صدقت إذ قلتِ إنك تعلمينَ أن الله جل شأنهُ وحدهُ هو الذي يرفعُ عنك وعنا جميعًا البلاء، وصدقَ من قالوا لك إن ما تعانين منهُ هو اضطرابُ الوسواس القهري، ويا ليتك سألت صفحتنا من بداية تعبك، ولكنها إرادةُ الله، لقد درتِ في دواماتٍ ودواماتٍ لم تفدك إلا بالمزيد من العذاب، قلتِ في إفادتك إنك لجأت إلى طبيبةٍ نفسيةٍ ووصفت لك العلاج منذ أسبوعين، ولكنك لم تشعري بتحسن، ألم تقل الطبيبةُ لكِ ذلك؟؟

إن التحسن في اضطراب الوسواس القهري لا يبدأُ عادةً قبلَ عدةِ أسابيعَ من الاستعمال المستمر للعلاج، وهذه الأسابيعُ قد لا تقلُّ عن أربعةٍ وقد تحتاجين إلى أكثرَ من ذلك فقط لكي يبدأ التحسن، هذه إرادةُ الله وقدرةُ البشر المشتغلين بالطب النفسي حتى هذا اليوم، وأعراضُ الوسواس القهري هيَ ما ذكرت في إفادتك وساوسُ (أفكارٌ تسلطيةٌ يرفضها الشخصُ ويكرهها ويخشاها ويشمئزُّ منها أحيانًا، ويحاولُ جاهدًا أن يتخلصَ منها، لكنهُ لا يفلحُ في ذلكَ، بل إنهُ كلما قاومها ازدادت حدتها) والأعراضُ في حالتك هيَ (الأفكار التسلطية الدينية، التشكيكية أو التجديفية، وإن كنتُ أظنُّ أن لديك أيضًا أفعالاً قهريةً ولم تذكريها بوضوح)، المهمُّ أن هذه الأعراض لا تبدأُ بالتحسن مباشرةً بمجرد تناول العلاج إلا في عددٍ قليلٍ من المرضى صاحبي القابلية العالية للإيحاء، أي الذينَ يصدقونَ بسرعة، ويتميزونَ بسرعةِ تأثرهم بالأحداث، ولكن التحسنَ يتأخرُ في معظم الحالات.

ولعلَّ الأسلوبَ المشهورَ بينَ الأطباء النفسيين هوَ إخبارُ المريضِ بذلك، وإن كانَ بعضهم يفضلُ عدم إخبار مريضه (لأن بعض المرضى يتحسنونَ بأسرع مما نتوقعهُ نحنُ الأطباء، وهم لا يريدونَ أن يفوتوا فرصةَ سرعة الاستجابةِ المبكرة المعتمدةِ على الإيحاء، والتي تكونُ من حظ بعض المرضى).ولك ولغيرك أحب أن أعطى فكرة عن برنامج العلاج بالعقاقير ، ولا يقتصر العلاج فقط عليها غالباً ، ولكن الخطوات العلمية المبنيةُ على التجريب العملي في موضوع استجابة اضطراب الوسواس القهري لمضادات الوسوسة، أو مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (ماسا) حسبَ اسمها العلمي، فهيَ كما يلي:

1- يتناولُ المريضُ جرعةَ العلاج المبدئية ولنقل مثلاً خمسين ملجم، يوميا بعد تناول الإفطار (في معظم أنواع الماسا)، أو بعد العشاءِ (في بعض الأنواع) ، ويستمرُّ على ذلكَ مدةَ 12 أسبوعا أي ثلاثة شهور، فإن حدثتْ استجابةٌ تامةٌ فبها وعليها (أي بنفس الجرعة وعلى نفس المنوال) سيستمرُّ الطبيب في تكرار العلاج ويستمرُّ المريضُ في تناوله إلى ما يتفقُ هوَ ومريضه عليه من مدةٍ قد تختلفُ حسبَ الحالة المرضية فتطولُ أو تقصرُ لكنها في الغالب الأعم لا تقلُّ عن سنة، وغالبًا ما تطول، فإن لم يحدثْ تحسنٌ أو حدثَ تحسنٌ جزئيٌّ في الأعراض، وجبَ على الطبيبِ أن ينتقل إلى الخطوةِ التالية …

2- تُضاعفُ الجرعةُ التي يتناولها المريضُ، ويستمرُّ في تناولها يوميا بنفس المنوال المتبع في الخطوة الأولى مدةَ 12 أسبوع أي ثلاث شهور، فإن حدثتْ استجابةٌ تامةٌ فبها وعليها (أي بنفس الجرعة وعلى نفس المنوال)، سيستمرُّ الطبيب في تكرار العلاج ويستمرُّ المريضُ في تناوله إلى ما يتفقُ هوَ ومريضه عليه، مدةً كالتي ذكرتها في الخطوة الأولى، هذا إن حدثَ تحسنٌ تامٌ في الأعراض، فإن لم يحدثْ أو حدثَ تحسنٌّ جزئيٌ وجبَ على الطبيب ومريضه الانتقالُ إلى الخطوةِ الثالثة …

3- تصبحُ الجرعةُ الآنَ ثلاثةَ أضعاف الجرعة الأولى، وتكررُ الخطوةُ السابقةُ مدةَ 12 أسبوعا أي ثلاثة شهور، فإن حدثتْ استجابةٌ تامةٌ فبها وعليها، وإن لم يحدثْ تحسنٌ أو حدثَ تحسنٌ جزئيٌ ندخلُ في الخطوة الرابعة.

4- وفي هذه الخطوة تصبحُ جرعةُ الماسا أربعةَ أضعاف الجرعة الأولى أحيانًا في جرعةٍ واحدةٍ وأحياناً تقسم على جرعتين بعد الإفطار والعشاء، وإن حدث تحسنٌ بعد ثلاثة شهورٍ وجبَ الدخول في مرحلةِ العلاج التعزيزي التالية …

5- يقومُ الطبيبُ النفسيُّ باختيارٍ من بين عدةِ اختياراتٍ أعفيك من ذكرها الآن، تضافُ فيها نوعيةٌ أخرى من الدواء إلى العلاج المستمرِّ بالماسا، ونسبةُ التحسن التام في حالات الوسواس القهري تصل إلى أكثرَ من ثمانينَ بالمائة من الحالات، ولا نلجأ لما بعد الخطوة الثانية إلا في العشرين بالماة من الحالات، وهذا أيضًا حسب خبرتي الشخصية.ويهمني أن أنبهكِ إلى أن حالتك حسب ما ورد في إفادتك وحسبَ خبرتي الشخصية كطبيبٍ نفسي عادةً ما تحتاجُ إلى الصبر لفترة ليست طويلة، أي إنها من الحالات التي تستجيبُ بسرعةٍ بفضل الله وبإذنه تعالى، فلا داعي للقلق لأن لاضطراب الوسواس القهري أشكالا وأنواعا، نوعكِ من أكثرها استجابةً لعقارات الماسا أو(SSRIS).

المهم الآن هو الإجابةُ عن أسئلتك الأربعة التي سألتها في آخر إفادتك:أولاً: (إذا كانَ هذا وسواسا قهريا فكم مدةُ انتهائه)، والإجابةُ عليك هنا تعني شرح المسار المرضي لاضطراب الوسواس القهري، وفي البداية أقولُ لك إن هناكَ نوعين كبيرين من اضطراب الوسواس القهري النوع الأول يبدأُ في الطفولة أي قبل سن العاشرة من العمر، وفيه تكونُ العواملُ المرضية البنيوية في نسيج الدماغ أكبر والله أعلم، من مثيلاتها في النوع الثاني، والنوع الثاني الذي تعتبرُ حالتكِ مثالاً له، هو الأهدأُ مسارًا والذي يمتازُ بفترات خبوٍ أو هدأةٍ طويلةٍ للأعراض.
فاستقراءُ نتائج البحث العلمي الحالي إنما يشيرُ إلى اختلافٍ في المآل في النوعين الكبيرين من اضطراب الوسواس القهري، وذلك بعد تقسيمه على أساس سن بداية الأعراض، ففي الحالات التي تبدأ فيها الأعراض قبل أو في سن العاشرة غالبًا ما يكونُ مآلها أسوأَ خاصةً أن تصاحبًا مرضيا يحدثُ مع العديد من الاضطرابات النفسية الخاصة بالأطفال ، أو غيرها كاضطراب العرات أو اضطراب توريت، ولا يتسع المجال هنا للتفصيل، بينما يتوقع مآلا مرضيا أفضل في الحالات التي تبدأُ فيها الأعراض بعد سن السابعة عشرة، ويبدو الأمرُ متعلقًا بتغيراتٍ معينةٍ في النسيج العصبي تكونُ أكثرَ وقعًا وتأثيرًا في حالة بداية الأعراض في سن الطفولة، وقد أشارت معظمُ الدراسات إلى هذا الرأي عند مناقشة هذه النقطة.

إذن فالعلمُ أولاً عند الله، وثانيًا ما تشيرُ إليه خبرتي هو أن حالتك ستخبو فيها الأعراضُ خبوا تامًا حتى إنك ستنسين ما كانَ بفضل الله، ولكنني أنصحكِ بأن تسألي طبيبتك إن كان باستطاعتها أن تجريَ لك جلساتَ علاجٍ معرفي سلوكي، لأن النتائجَ ستكونُ أفضل بكثير وإن كانت الماسا وحدها ستكفيك إن شاء الله تبعاً لنوعية حالتك .وثانيا: (هل هناكَ حكمٌ شرعيٌّ لهذا المرض) وأنا هنا أجدني مضطرًا إلى مناقشة مشكلة التسمية لأقولَ لك أن المسلمين الأوائل كانوا ينسبونَ الحالات الشبيهة بحالتك إلى فعل الشيطان، لأنهم عرفوا ووصفوا نوعين من الوساوس موجودين في القرآن الكريم وفي سنة النبي عليه أفضلُ الصلاة والسلام، وهما وساوسُ النفس ، ووساوس الشيطان، وأما ما عدا ذلك من الأعراض التي تدخلُ ضمن اضطراب الوسواس القهري اليوم فقد كانوا يعتبرونها نوعًا من أنواع الجنون، ولم يكونوا وحيدين في ذلك، فقد أرجعه الكثيرون من الغربيين حتى عهد قريبٍ إلى أنه نوعٌ من الجنون مع أنه ليسَ كذلك .
وقد اختلف العلماء في نظرتهم للوسواس، فقد ذكر الجويني في التبصرة فـي الوسوسة أن الوسواس يحدث بسبب نقص في غريزة العقل أو جهل بمسالك الشريعة. والذي يبدو أن معنى الوسواس عند معظم العلماء السابقين – رحمهم الله – معنى واسع يشمل جميع أنواع الوسواس التي ذكرناها ابتداءً لكنهم نسبوها جميعاً إلى الشيطان ولم يقبل أحد منهم – حسب بحثي – أن هناك وسواساً مرضياً سوى ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل “أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشك: هل صح لي الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب، فقـد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رُفـع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ” ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون.

ولا أدري حقيقة هل أراد أبو الوفاء بن عقيل – رحمه الله – تأديب السائل وزجره بجوابه ذلك أم أنه يرى حقيقة أنه مريض. وإذا قبلنا الثانية فإنه يبدو أن معظم هؤلاء العلماء لم يكونوا يتعاملون مع الحالات الشديدة من الوسواس على أنها حالات وسواس مرضي خارج عن إرادة الفرد، وإنما على أنها لون من الجنون أو نقص في غريزة العقل كما مر بنا.وقد نقل الإمامُ الغزالي – رحمه الله – في إحياء علوم الدين بعض اختلاف العلماء في حال الوسواس عند الذكر حيث قال: “اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق:

فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل لأنه عليه السلام قال: “فإذا ذكر الله خنس”، والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.

وقالت فرقة: لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه يتكلم ولا يفهم، وإن كان الصوت يمر على سمعه.

وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً ولكن تسقط غلبتها للقلب، فكأنه يوسوس عن بعد وعلى ضعف.

وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة ويعود في لحظة، ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة، وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا.

وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاً لا ينقطع، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد إلا وله أربعة أعين: عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه” صدقَ رسولُ الله، وعلى هذا ذهب المحاسبي.

والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة، ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه “انتهى كلام الغزالي”.

والصحيح عند الطبيب النفسي المسلم اليوم هو أن ما لا يزول بالاستعاذة ليسَ من الشيطان، وما لا يزولُ بتقوية الصلة بالله والإكثار من الطاعات ليسَ وسواس النفس ولا وسواس الشيطان، وإنما هوَ الوسواس القهري.

ومما يؤلم المصابين بداء الوسواس القهري (النوع الثالث من الوساوس) ما يقرءونه في كتب بعض العلماء عن ذم الوسوسة والموسوسين؛ لأنهم كانوا – رحمهم الله – يطلقون ذلك الوصف على جميع أنواع الوسواس دون تخصيص، فالوصف الذي يطلقونه كان وصفاً عاماً لكن يتأكد عندهم في النوع الثالث – حسب تصنيفنا – أكثر من سواه، ولم يكونوا أيضاً – كما مر بنا – يرون أن هناك وسواساً مرضياً كما يراه الأطباء في العصر الحديث؛ ولذلك يتألم مريض الوسواس القهري جداً حينما يقرأ للإمام ابن القيم – رحمه الله – قوله: “فإن قال (أي الموسوس): هذا مرض بليت به، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله أحداً بذلك، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أُخرجا من الجنة، ونودي عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله من فتنته وبين لك عدواته وأوضح لك الطريق فما لك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان”.

ونلاحظ أن الإمام ابن القيم – رحمه الله – قد جمع في مقولته بين النوع الأول وهو ما حدث لأبينا آدم وأمنا حواء، وبين النوع الثالث وهو حال مرضى الوسواس القهري، وناقش النوعين على أنهما نوع واحد إن صح ابتداءً تصنيفنا للوسواس إلى تلك الأنواع الثلاثة؛ ومما يؤلم الموسوسين أيضاً اجتهاد بعض طلبة العلم بالاستشهاد بالأحاديث التي تنهي عن التنطع والغلو في الدين في حق الموسوسين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فتشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم”.

ولو وقفنا مع كلمة واحدة من هذا الحديث (لا تشددوا) لربما بان لنا الفرق بين التشدد والوسواس القهري. فالتشدد هو الغلو والتنطع في الدين النابع من ذات الفرد وبإرادته وتقرباً منه إلى الله، بل يستنقص غيره ممن لا يفعلون فعله مثلما كان من أولئك النفر الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: إنه يصوم ولا يفطر وقال الآخر أنه يصلي ولا ينام وقال الثالث بأنه لا يتزوج النساء فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ أما الموسوس فأمره مختلف تماماً، فهو يشكو لكل أحد من وسواسه، ويتألم منه، ويستفتي العلماء في حاله، ويتردد على الأطباء، ويدعو الله أن يخلصه منها، ويقاومها فيفرح أشد الفرح إذا تغلب على الوسواس ويحزن أشد الحزن إذا غلبه الوسواس

.وعلى الرغم من كل ما ذكرناه من الدلائل التي تدعم عدم علاقة الشيطان بالوسواس القهري فإننا لا يمكن أن نقطع بذلك – رغم غلبة الظن – وذلك لأننا نبحث في أمور غيبية نؤمن بمجمل تأثيرها لكن لم يُنقل لنا طبيعة وخصوصية ذلك التأثير، وإن قلب الطبيب النفسي المسلم ليتألم حينما يرى بعضاُ من بني أمته يصارع مرض الوسواس القهري لسنوات عديدة ويرفض زيارة الطبيب النفسي إما لقناعته بعدم فائدة العلاج النفسي في علاج علته، أو بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه الطب النفسي.

نستنتج مما سبقَ أن الحكم الشرعي لمرض الوسواس القهري، إنما يجيء اليوم بالقياس كقاعدةٍ فقهيةٍ نلجأ إليها عندما يجدُّ على أفهامنا كمسلمينَ شيءٌ لم يكن مفهوماً أيام رسول الله عليه أفضلُ الصلاة وأتم التسليم، والقياسُ هنا معروفٌ وواضح، فليسَ على المريض حرج، والله سبحانهُ وتعالى يحاسبنا على ما نفعلهُ بإرادتنا، ولعلَّ من المهم هنا أن أذكرَ لكِ ما وجدتهُ في كتب السيرة ويشبهُ حالتك، فقد ذكرَتْ لنا كتب السيرة شيئًا مشابهًا لما نعرفه الآن بالاجترار الوسواسي المتعلق بالأمور الدينية؛ فقد روي أن أحد الصحابة قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إني لأجد في صدري ما تكاد أن تنشق له الأرض، وتخر له الجبال هدًّا”، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أوجدتموه في قلوبكم.. ذلك صريح الإيمان”، ثم قال: “الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة”.

وفي حديث آخر: “إن الشيطان ليأتي أحدكم فيقول له: مَنْ خلق الشمس؟ فيقول: الله. فَمَنْ خلق القمر؟ فيقول: الله. فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله”.

وذلك حتى يقطع الإنسان هذه الوساوس، ومع ذلك فإذا لم تكن هذه الأفكار نوعًا من الوسواس وعبارة عن عارض وشبهة قوية تحتاج إلى إجابة؛ فعذر ذلك ينبغي أن يتعلم الإنسان من أمور العقيدة ما يدفع هذه الشبهة…، وقد تعودتُ أن أنصحَ مرضايَ بأن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم كلما داهمتهم مثل هذه الأفكار (ومرضايَ هؤلاء يتناولونَ الماسا بالطبع) وكثيرونَ منهم يستفيدونَ من ذلك، ويثابونَ بالطبع من الله تعالى وهذا ما يقودني إلى الإجابة عن تساؤلك الثالث.ثالثًا: ما مصيرُ أي عبادةٍ أقومُ بها الآن من صومٍ أو صلاة، وأنا أقولُ لك مصيرها عند من لا يردُّ سائله سبحانهُ وتعالى القبول بالطبع لأنك تفعلين ما كلفت به رغم ما يتسببُ لك فيه من العذاب، ولكن المهم هوَ أن أنبه إلى أن اجتناب المواقف التي تزيدُ من الوساوس هوَ استجابةٌ خاطئةٌ لأنها تزيدُ الأمور تعقيدًا، ونحنُ يا أختي السائلة نعالجُ اضطراب الوسواس القهري بنوعٍ من أنواع العلاج السلوكي اسمهُ التعرض مع منع الاستجابة، وهو باختصارٍ أن أعرضَ المريضَ لما يخشاهُ ولما يتسببُ في زيادةِ وساوسه وأعينه على المواجهة وعدم الهرب، فتكونُ النتيجةُ بعد الزيادة الأولى في شدة الوساوس هيَ خبوها وهدوءها ثم نسيانها بفضل الله وبإذنه تعالى بعدما يقدرهُ الله لنا من التعب، إذن عليك أن تتابعي عبادتك وفروض ربك عليك وأن تستمري على الدواء وعلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والاستعانة به سبحانهُ وتعالى لكي يرفع عنك البلاء.

رابعًا: وأما سؤالكُ الأخير (هل القراءة الآن في الكتب سوف تفيدني أم لا فأنا أريد أن أتعلم الدين وأحب العلم)، فإن عليك فقط أن تحسني اختيار الكتب الدينية التي تقرئينها، وأن تفهمي جيدًا أن كلمة الوسوسة تعني الكثير من المعاني في اللغة العربية، وتأتي في كتب التراث الإسلامي لتعني إما الوسوسة بمعنى الخوف الزائد على الصحة وإما الوسوسة بمعنى الشك في نوايا الآخرين، وإما الوسوسةُ بمعنى التشدد في الدين وهو المعنى الذي أخافُ عليك منه؛ لأن التشدد مذمومٌ في الكثير من كتب التراث، وكانَ الشائع أيامها في عقول المفكرين هو أن الوسوسة في الدين تجيء من الشيطان فقط؛ ولذلك تجدين كتبًا مثل ذم الموسوسين لابن قدامة المقدسي، وكتبٌ للشعراني، ولغيرهم تجمعُ على بيان عيوب الموسوسين، وأنا أنبهك إلى أنك لستِ واحدةً منهم أو من اللذين يقصدونهم، ولا تهمكُ هذه الكتبُ في شيء، وأما أن تتعلمي الدينَ فهذا واجبك، ولو كنتِ كما بينت في إفادتك تتألمين بمجرد تذكر الكتب الدينية أو سماع القرآن الكريم فإنني أقول لك راجعي نفسك جيدًا وستجدين أن هذا الابتلاء لم يبدأ شعورك به إلا بعدما قمت بزيارة الشيوخ الذين تعاملوا مع ظاهرة الوسواس القهري لديك على أنها ناتجةٌ عن الجان الكافر! (ولا أقول إلا هداهم الله وأنار عقولهم)، ولست أرى لك إلا أن تتحدي نفسك في ذلك، وستكونُ النتيجةُ هيَ أن تعودي إلى طبيعتك التي هيَ طبيعة المسلمة المؤمنة بربها حتى وإن تأخر هذا قليلاً فإن ثوابكَ على المعاناة عند الله أكبر من أن تتركيه، وجزاءك في الدنيا هو الخلاص من الأعراض الناتجة عن خزعبلات الذين لا يعلمون، ولا تنسي أن الله تعالى يقولُ: “الذين آمنوا وتطمئنُّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب” صدوق الله العظيم (الرعد: 28).

ويقول تعالى: “وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون” صدقَ اللهُ العظيم” (يوسف:87)
وَيقول تعالى “قل يا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقنَـطُوا منْ رَحْـمَـةِ الله إنَّ اللهَ يغْـفِـرُ الذنوبَ جميعًـا إنَّـهُ هوَ الغفورُ الرحيم” صدقَ اللهُ العظيم” (الزمر: 53).

ويطمئن الله المؤمنين بأنه دائماً معهم, إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون” صدقَ اللهُ العظيم (البقرة:186).

أما ما يحتوي تساؤلك الرابع على إشارةٍ إليه من اكتئابٍ ويأسٍ، فهذان من المضاعفات المشهورة للوسواس القهري، وهما بفضل الله يتحسنان بنفس العلاج المستخدم للوسواس أي بالماسا، وعادةً ما يجيء التحسنُ في الاكتئاب مع تحسن أعراض الوسواس القهري، فلا تتعجلي الحكم على علاج طبيبتك، ولا تهملي فروض ربك واعلمي أن ما تمرين به هو ابتلاءٌ كما ذكرت، ولكن لا بد من طلب العلاج عند طبيبتك النفسية وفقها الله وإياك، وتابعينا بأخبارك.