روى الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة يبلغ به النبي : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى ) وفي رواية للبخاري : ( المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى ).
في هذا الحديث بيان لفضل هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول وهو المسجد النبوي والمسجد الأقصى.

فأما المسجد الحرام: فسمي بالحرام لأنه حرم فيه القتال أو لأنه ممنوع من الظالمين، أن يتعرضوا له، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأنه كان في المدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، وفي استقبال عينها حرج ، بخلاف القريب.
وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس، ستة عشر شهرًا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم فسمى المسجد مسجد القبلتين، قال الله تعالى: “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره..”.

وأما المسجد النبوي فهو ثاني المساجد التي تشد إليها الرحال والصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل ، قال رسول الله : “صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
ولقد كان بناء مسجد المدينة هو الدعامة الأولى في تأسيس المجتمع الجديد، لتتوثق صلة المسلمين بربهم من أول وهلة فتقام الصلاة وهي الصلة بين العبد وربه، وتظهر شعائر الإسلام التي طالما حاربها المشركون ، ويشع نور الإسلام الذي طالما حاولوا أن يطفئوه بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

وكان للمسجد رسالته الروحية والعلمية، فهو بيت الله تقام فيه الصلاة، وهو جامعة للعلم والمعرفة، وقد روى البيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعَنَّ غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربه – ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ـ : ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضت عليك؟ فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمنًا وشمالا فلا يرى شيئًا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم وعلى رسول الله .

وأما المسجد الأقصى فله مكانته الجليلة في الإسلام وحسبه تكريمًا ذكر القرآن له وتنويهه بفضله في قول الله تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير”.
وهو أول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، روى الطبري في تاريخه عن قتادة قال: “كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا” وروى البخاري ومسلم قال: قال رسول الله : “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى”.

ومما يدل على فضل بيت المقدس ومكانته أنه أرض المحشر والمنشر ، روى ابن ماجة في سننه عن ميمونة مولاة رسول الله قالت: ” قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ” من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس “. وكان في مدينة القدس عدد كبير من الصحابة والتابعين منهم الصحابي الأنصاري عبادة بن الصامت والصحابي شداد بن أوس .

والذي أسس المسجد الأقصى هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة ، وقد قام سليمان عليه السلام بتجديده ، وقد أشكل ذلك ، لأن باني البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام ، وباني المسجد الأقصى داود وابنه سليمان بعده ، وبينهما مدة طويلة تقرب من الأربعين سنة.
وأجاب عنه أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار بأن الوضع غير البناء ، والسؤال في الحديث السابق عن مدة ما بين وضعيهما ، لا عن مدة ما بين بناءيهما ، فيحتمل أن يكون واضع الأقصى بعض الأنبياء قبل داود وسليمان ثم بنياه بعد ذلك.

والمسجد الأقصى له ارتباط وثيق بعقيدتنا وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين فهو مقر للعبادة، ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء وبدء رحلة المعراج، وقد مر رسول الله في رحلته إلى المسجد الأقصى بالبقعة المباركة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام ، وهي طور سيناء فصلى بها ركعتين بالبقعة.
ومر بالبقعة المباركة التي ولد فيها عيسى عليه السلام وهي بيت لحم فصلى بها ركعتين ، ثم وصل إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في جمع من الأنبياء والرسل ، فصلى بهم جميعًا ثم عرج به إلى السماء فرأى من آيات ربه الكبرى.

ولما عاد رسول الله من هذه الرحلة المباركة وأخبر قومه ، فمنهم من صدق ومنهم من كذب، وذهب بعضهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخبروه فما كان جوابه إلا أن قال لهم والله لئن كان قاله لقد صدق، قالوا: تصدقه على ذلك، قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء.. وقد تمادى القوم في لجاجهم وحوارهم يسألون الرسول في تعنت عن بيت المقدس ، ومنهم من كان قد رآه وظنوا أنهم بهذه الأسئلة سيوقعون الرسول في حرج ، ولكنه وهو المؤيد من قبل ربه قد وصف لهم بيت المقدس وصفا كاملا.
وكان أبو بكر كلما وصف لهم الرسول وصفا يقول: صدقت أشهد أنك رسول الله ، ثم أخبرهم عن عيرهم وعن أحمالها وعن دقائق الملابسات ووصفها أكمل وصف.

وفي رحلة الإسراء والمعراج فرض الله سبحانه وتعالى الصلاة وهي الصلة القوية بين العبد وربه وكانت القبلة آنذاك هي صخرة بيت المقدس حيث أمر الرسول باستقبالها وكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو يستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر الرسول إلى المدينة تعذر عليه أن يجمع بينهما عندئذ أمره الله تعالى أن يتوجه إلى بيت المقدس واستمر على ذلك نحو ستة عشر شهرًا.

وكان يدعو ربه ويبتهل إليه أن تكون وجهته إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام ، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت الحرام، فخطب الناس وأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها صلاة العصر، وفي هذا يقول الله تعالى: “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون . (انتهى) .


يقول أ.د / أحمد عمر هاشم ، رئيس جامعة الأزهر