لقد انتهى موسم الحج لهذا العام، انتهى كما ينتهي كل عام، وعاد كل حاج من حجاج بيت الله الحرام بحصيلة وافرة من الخواطر والذكريات والمشاعر التي عاشها وعايشها ورآها وسمعها في رحلته إلى البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة، وتمر على هذه المشاعر والخواطر والمواقف الأيام تلو الأيام، والشهور تلو الشهور، ثم السنين تلو السنين، إلا أن مذاقها الرائع يبقى ملتصقًا بقلب وذاكرة الحاج طوال حياته، ويبقى مدى التصاق هذه الذكريات الرائعة بقلب الحاج بمدى المهابة والمكانة والحب الذي يكنه في صدره لهذه الأماكن الطاهرة.وفيما يلي هذه مجرد مشاعر وخواطر عائد من الحج.


تلك المشاعر والخواطر والذكريات الكثيرة، والمختلطة، والمتضاربة أحيانًا، هي بحق مشاعر إنسانية شتى تنتاب كل من يكتب له الله سلوك سبيل تلك الرحلة الإيمانية الفريدة، رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، كان لرحلتي هذا العام ما يميزها أردت أن أسجلها تحت اسم “مشاعر وخواطر عائد من الحج” وهي مشاعر خاصة أبت إلا الإفصاح عن نفسها عبر كلمات هي أخلاط من المشاعر والخواطر جالت بذاكرتي حول تلك الرحلة، وأدعو الله أن يكون الحج وسيلة لتوحيد وتآلف المسلمين، وتقريب أرواحهم ومشاعرهم، وجمع كلمتهم وصفوفهم…


الرفيق قبل الطريق


في كل رحلة لنا رفقاء، نقضي أوقاتنا معهم، نتعلم منهم ويتعلمون منا، نستفيد منهم ويستفيدون منا، كما أنه لكل رفقة طعمًا خاص بها، وجوًا عامًا يكتنفها، إلا أن رفقة الحج شيء مختلف تمامًا، لا يعرفها إلا من عاشها وجربها وذاق طعمها، فبدون أي جهد يمكن أن يبذله الحاج تجاه رفقته سوف يجتمع قلبه بقلوبهم، ومشاعره بمشاعرهم، ويتآلف معهم رغمًا عنه ولو فرقت بينه وبينهم سهول وجبال من اختلاف اللهجات والأفكار والخلفيات والقوميات، والعجيب أنها كثيرة هي المواد والمقالات والمحاضرات التي تتحدث عن مناسك الحج من حيث الآداب والأحكام والكيفية والجواز وعدم الجواز والحرمة، وغير ذلك من أمور التشريع التي وردت في باب الحج، إلا أنني لا أذكر أنني قرأت عن أهمية الرفقة في رحلة أداء مناسك الحج، ولا أدري فربما يعتبرها البعض أنها من الأمور البديهية ذات طابع التحصيل الحاصل.

رأيت بعد هذه التجربة الرائعة كمشاعر وخواطر عائد من الحج أنه من كمال فضل الله وزيادة كرمه على الإنسان أن يسخر له رفقة طيبة يقضي معها أيام رحلته المباركة لبيت الله الحرام، رفقة إيمانية تكون ذكرًا حسنًا في الأرض وترحيبًا من الملأ الأعلى في السماء، وأحسب أن الله تعالى قد أكرمني في رحلتي بهذه الرفقة الرائعة، متمثلة في أخ عزيز هو مثال في الطهر والصدق والأخلاق والحب والإخاء والذكاء العاطفي.

ذلكم هو الحاج منصور الفيتوري، فما أسعدها من حياة وأنت تجالس الحاج منصور في رحلتك الإيمانية إلى البقاع الطاهرة، وما أسعدها من لحظات ونحن نقضي مناسكنا معًا، نطوف بالبيت معًا، ونسعى بين الصفا والمروة معًا، ونرمي الجمار معًا، ونقف بعرفات معًا، ونبيت في منى أيام التشريق معًا، نترافق في سيرنا على الأقدام المسافات الطويلة، ثم بالحافلة الساعات الطوال بسبب كثرة الزحام، نذكر الله معًا ونتسامر معًا، ونتناقش معًا، يغلبه النعاس، ويغلبني أيضا فلا أصحو إلا وابتسامته المشرقة أول ما أنظر إليه، فسبحان من أنزل الرحمات، ليتراحم بها الأصحاب والأحباب والخلان، وسبحان من أوجد الغرائز القلبية النبيلة التي تتفجر عطفا وحنوا بين المتحابين من بني البشر..

عمر..الطفل المعجزة

غريبة فعلا قصة هذا الفتى البورمي الذي لاقيناه أيام منى، والذي كان عمره لا يتجاوز التسع سنوات، إلا أنه كان يحمل في جوفه وبين جنبات صدره كنزا ثمينا، فبينما كنت أنا والشيخ محمد الجهمي رئيس حملة دار الإيمان ننتظر مجيء الحافلات التي تنقل الحجاج من منى إلى مكة المكرمة، إذ بصبية صغار يبدو وكأنهم من جنوب شرق آسيا، يلعبون في مخيمات منى، حفاة ونصف عراة، ثيابهم متسخة وبعضها ممزق ومقطع، عليهم أثر الفقر والفاقة والحرمان، كان من بينهم طفل عليه علامات النجابة والذكاء، يفترش الأرض ويبيع القهوة والشاي للحجاج في منى، كان وكأنه زعيمهم، يأتمرون بأمره، ويلوذون به عند الحاجة، وأنا أرقب تحركاتهم وسكناتهم، ناديت على ذلك الصبي، سألته: “ما اسمك”. قال: “اسمي عمر”. قلت له: “ومن أين أنت”. قال: “أنا من بورما”. فأخذنا نسأله أنا والشيخ محمد الجهمي، رئيس الحملة، والطفل يجيب عن أسئلتنا وابتسامته المشرقة تعلو محياه الصغير، حتى سأله الشيخ محمد هل تحفظ شيئا من القرآن، فأومأ الطفل برأسه أن نعم، فقال له الشيخ محمد وكم تحفظ من القرآن يا عمر، فكانت المفاجأة التي أذهلتنا، أجاب الطفل بلكنة عربية ضعيفة: “كلّو”، أي يحفظ كل القرآن.

للوهلة الأولى لم نصدق ما يقوله الطفل، وخاصة أنه أتبع إجابته بضحكة قوية متتابعة تستشف من خلالها أنه قد يكون مازحًا أو ربما كاذباً، فبدأ الشيخ محمد في اختبار الطفل، وطلب منه أن يقرأ سورة البقرة، وكأن الشيخ محمد أراد في عجالة أن يعجل بإنهاء الحديث مع الطفل، ويبين له كم كان كاذباً عندما ادعى حفظ القرآن الكريم كاملا، لكن الطفل لم يمهلنا حتى بدأ بقراءة سورة البقرة بصوت ندي تطرب له الآذان، واستمر الشيخ محمد يسأل الطفل، والطفل يجيب، اقرأ بداية سورة آل عمران، والطفل يجيب ويرتل، اقرأ سورة الأنعام، والطفل يجيب، اقرأ سورة التوبة والطفل يرتل، ثم انتقل الشيخ محمد بأسئلته عن مواقع الآيات ونهاية السور، وكأن الشيخ محمد يمعن في قسوة الاختبار، إلا أن الطفل كان يجيب ويقرأ بأحكام وتلاوة وترتيل عجيب، وبعد حديث مطول مع الصبي ومع خاله الذي انضم إلينا لاحقا، تبين أن الطفل عمر يتيم الأب، وهو سليل أسرة محبة لكتاب الله، وله عدد من الإخوة كلهم يحفظ القرآن، ربتهم أمهم بعد وفاة أبيهم على حب كتاب الله عز وجل، والعيش في كنفه.

وانتهى الحديث مع الطفل عمر بأن اتفق أحد الحجاج الذين رأوا المشهد الرائع مع خال الطفل، بأن يتكفل ذلك الحاج بمصاريف ذلك الطفل عن طريق راتب شهري للطفل يكفيه إلى أن يكبر ويتخرج من الجامعة ويتزوج، ويفتح حلقة تحفيظ للقرآن الكريم، ويعلم أبناء المسلمين كما تعلم الطفل عمر.

ليس الشاهد من هذه القصة مسألة الغرابة، أو حداثة سن الطفل البورمي فحسب – وإن كانت غريبة فعلا- فهناك الكثير من أطفال المسلمين يحفظون القرآن ويستجمعونه في صدورهم برغم حداثة أعمارهم، شأنهم شأن الطفل البورمي عمر، إنما الشاهد هو ظروف الطفل عمر القاسية والتي تبدو من خلال ملابسه الرثة التي كان يرتديها، وبيعه للقهوة والشاي مفترشا الأرض، ولا حذاء له يحميه من عوالق ومؤذيات الأرض، على الرغم من أنه من حفظة القرآن الكريم؛ وهو ما يدمي القلب حقيقة،

تساءلت حينها في نفسي ألم يكن حريا بمثل هذا الطفل أن يكرم هو ويكرم أهله معه، وتكرم أمه التي أرضعته حب القرآن الكريم، حتى صار ابنها من أهل الله وخاصته؟ ولعل عمر وجد من حجاج بيت الله من يكرمه ويتكفل به حسب جهده وطاقته وقدرته، لكن هل يجد أمثال عمر من أطفال المسلمين الفقراء والمتميزين من يتكفل بهم ويعينهم على لأواء الحياة وقسوتها؟ نتمنى ذلك.

مع الشيخان عكرمة صبري ورائد صلاح

إن ملاقاة العظماء والأبطال في هذه الحياة أمر تطرب له النفوس وتهفو له الأرواح، وتسعد له القلوب، ولا سيما إذا كان هؤلاء العظماء من أرض الإسراء والمعراج، أرض الرباط، أرض الرسالات، أرض المسجد الأقصى، تلك الأرض الطيبة المباركة المقدسة، فلسطين المحتلة، وفي الحقيقة لا يكاد يذكر الشيخ رائد صلاح إلا ويذكر معه الشيخ عكرمة صبري، والعكس صحيح، فالشيخ عكرمة صبري هو مفتي الديار الفلسطينية، والشيخ رائد صلاح هو رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين، أراضي الـ48، ورئيس مؤسسة إعمار الأقصى، ورئيس بلدية أم الفحم سابقا، وكلاهما قد نذر نفسه للدفاع عن أرض الإسراء والمعراج، وحماية مقدساتها من عبث وكيد ومكر اليهود، وقد أكرمني الله تعالى في حج هذا العام برؤية كليهما.

على الرغم من أن لقائي بالشيخ عكرمة صبري لم يتجاوز بضع دقائق سريعة في باحة الحرم المدني بسبب ارتباطاته الخاصة فإنني أحسب قد أخذت وقتا كافيا مع الشيخ رائد صلاح، فبينما كنت أجلس في رحاب المسجد النبوي الشريف ألمح جموع المصلين يتوافدون إلى بيت الله، وإذ بي فجأة أرى طيف الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين، فلم أتمالك نفسي حتى وقفت قائما ومنطلقا مسرعا نحوه، فأدركته وهو على وشك أن يرفع يديه بتكبيرة الإحرام لركعتي السنة، فكان لي معه كلمات يسيرة لكنها كانت بمثابة الماء البارد على القلب، بحق كانت شخصية الشيخ رائد رائعة أخاذة في غير كبر، متواضعة في غير ذل، هينة لينة في غير ضعف، ترى في قسمات وجهه القوة والعزم والصبر على المضي في طريق المقاومة الذي انتدبهم الله له، وكانوا أحق به وأهله، تسمع في نبرات صوته الأجش الصدق والإخلاص والتوكل والثقة بنصر الله لهم، حقيقة هو كما قال عنه البعض، كأنه قبضة من أرض الإسراء والمعراج، عجنت بنهري النيل والفرات، لوحتها شمس صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفسا عزيزة أبية، تنافح عن القدس، وتذود عن حياض الأقصى، حفظ الله الشيخ رائد وإخوانه وجعله ذخرا للمسجد الأقصى ولفلسطين وأهلها.

وازداد الشوق

تلكم هي مشاعر وخواطر عائد من الحج ، وهي مجرد خواطر ومواقف وذكريات رحلة الحج، إلا أني أكتفي بهذا القدر وأختم بقصيدة رائعة معبرة جدا لا يمكن لمن أراد أن يتناول موضوع الحج أن يتجاهلها، أو يصرف النظر عنها، هي قصيدة عبد الرحيم البرعي رحمه الله، فقد ذكروا أن البرعي في حجه الأخير أُخذ محمولا على جمل، فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي، وأصبح على بعد خمسين ميلا من المدينة، هب النسيم رطبًا عليلا معطرا برائحة الأماكن المقدسة، فازداد شوقه للوصول، لكن المرض أعاقه عن المأمول، فأنشأ وأنشد قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير، قال فيها:

يا راحلين إلـى منـى بقيـادي *** هيجتمو يوم الرحيـل فـؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي *** الشوق أقلقني وصوت الحـادي
وحرمتمو جفني المنام ببعدكـم *** يا ساكنين المنحنـى والـوادي
ويلوح لي ما بين زمزم والصفـا *** عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي يا نائما جـد السُّـرى *** عرفات تجلو كل قلب صـادي
من نال من عرفات نظرة ساعة *** نال السرور ونال كل مـرادي
تالله ما أحلى المبيت على منـى *** في ليل عيد أبـرك الأعيـادي
ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها *** وأنا المتيم قد نحـرت فـؤادي
لبسوا ثياب البيض شارات اللقاء *** وأنا الملوع قد لبسـت سـوادي
يا رب أنت وصلتهم صلني بهـم *** فبحقهـم يـا رب فُـك قيـادي
فإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا *** مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي


أحمد بو قرين