف إلى إبداء رأيه في “النظام الأممي” الذي لن يكون فعالا إلا حين يتم التوصل إلى اتفاق حول مقاصده على أسس قيم مختلفة تماما عما جاء في ميثاق سان فرانسيسكو لسنة 1945.

فالناس في نظر المنجرة “لا يسلكون طريق الحرب من أجل النفط أو الاقتصاد، ولكنهم يتحاربون من أجل الدفاع عن قيمهم”، مشيرا إلى أن المفكر العربي ابن خلدون أعطى أهمية كبيرة للقيم وضرورة المحافظة عليها وتجديدها.

موضوع القيم أصبح يقتصر على بقاء الحال على ما هو عليه، وموضوع العلاقات الإنسانية أصبح غير ذي علاقة ووجب إهماله. أما موضوع التصورات فقد أصبح نادر الذكر إلا في مجالات الفنون، والتوازن الجديد بين هذه العناصر يعد مطلبا أساسيا للتعلم المجدد، وخص بالذكر القيم والعلاقات الإنسانية والأدوات؛ فهذه كلها انخفضت قيمتها، ولا بد من ردها وإعادتها إلى مكانتها في مجالات التعلم إذا كانت تنمية التعلم المجدد لها أهميتها.

وباعتباره خبيرا في المستقبليات فالمستقبل عنده يظل دائما مفتوحا على مصراعيه؛ ومن هنا فإن مستقبل الإنسانية سيكون بلا ريب مرهونا بالقيمة التي سنمنحها للحياة الإنسانية بدون تمييز، وفي إطار احترام متبادل للقيم؛ فلا تنمية بدون احترام حقوق الإنسان.

كذلك فإن القيم عنصر أساسي في توليد المعرفة، وتطورها مقيد لهذه المعرفة؛ ومن ثم لا توجد معرفة واحدة محايدة تماما؛ ولذا فالقيم تساعد على فهم منابع المعرفة وقالبها وهدفها؛ فللقيم تأثير على التواصل الثقافي في العلاقات الدولية التي ما زالت تعاني من نزعة قومية قوية.

وعند تركيزه على منظومة القيم، أوضح أن الأزمة الحالية بين الشمال والجنوب لن يتم حلها بحلول ترقيعية هنا وهناك، ويرى أن أزمة النظام تستوجب إعادة تجديد الأهداف والمهمات والبنيات، مع إعادة توزيع السلطة والموارد، حسب قيم مغايرة لتلك القيم التي سببت الأزمة واختلال النظام الحالي.

التنوع والوحدة

الإسلام -في نظر المنجرة- ليس دينا فحسب، ولكنه رؤية ومشروع مجتمعي ونظام لقيم مجتمعيةثقافية؛ فهو نظام يدافع عن مبدأ التعددية الثقافية، وهذا أحد الأسباب التي ساهمت في نجاحه وسرعة انتشاره؛ فالإسلام لم يدعُ إلى فرض نظام ثقافي متجانس.

وهذه القيم التي يحملها الإسلام لا تتعارض مع القيم الإنسانية والكونية التي يدعو إليها المنجرة، بل منها ينطلق ويقتبس، ونجده يستدل بقول “المهاتما غاندي“: “أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي بكل حرية، إن أمكن ذلك، لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية”.

فإذا كان تاريخ البشرية يعد بآلاف السنين، فإنه من الأهمية بمكان الرجوع إلى النسب المعقولة للتاريخ، والكشف عن أن “الكونية” امتداد في المكان، وأيضا في الزمان.

فالمشكل هنا ليس مشكل يمين أو يسار، ولكن هل نحن إنسانيون أم لا؟ وهذا هو التحدي الحقيقي.

أكد المنجرة على دور القيم الثقافية كمقومات أساسية للتنمية، وأشار إلى أن أسباب النزاعات المستقبلية ستكون ذات طبيعة ثقافية، فبمقدور الآخر أن يفجر المدن ويخرب المباني، لكنه لن يستطيع فعل ذلك بالقيم التي هي أصلب العناصر في المكونات الاجتماعية الثقافية في كل المجتمعات، والحل الوحيد لتفادي مثل هذه الحروب هو توفير جو أفضل من التواصل الثقافي، وبغير القيم تصبح السياسة بدورها مستحيلة، ويصبح الاختيار في مجالات الأهداف والبرامج والإستراتيجيات أمرًا غير ممكن.

ومع ذلك فإن الكمال ليس من طبيعة هذا العالم، وخصوصا فيما يتعلق بمنظومة القيم، ومن ثم هناك ضرورة للاستعداد لبعض التحولات، عندما يتعلق الأمر بتكيف وتطور القيم في المستقبل، وأهمها القيم التي تمس بنية الأسرة؛ فهناك توجه كبير في معظم دول البحر المتوسط بخصوص مفهوم العائلة وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونلاحظ أن وضع المرأة مهم في هذا المجال؛ فكل تحسين حقيقي لهذا الوضع لن يتحقق إلا بتغيير حقيقي لمنظومة القيم الناتجة عن بنية الأسرة.

الفوبقراطية أو الحكم بالخوف

أكد “المنجرة” أن للغرب ثلاثة هواجس أساسية هي: “الديمغرافية والإسلام واليابان”، ورأى أن هواجس وانشغالات وهموم اليوم هي التخوف من الهجرة الذي عوض هاجس الديمغرافية، والخوف من الصين الشعبية التي عوضت اليابان، فيما زاد هاجس الإسلام في شكل خوف من الإسلام بوجه مكشوف، علما بأن كلمة “السلام” في العالم الإسلامي ينطق بها مليار مرة في الساعة أي 17 مليون مرة كل دقيقة، مستشهدا بقول أحد المفكرين الفرنسيين “ن.ناي” N.Nyeالذي يقول: إن القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة في الشئون الدولية ينبغي أن تتم بواسطة الجذب عوض الإجبار.

فالخاسر الأكبر في حرب الكلمات -حسب المنجرة- هو المجتمع الدولي الذي لم تعد له تقريبا أي مصداقية؛ إذ صرف لهذا الغرض حوالي 600 مليون من الدولارات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط خلال السنة الماضية.

وأشار إلى أن أحداث سبتمبر 2001 دشنت ما أسماه عهد “الفوبقراطية”، حيث أصبح الحكم بالخوف، هذا الخوف الذي تحول إلى استثمارات ضد ما يسمى “الإرهاب”، وهو يساوي 400 مليار دولار سنويا، تصرف عبر العالم ضد هذا الإرهاب الذي لم يخضع لحد الساعة لأي تفسير أو تحديد قانوني دولي مقبول، هذا “الإرهاب” الذي يستثني الإرهاب الآخر -أي إرهاب الدولة- الذي يخلق أكبر الخسائر في الأرواح، ويدمر البنيات التحتية والمعدات.

ويستخلص صاحب “قيمة القيم” أن وراء الحرب المفتوحة ضد الإرهاب تظهر حرب أخرى ضد منظومة القيم؛ فاحترام قيم الآخرين شرط أساسي من أجل الوصول إلى فهم نسبية مفهوم “القيم الكونية” التي تمكن من تسهيل عملية التواصل الثقافي بين الشعوب بدل الإلحاح على “التكييف” بتقاليد (كونية) مفبركة ومختزلة على مستوى الزمان والمكان البشري.


صحفي مغربي