ورد عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: خرجْنا مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ في جنازة فجلس النبيّ على شَفير القبر وجلسْنا معه، فأخرج الحَفّار عظمًا ـ ساقًا أو عضوًا ـ فذهب ليكسِره، فقال النبي ـ : “لا تكسرْها، فإنّ كسرَك إيّاه ميّتًا ككسرِك إياه حَيًّا، ولكن دُسَّه في جانب القبر” هذا الحديث رواه مالك وابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح ما عدا رجلًا واحدًا هو سعد الأنصاري، فقد ضعّفه أحمد، ولكن وثّقه الأكثرون وروى له مسلم، وهو كافٍ في الاحتجاج بالحديث.
لم يرِد في نصوص الدّين ما يتصل بتشريح جثّة الميت مباشرة، والمسألة اجتهاديّة بين الفقهاء الذين اعتمدوا على هذا الحديث، حين تحدثَّت كتبهم عن حكم شقِّ بطن المَيِّت إن كان فيه مالٌ، وشقّ بطن المَيِّتةِ الحامِل لإخراج الجَنين منه.
وقد جاء في فتوى صادرة من دار الإفتاء المصرية في 31 من أكتوبر سنة 1937م(1) بالنسبة لشقِّ البطن إن كان فيه مالٌ: أنّ علماء الحنفيّة أجازوا شقَّه إذا كان المال لغيره ولم يترك الميِّتُ مالًا يُعطَى لصاحبه؛ لأن حقَّ الآدمِي مُقدَّم على حق الله تعالى، و مقدَّم على حق الظالم المُعتدِي، وقد زالت حُرمة هذا الظالم بتعديه على مال غيره.
أما مذهب الشافعي فالمشهور للأصحاب إطلاق الشق حينئذ ـ يعني جوازه ـ من غير تفصيل إن كان المال لغيره وطلبه، وقال بعضهم : يُشق بطنه إذا لم يضمن الورثة مثله أو قيمته، وهناك وجه بجواز الشق إن بلع جوهرة لنفسه، والخلاصة أن عند الشافعية رأيًا بالشّقّ مطلقًا، وعن سحنون المالكي يجوز الشق مُطلقًا من أجل المال، ومنعه أحمد.
وبالنسبة لشقِّ بطن الميتة لإخراج الجنين، أجازه الحنفية إن عُلم أن الولد حيٌّ؛ لأن الشقَّ وإن كان فيه إبطال لحُرمة الميت ففيه صيانة لحرمة الحي وهو الولد، وأجازه الشافعية إن كان يُرجَى حياة الجنين بعد إخراجه، ومنعه المالكية والحنابلة. ثم قال المفتي:
والذي يقتضيه النظرُ الدقيق في قواعد الشريعة وروحها أنه إذا كانت هناك مَصلحة راجِحة في شقِّ البطن وتشريح الجُثّة، من إثبات حق القتيل لدى المتّهم، أو تبرئة المتّهم من تهمة القتل بالسُّم مثلًا أنه يجوزُ الشقُّ والتشريح. والحديث المذكور في عدم كسر عظم الميّتِ يُحْمَلُ عَلى ما إذا لمْ تَكُن هناك مَصْلحةٌ راجِحةٌ أو حاجةٌ ماسّةٌ، فقواعد الدين الإسلامي مبنيّة على رعاية المصالح الراجحة، وتحمُّل الضَّرر الأخفِّ لجلب مصلحة يكون تفويتها أشدَّ من هذا الضّرر.
ومثل هذه الفتوى جاء في الفتوى الصادرة في 23 من أكتوبر سنة 1966م(2 ) وكذلك في الفتوى الصادرة في 5 ديسمبر سنة 1979م(3 ) التي جاء فيها ما نصه: أنّ فقه مذهبي الإمامين أبي حنيفة والشافعي يُجيزان شق بطن الميِّت، سواء لاستخراج جَنين حي أو لاستخراج مال، وأن فقه مذهبي مالك وأحمد بن حنبل الشقُّ في المال دون الجنين، والذي أختاره في هذا الموضوع هو ما ذهب إليه فقهاء الحنفية والشافعيّة، من جواز شقّ بطن الميت لمصلحة راجحة سواء كانت لاستخراج جنين حي أو مال للميت أو لغيره إذا كان ذا قيمة مُعتدٍّ بها عُرفًا ينتفع بها الورثة أو تقضِي ديونَه. أهـ.
هذا في التّشريح لتحقيق جِناية أو استخراج مال أو جَنين، بناء على المصلحة الراجحة، فهل التشريح الذي يمارَس في كليات الطِّبِّ للتعليم فيه مصلحة راجحة على صيانة حرمة الميِّت؟
جاء في فتوى للشيخ يوسف الدجوي منشورة في مجلة الأزهر، المجلد السادس ص 472، ما يُشير إلى جوازه بالقياس الأولويّ على جواز التشريح للمال، ولو كان قليلًا كما رآه بعض الفقهاء، وقال ما نصّه: فضلًا عمّا في التشريح من تقدُّم العلم الذي تنتفع به الإنسانيّةُ كلُّها، وينقذ كثيرًا ممّن أشفى على الهلَكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموتُ من كلِّ مكانٍ وما هو بميِّت. ثم قال مستدرِكًا: غير أنَّا نرى أنه لابدّ من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسَّع فيه الناس بلا مُبالاة، فليُقتصَرْ فيه على قَدْر الضرورة. وقال في ص 578: إنّا نرى من الإخلاص للدِّين والعلم أن نقول: إنَّ مثل هذه المَسألة مَحَلُّ اجتهاد يَصِحُّ أن تختلف فيه الأنظارُ، وإذا رجَّحنا شيئًا فإننا نكتب عن رأينا أو رأي فريق من علمائِنا، والخير كلُّه في التوسُّط والاعتدال، والشَّرُّ كلُّه في الإفراط والتَّفريط.
ولم يوافقه الشيخ محمد بخيت المطيعي على ذلك، فبعد أن ذكر المسائِل التي يجوز فيها شقُّ بطن الميتِ، نقلًا عن كتب المذاهب التي تحدثَّت عن إخراج الجَنين والمال ـ قال: وبناءً على ذلك فلا يجوز شقُّ بطن أي ميِّت كان، إلا في الموادِّ المتقدِّمة، وأن التشريح الذي من لوازمه شقُّ البطن بلا سبب سِوى بحث الأعضاء ومعرفة وظائفها وما بها من الأمراض فهذا لا يُسوِّغ ولا يُجيز فتح بطن الإنسان بعد موتِه.
ويمكن الوقوف على وظائف الأعضاء بواسطة فتح بطن حيوان آخر غير الإنسان؛ لأن كلَّ الحيوانات مُتساوية في وظائف الأعضاء الحيوانيّة. ثم قال: ومن هذا يُعلَم أن التشريح الذي من لوازمه فتحُ البطن كما قلنا لا يجوز. نعم فتح البَطن لأجل العِلاج الطِّبِّيّ يجوز؛ لأنه للمحافَظة على الحياة فلا إهانةَ فيه(4).
وجاء في فتوى للشيخ جاد الحق على جاد الحق، عن نقل الأعضاء: أن المَيِّت إذا جُهِلَتْ شخصيَّتُه أو عُرِفَتْ وجُهِلَ أَهْلُه يجوز أخذ جزء من جَسده نقلًا لإنسان حي آخر يستفيد به في علاجه، أو تركه لتعليم طُلّاب كُلِيّات الطِّب؛ لأن في كل ذلك مَصلحة راجحة تعلو على الحِفاظ على حُرمة الميِّت(5).
من هذا يُمكن أن نقول: إنَّ التشريح من أجل التعلُّم والتعليم محلُّ خِلاف بين العلماء، ومن أجازه قال: لا يُصار إليه إلا عند الضرورة في أضيق الحدود، ولو أمكَنتِ الدّراسة على حيوانات مماثِلة لكان أولى، وكذلك لو أمكنَ الاستغناء عن التشريح بالنماذج المصنوعة ـ وهي دقيقة إلى حدٍّ كبير ـ فلا يجوز اللُّجوء إلى جثة الآدميّ.

الهوامش:

(1) المفتي الشيخ عبد المجيد سليم ـ الفتاوى الإسلامية ـ المجلد الرابع ص 1331

(2) المفتي الشيخ أحمد هريدي ـ الفتاوى الإسلامية ـ المجلد السادس ص 2278
(3) المفتي الشيخ جاد الحق علي جاد الحق ـ الفتاوى الإسلامية ـ المجلد العاشر ص 3705 ـ 3707

(4) مجلة الأزهر ـ المجلد السادس ص 631 ، 632
(5) الفتاوى الإسلامية ـ المجلد العاشر ص 3714