إعداد- تامر الهلالي

غلاف رواية “جوهرة المدينة”

أمر مكرر بما يبدو أقرب إلى الابتذال، كتاب عن الإسلام أو عن رمز من رموزه يثير ضجة لا لسبب إلا أنه يتحدث عن ذلك، ثم يكتسب كاتبه شهرة عن دعاية مجانية، ربما لا يستحقها الكاتب أو الكتاب من الناحية الفنية.

أثار قرار دار النشر الأمريكية الشهيرة “راندوم هاوس” بتأجيل نشر كتاب “جوهرة المدينة” وهو العمل الأول للكاتبة “شيري جونز” لأجل غير مسمى ضجة كبيرة وحديثا غير طازج عن حرية التعبير وإشكالية مس “التابوهات” في العمل الإبداعي.

العمل جوهرة المدينة من المفترض أنه مصنف على أنه رواية تاريخية عن أم المؤمنين السيدة عائشة زوجة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث ادعت الكاتبة أنها لم تكن تنوي مس أي من سيرتهما بسوء من خلال كتابها، بل على العكس فقد ادعت أن هدفها من وراء الكتاب إظهار وجه من وجوه الإسلام الجميلة، وتعريف القراء الغربيين بالإسلام من قريب.

دار النشر أرسلت نسخة من الكتاب قبل النشر إلى مجموعة من المفكرين والأدباء الذين حذروا دار النشر من نشر هذا الكتاب لأنه – بحسب بيان دار النشر – الذي تناول أسباب إجراء تأجيل النشر “لن يثير فقط المجتمع الإسلامي ككل، ولكنه قد يحفز مجموعات من المتطرفين على القيام بأعمال عنف جراء نشر الكتاب”.

رأي رشيد

على رأس هؤلاء المفكرين كانت إحدى الأكاديميات الأمريكيات “دينيس سبيلبرج”، المدرسة المساعدة للتاريخ الإسلامي بجامعة تكساس بالولايات المتحدة.

سبيلبرج قالت إن الكتاب أغضبها جدا؛ لأنه يسخر من المسلمين ومن تاريخهم، في مقابلة لها قالت إن الرواية عمل قبيح وغبي، إذ إن الرواية تناولت – بحسبها – بعض المشاهد السافرة مثل مشهد كيف فض الرسول – عليه الصلاة والسلام – بكارة السيدة عائشة في ليلة البناء، وتقول على لسان أم المؤمنين إن آلام فض البكارة ذهبت سريعا، وإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان رقيقا، حيث إنها تقريبا لم تحس بأي آلم، وتضيف أن السيدة عائشة، كانت مشتاقة طوال عمرها لتلك اللحظة، أن ترتمي في أحضانه – صلى الله عليه وسلم – وأن تلامسه.

تعلق سبيلبرج على مثل ذلك المشهد قائلة إنها ليست ضد فن الرواية التاريخية، ولكنها ضد الفهم الخاطئ المتعمد للتاريخ، وتحويل المقدس من التاريخ إلى “بورنو” صريح يخاطب الغريزة الجنسية.

سبيلبرج قالت في تحذيرها لدار النشر إنها كخبيرة في حياة السيدة عائشة فإن من واجبها أن تقاوم هذا التصوير المشوه لحياة سيدة كانت إنسانة عظيمة عظمة حقيقية، وأضافت أن خليطا من الجنس والعنف قد يؤدي إلى زيادة مبيعات رواية جونز، وإذا أضافت إلى ذلك الخليط تشويها وتحريفا للتاريخ الإسلامي، مستغلة بذلك جهل الأمريكيين الذين لا يعرفون شيئا عن عائشة ولا حياتها في القرن السابع الميلادي، فإن جونز تعمد إلى إثارة الجدل لزيادة مبيعات الرواية.

مغالطات تاريخية

وفي مقال رائع للكاتبة “مروة النجار”، المحررة بالموقع الإنجليزي لشبكة “إسلام أون لاين”، تناولت الكاتبة بشكل موضوعي بعيدا عن التشنج والانفعال والانصراف إلى تفريغ شحنة عاطفية رواية جونز، الكاتبة لمست صميم الموضوع سريعا في مقالها وتناول نقدها الموضوعي الرواية من خلال محاور هامة، أهمها المغالطات التاريخية الصارخة في الكتاب، وعدم علم الكاتبة الجيد باللغة ولا بالبيئة التي تكتب عنها، بالإضافة إلى عدم الفهم الجيد لطبيعة الوسط الذي تكتب من خلاله، وهو “الرواية التاريخية”، ظهر عدم فهم الكاتبة للبيئة التي تكتب عنها من خلال بعض الأشياء مثل استخدام بعض الكلمات والمصطلحات غير العربية والتي لم تكن متداولة في البيئة أو الثقافة العربية في هذا الوقت، مثل تحدثها عن أن المجتمع العربي كان يعتنق فكرة البردة (Purdah) للنساء قبل الزواج.

البردة أصلا مصطلح غير عربي، وتقصد به الكاتبة أن المرأة العربية في بداية الإسلام كان يحكم غلق الأبواب عليها حتى تتزوج، وهذا ليس له علاقة بالمنطق، ولا بالحقائق التاريخية، ففكرة حبس البنات لم تكن معروفة حتى قبل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، في الوقت الذي لم يكن فيه العرب يتسمون باحترام النساء، وهذا ما غيره الإسلام بعد ذلك.

فمن الثابت في كتب السيرة أن أخت السيدة عائشة الكبرى السيدة أسماء بنت أبي بكر كانت تعمل برعي الأغنام، وهو عمل مستحيل في ظل وجود مفهوم البردة الذي تحدثت عنه الكاتبة، وفي دليل آخر على عدم الفهم من الكاتبة لأبسط حقائق الإسلام تحدثت الكاتبة في غير موضع من الرواية عن أن عددًا من شخصيات الرواية، ومنهم السيدة عائشة ورسول الله وزوجاته وعدد من الصحابة، تبادلوا الانحناء في غير موقف لإظهار الاحترام والتبجيل لبعضهم البعض، ومن يعرف أبسط المعلومات عن الإسلام يعرف أن المسلمين لا ينحنون لأحد إلا الله، ولذلك نجد أن الانحناء شعيرة من شعائر الصلوات الخمس (الركوع).

ربما كان الانحناء عادة العرب قبل ظهور الإسلام، ومن المؤكد أنه عادة غربية قد نشاهدها في بعض أفلام هوليوود، ولكن من المؤكد أنه ليس من عادات الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو الصحابة أو السيدة عائشة رضوان الله عليهم.

حادثة الإفك

انتقلت مروة النجار لحديثها عن المغالطات التاريخية في الرواية، وقد وضح ذلك جيدا في تناول الرواية لحادثة الإفك عندما تناولت الكاتبة هذه الحادثة وهي من النقاط الحساسة جدا في التاريخ الإسلامي، وقامت بتنحية التاريخ جانبا، إضافة إلى تنحية كل شيء له علاقة بالعقل والمنطق وحسن النوايا الذي تدعيه جونز، واستسلمت لفيض من الأفكار الشخصية التي ربما يكون لها أفضل الأثر في زيادة مبيعات الرواية حين تتبنى دار نشر أخرى نشر الرواية، وهذا ما حدث بالفعل.

جونز كانت حذقة بالدرجة الكافية حينما تحدثت في خلفية الرواية في بداية حديثها عن طفولة وصبى السيدة عائشة قبل البعثة وقبل زواجها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أن السيدة عائشة كانت مخطوبة لصفوان بن المعطل قبل زواجها من الرسول – صلى الله عليه وسلم – والثابت في كل كتب السيرة أن عائشة قبل زواجها من الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت مخطوبة لجبير بن مطعم، ولكن هذا يخدم غرض الكاتبة فيما بعد عند وصولها للحديث عن حادثة الإفك، حيث كان صفوان هو المتهم مع السيدة عائشة – رضي الله عنها – إفكا بالزنا.

وتضيف السيدة جونز في كتابها أن السيدة عائشة – رضي الله عنها – وحتى بعد زواجها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت تحن إلى صفوان، وهو كان لا ينقطع عن مغازلتها، وحاول غير ذات مرة إقناعها لتهرب معه مع إحدى القبائل، كما كان يخططان منذ الصغر.

وتضيف أيضا السيدة “جونز” أن جزءا كبيرا من الخلافات التي كانت تحدث بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – والسيدة عائشة كان بسبب حبها لصفوان، ولكن عائشة بعد حادثة الإفك فقط أدركت أن زواجها من صفوان لم يكن ليعطيها الحرية التي كانت تتمتع بها في ظل زواجها من الرسول.

تجاهلت جونز رواية السيدة عائشة نفسها للحادث وضادت حديثها – رضي الله عنها – بكلام مختلق أقل ما يقال عنه إن هدفه ليس نبيلا، فقد قالت السيدة عائشة في رواياتها للحادثة أنها رجعت إلى المدينة تمتطي ناقة صفوان بمفردها، وصفوان يمشي راجلا يقود الناقة من الخلف وفي بعض الروايات من الأمام.

أما السيدة جونز فتقول صائغة مشهد من المشاهد الرومانتيكية الذائعة الصيت في السينما الغربية وأحلام اليقظة إن السيدة عائشة رجعت إلى المدينة راكبة جوادا هي وصفوان وذراعها كانتا ملتفان حول خاصرته وخدها على كتفه.

وبينما كان من الثابت في كتب السيرة أن عائشة ظلت لفترة طويلة لا تعرف شيئا عن حديث الناس عنها، فقد صاغت جونز من صنع خيالها أن عائشة كانت تسير في المدينة والناس يشيرون إليها بأنها زانية.

ستار الأدب

كون جونز قد صنفت كتابها على أنه رواية تاريخية كان سببا أدعى لاستخدام الرخصة الأدبية ليس في قلب الحقائق وتزييف التاريخ المتعمد، ولكن لرسم صورة حية للتاريخ في إطار من اللغة الأدبية الجميلة المحببة للقارئ، والتي يفضلها عن اللغة الأكاديمية الجزلة لكتابة التاريخ.

في نهاية مقالها الرائع الأشبه ببحث متأن في مخطوطة “جوهرة المدينة” تقول مروة النجار إنه على الرغم من كل تلك المغالطات التاريخية وغير التاريخية في تناول ليس فقط شخص السيدة عائشة – رضي الله عنها – ولكن تقريبا كل شخوص الرواية، فإن عدم نشر الكتاب وإثارة ضجة حوله سوف يقوم كالمعتاد بدور فاعل لزيادة تسويق الكتاب وصعود مبيعاته عندما ينشر.

وتنصح من يقرأ الرواية بعدم التعاطي مع الكتاب على أنه رواية تاريخية مبنية على بحث واستقصاء تاريخي أمين؛ لأنه أيًّا كان نوع البحث والاستقصاء التاريخي الذي ربما تدعي جونز أنها تستند إليه، فإنها لم ترجع أو تستفد من أي منها.إن جوهرة المدينة هي فقط رواية، ولكن ليست رواية تاريخية عن السيدة عائشة بأي حال من الأحوال.


من أسرة إسلام اون لاين