عبد الله التفراوتي

محمد المنوني

  عرف العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني، بجهوده الكبيرة في البحث العلمي التاريخي، وتقصي خزائن التراث المغربي، وإبراز مزاياه وخصوصياته في ميدان التراث العربي والإسلامي، فكان مرجعا هاما وأساسيا ومصدرا للخبرة والضبط والتوثيق.

وعندما نذكر كلا من حسن حسني عبد الوهاب، ومحمد أبو شنب في تونس والجزائر، نجد شخصية المنوني تبرز في المغرب بجلاء لدوره وتأثيره العلمي والمعرفي. أو كما وصفه الأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات الملكية في الرباط بأنه “الخزانة العامرة التي تتحرك على قوائمها في شمم وإباء…”.

التكوين

ولد محمد بن عبد الهادي المنوني في (1915م) في مكناس بالمغرب، وفي عامه الرابع دخل المنوني الكُتاب (المسيد).. حيث حفظ القرآن وتعلم الكتابة والقراءة وحفظ بعض المتون في الفقه والحديث.. ثم تفرغ بمكناس للتفقه في مختلف العلوم خاصة الفقه، حيث درس أهم المصنفات الفقهية المغربية كـ”مختصر خليل” و”المرشد المعين”.. ثم التحق “بجامع القرويين”، ومكنه ذلك من الاطلاع على “خزانة القرويين” التي كانت منبعه المعرفي الأول حيث جلس إلى حلقات مشيخة فاس ليدرس أمهات المصنفات، وليرتقي من الثانوي إلى العالي حيث آثر الالتحاق بالشعبة الشرعية.

وقد توجت هذه السنوات من التحصيل سواء في الدروس النظامية أو التطوعية بأن تكونت لدى الفقيه المنوني حصيلة علمية مهمة في مختلف فروع المعرفة من فقه وتفسير وحديث ونحو وبلاغة.. وغيرها. وبعد حصوله على شهادة العالمية، تصدر للتدريس، فدرس “مختصر خليل” ضمن ما درس من مختلف المواد.

ولما تخرج في “القرويين” حاملا الشهادة العالمية، تفرغ للكتابة والتدريس ومتابعة بحوثه التراثية الحضارية، وبعد استقلال المغرب التحق بالمكتبة الوطنية بالرباط ثم الخزانة الملكية في القصر الملكي.. ومكنه كل ذلك من الاطلاع على عيون التراث المغربي، حيث أخذ ينشر أبحاثا تعرف بنفائسه ونوادره وأمهاته.

عاشق المخطوطات

انصبت جهود المنوني -في مجال المخطوط التراثية- في مجالات متنوعة منها:

* العمل المكتبي في الخزانات العامة والخاصة.

* إنجاز الفهارس: تصنيف ما يفوق 200 مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، و400 مخطوط في الخزانة الحسنية بالرباط.

أصدر المنوني عدة فهارس وكشافات منها: “المصادر العربية لتاريخ المغرب: من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر الحديث” و”المصادر العربية لتاريخ المغرب: الفترة المعاصرة”.

هذه المجهودات أنتجت ثروة غنية من الكتابات البيبليوغرافية أهمها: “المصادر العربية لتاريخ المغرب” حيث تناول فيه بالوصف والتحليل 1613 مصدرا، مبينا مضمونها ونسخها.. والكتاب ثروة نفيسة في بابه، وكذلك “فهرس المخطوطات العربية في الخزانة العامة بالرباط” و”منتخبات من نوادر المخطوطات بالخزانة الحسنية بالرباط” و”فهارس مخطوطات الخزانة الحسنية”.

قدم المنوني خدمات جليلة للمخطوط العربي من ناحية التعريف بالمخطوط المغربي ونوادره ونشر تلك الأبحاث في مختلف المجلات والدوريات، كما اكتشف مخطوطات ووثائق نفيسة ومهمة حققها وأضاف إليها مادة علمية مهمة.

كانت منهجيته في التحقيق رائدة في مجال المخطوطات، فاهتم بالتأريخ للمخطوط المغربي سواء من الناحية العلمية -وذلك بإبراز المضمون العلمي للمخطوط المراد تحقيقه- أو من الناحية الفنية -وذلك بالإشادة بالجانب الفني أو المادي للمخطوط- أو ما اصطلح عليه “بالوراقة المغربية”. لذلك فإن فهرسته لمختلف المخطوطات كانت تعتمد بالأساس رصد جميع العناصر المكونة للمخطوط سواء من الناحية المادية أو العلمية أو اللغوية؛ وهو ما جعله موفقا إلى أبعد حد في رصد المخطوط ووصفه وصفا دقيقا.

إعادة كتابة التاريخ المغربي

يعتبر المنوني من أبرز المؤرخين المغربيين، حيث خلف مجموعة من الإنجازات النوعية في مجال التأليف التاريخي، وبذل جهودا مضنية للكشف عن النصوص المغربية المجهولة في بطون أمهات الوثائق بالمغرب، وإبراز آثار اليقظة المبثوثة في أعماق المصادر النادرة. كل هذه المجهودات كانت تستهدف النهوض بمشروع إعادة كتابة “التاريخ الوطني المغربي”؛ ولذا انصبت مؤلفاته حول تاريخ المغرب ومصادره ومخطوطات مكتباته وخزائنه، وواكبت المرحلة التاريخية الممتدة من دخول الإسلام أرض المغرب إلى مرحلة الاستقلال.

وكشف المنوني عن مظاهر مجهولة من حياة الشعب المغربي من الناحية التعليمية والاجتماعية والثقافية، مقدما الأدلة على أن المغرب كان أمة واعية بوحدتها وخصوصيتها. ولذا تمحور مشروعه العلمي حول التأريخ لتاريخ الفكر والحضارة العربية الإسلامية على مختلف المراحل الزمنية في المغرب.

وبالرغم من أن المنوني يعد من رواد المدرسة التاريخية التقليدية التي كان قد أرسى دعائمها نخبة من المؤرخين المغاربة من أمثال: “الناصري” و”ابن زيدان” و”عبد الله كنون” و”محمد الفاسي”، فإن جل ما كتبه المنوني في هذا الصدد لم يسر على خطى هذه المدرسة ومنهجيتها؛ فالرجل لم يغرق في رصد المواضيع ذات الصبغة الإخبارية سواء أكانت تلك المواضيع متعلقة بالجانب السياسي أو العسكري.

والهدف الذي كان يصبو إليه المنوني وهو يؤرخ لمختلف الأحداث والوقائع السياسية التي شهدها المشهد السياسي المغربي في مختلف مراحله التاريخية هو إبراز الهوية الحضارية والثقافية للمجتمع المغربي وتأصيل دولته ومؤسساته.

لذا يمكن القول بأن التاريخ الذي كان المنوني يؤرخ له، لم يكن تاريخا لشخصيات معينة، ولا تاريخا للأسر الحاكمة ورجالاتها، بقدر ما كان تاريخا لمؤسسات الدولة والمجتمع، وتاريخا للحضارة المغربية والنظم الثقافية، ووفقا لهذه الرؤية فإن دلالة الواقعة أو الحادثة التاريخية في كتابات المنوني تتجاوز إطار الزمن العسكري أو السياسي إلى مفهوم أعم يشمل الزمن الحضاري والثقافي. هذا الزمن الذي في ضوئه صيغت مختلف مكونات الشعب المغربي وتشكلت.

وثمة مظهر آخر من مظاهر التجديد في الكتابة التاريخية عند المنوني، يتعلق بتطرقه لمواضيع جديدة ومتنوعة، حيث بحث وكتب في الاعتقادات الشعبية والاحتفالات والتقاليد الدينية.. الأمر الذي كان موضع الإشادة من قبل الكثير من الدارسين، حيث نوه الأستاذ “عبد العروي” في تكريم المنوني بحدسه في طرق مواضيع لم يطرحها أي مؤرخ معاصر.

المنوني والتاريخ الوطني بالمغرب

يقوم منهج المنوني في التأريخ لمختلف الأحداث التاريخية على استنطاق ما تتضمنه المظان والوثائق التاريخية من حقائق وأخبار وحوادث. ويأتي تميزه في الكتابة التاريخية على وجه الخصوص في منهج مقاربته للمواضيع التي يختارها، وفي قوة منهجه التوثيقي للأحداث التاريخية. ثم إن مجهوداته لم تنصب فقط على المراجعة النقدية والمساءلة التقويمية للإرث النظري الاستعماري، وإنما شملت البحث عن المصادر والوثائق التاريخية الجديدة وتحقيقها ودراستها ونشرها، لا سيما ما تعلق منها بماضي المغرب ونظمه السياسية والعسكرية ومؤسساته الإدارية والاقتصادية وإبداعاته الفكرية والحضارية.

ويرى الباحث المغربي “سمير بودينار” أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه “النموذج المنوني” في التأريخ المغربي؛ حيث إن الرجل سلك طرقا جديدة في بناء المتن التاريخي، قادرة على إعطاء الإنسان المعاصر صورة أمينة لما تختزنه تلك الذاكرة الجماعية للمجتمع، فاستعمل النصوص المتنوعة في بناء وصياغة المادة التاريخية.

كما أنه قام بتتويج هذا المنهج من خلال توسيع مجال نظر المؤرخ إلى غير المصادر التاريخية المعروفة، حين استثمر مادة التاريخ الاجتماعي للمغرب كاملة: رحلات ومذكرات وحواش ومراسلات، بل و”تقاييد” لم تكن ترى إلا بوصفها خواطر ومشاهدات ويوميات شخصية لأصحابها، تقرأ إما للاعتبار بجوانب الصلاح أو لاستمداد حكمة فلسفية من تجاربهم الحياتية، أو للتسلية النابعة مما تحويه من نوادر المواقف وطريف الأحداث.

وكان للنص المصدري والوثيقة التاريخية قيمة توثيقية علمية وحضارية كبيرة في كتابات المنوني، وشكلت أهم دعامة في منهجه في الكتابة التاريخية، وهي التي أكسبت أبحاثه التاريخية ومشاريعه العلمية نوعا من التميز والخصوصية. وتتجلى معالم البعد التوثيقي في الكتابات التاريخية للمنوني على الخصوص في حرصه على الالتزام بمنهج الأصالة في التحري والاستقصاء، سواء تعلق الأمر باستنباط المادة التاريخية من بطون المصادر وتصنيفها وتبويبها، أو من حيث العمل على ضبطها وتحقيقها وتحليلها.

لذلك جاءت كتاباته التاريخية موثقة بالنصوص التاريخية، مستوفاة بالشروح والتعليقات المهمة، ومذيلة بالهوامش المفسرة والمراجع التكميلية.

مؤلفات المنوني

خلف المنوني مؤلفات في غاية الأهمية في تاريخ المغرب ومصادره ومخطوطات خزاناته، كما قام بعدة أبحاث ومقالات ومساهمات؛ لذا فإن مصنفاته هذه تعد -في نظر كثير من المهتمين- من روائع البحث المصدري، ومن بين تلك المصنفات:

* “العلوم والآداب على عهد الموحدين” تناول فيه مظاهر ازدهار الحركة العلمية والأدبية والفنية المعمارية في العهد الموحدي.

* “مظاهر يقظة المغرب الحديث” ويعتبر هذا المؤلف من أهم ما كتبه المنوني؛ إذ أبان فيه التطور الحضاري الذي وصل إليه المغرب، والإصلاحات التي حققها على مختلف المستويات التعليمة أو الإدارية أو العسكرية أو الفنية.

* “تاريخ الوراقة المغربية” حوى هذا الكتاب ترجمة ما يناهز 600 شخصية ذات صلة بالكتاب من وراقين ونساخين وموثقين وغيرهم. وتطرق إلى التعريف بالإسهامات المغربية في مجال وضع الكتاب العربي والإسلامي ابتداء من “العصر الإدريسي” إلى “العصر العلوي”.

* “التنبيه المعرب عما عليه الآن حال المغرب” وذلك سنة 1994م، حيث حقق وأخرج نص “الوزير محمد الطيب بن اليماني بوعشرين” المتوفى (1859) حول أحوال المغرب في منتصف القرن الـ (19م).

* “صناعة المخطوط المغربي من العصر الوسيط إلى الفترة المعاصرة” وهو آخر ما صدر له من مصنفات في عالم المخطوطات.

* أما كتابه “مظاهر يقظة المغرب الحديث” الذي صدر في جزأين عام 1985 فيعد من المصادر المعاصرة النادرة في فلسفة تاريخ المغرب من حيث استنباط قوانين النهوض وتجلياته العامة من خلال الأمثلة الجزئية المبثوثة في مظانها المختلفة.

وقد توفي المنوني في عام 1999م في الرباط.