لا شك أن الفلسفة إحدى مظاهرة قوة الحياة العقلية في أي ثقافة، وتجديد النظر إليها، وإصلاح وتجديد النظر من خلالها، يخلق حالة من الانبعاث الحضاري، وشهد الخبرة الإسلامية تطورا كبيرا في التعامل مع الفلسفة كمنهج وأداة للنظر العقلي، فهناك قرون طويلة ما بين مقولة “من تمنطق فقد تزندق” وما أورده الشيخ نديم الجسر في كتابه “قصة الإيمان: بين الفلسفة والعلم والقرآن” من أن “الفلسفة كانت ومازالت في جوهرها هي البحث عن الله” و أن راكبها يجد الزيغ والخطر في سواحلها وشطآنها، ويجد الأمان والإيمان في لججها وأعماقها.

 

الواقع أن هذا التحول الكبير في الرؤية الإصلاحية في التعامل مع الفلسفة خاصة في زمن النهضة الفكرية العربية والإسلامية منذ نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، كان وليد جهود كبيرة وضعت الفلسفة في صلب التجديد والإصلاح كأولوية كبرى

وفي كتاب “التجديد الفلسفي في زمن النهضة..الفاعلون والسياقات” للدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، والصادر عن دار “نيو بوك” بالقاهرة في طبعته الأولى عام 2017، في (252) صفحة، كشف مستفيض لجهود مجموعة من المصلحين والعلماء الذين استطاعوا إحياء التفلسف في الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وكذلك استعراض للسياقات التي نشأت فيها أفكارهم وتأثيراتها وأهم أدبياتها، وكيف استطاع هؤلاء المصلحون أن ينقلوا الفلسفة من كونها فكرة مهجورة لتصبح قاطرة للإصلاح.

الكتاب يتكون من أربعة فصول ترصد اتجاهات التجديد الفلسفي في زمن النهضة وعيا واستجابة، وذلك من خلال الحديث عن بعض الرواد مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق وجهوده في التجديد الفلسفي، وتلميذه محمد يوسف موسى في دراسته للعلاقة بين الدين والفلسفة، واتجاهات التجديد في شبه القاهرة الهندية التي تشكل وعيها مع الآخر مبكرا؛ نظرا لطبيعة الظروف السياسية.

دين بلا فلسفة

كانت جهود المستشرقين منذ القرن التاسع عشر الميلادي هي نزع أية قيمة فلسفية عن الإسلام، واتهامه بأنه دين خال من التفلسف، وأن المسلمين عالة في الفلسفة على اليونان، وعندما تحركت السنوات الُأُول من ذلك القرن أخذ علماء مسلمون ينبشون عن التراث الفسلفي الإسلامي لدحض مزاعم المستشرقين، وإبراز أن للإسلام فلسفته الخاصة والمختلفة والمتميزة عن الفلسفة اليونانية.

وقد انتقلت عدوى تجريد الإسلام من خصوصياته الثقافية إلى التصوف الإسلامي، فاعتبره المستشرقون محاكاة باهتة للرهبنة المسيحية، وانتقل الأمر إلى الإسلام ذاته فاعتبروه نسخة محرفة من المسيحية، وهكذا كانت الحرية والثروات تسرق وكذلك الهوية والثقافة؛ فقد احتكر المستشرقون الفلسفة الإسلامية درسا وتحقيقا ونشرا لسنوات طويلة، هذا الاحتكار وضع الإطار لدراستها وحدد موضوعاتها ومجالاتها، وخلق مجموعة من الفرضيات والمسلمات الخاطئة وغير القابلة للنقد أو النقاش تتعلق بنشأة الفلسفة الإسلامية ومراحلها وتطورها .

في هذه الأجواء المأزومة أخذت نهضة فلسفية تطل برأسها تبحث عن هويتها وخصوصيتها الفلسفية، فبرز في الساحة الشيخ الأزهري “مصطفى عبد الرازق” (1885م-1947م) الذي أوضح أصالة الفلسفة الإسلامية، وتعد مدرسة الشيخ مصطفى عبد الرازق، امتداد لمدرسة الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده التي قامت على ركيزتي: التحرر الفكري من الجمود والتقليد من خلال تجديد فهم الدين والنهوض بالعقلانية في مختلف مناحي التفكير، والتحرر السياسي من الاستعمار والهيمنة الغربية.

ومن الغريب أن الذين قاموا بالتأصيل للفلسفة الإسلامية في الجانب الإسلامي كانوا من تلاميذ المستشرقين الذين تعلموا في الجامعات الغربية، وأتقنوا اللغات الأجنبية.

وأنتجت جهود الشيخ مصطفى عبد الرازق ومدرسته إنهاء للفكرة الخاطئة التي ترى عدم أصالة الفكر الفلسفي في الإسلام، ولعبت تلك المدرسة دورا في الرد على التيار الاستشراقي الذي لم يرى بُعدا روحيا ولا فلسفيا في الإسلام، كذلك نظرت تلك المدرسة إلى الفلسفة الإسلامية من منظور ديني واضح، ورأت أن هناك مجالين من مجالات الفلسفة الإسلامية تكونا واكتملا قبل أن يتعرف المسلمون على الفلسفة الإغريقية هما: علم أصول الفقه، والتصوف الإسلامي، واستطاع بعض رواد تلك المدرسة تخليص التصوف خاصة الطرقي من دروشته وفلكوريته، والنظر إليه مجردا كأحد التجليات لمقام الإحسان في الإسلام وهو ما يمنحه بُعدا فلسفيا وأخلاقيا.

ويعد الشيخ مصطفى عبد الرازق أول من أنشأ في الدراسات الجامعية مادة للدراسة سميت بـ”الفلسفة الإسلامية”، فضلا عن أنه هو من أوعز بتدريس علمي الكلام والتصوف في أقسام الفلسفة، وكانا يُعدان قبل ذلك خارج النطاق البحثي.

التوفيق بين الفلسفة والدين

اهتم الكتاب بالحديث عن اتجاه داخل التيار التجديدي والإصلاحي في العصر الحديث يمتلك نزعة توفيقية بين الدين والفلسفة، حيث يعتبر الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق من أبرز المفكرين المسلمين الذين أولوا اهتماما بالغا بالعلاقة بين الفلسفة والدين، وهنا يبرز أحد الرواد العظام صاحب الدراسات الواسعة في هذا المجال وهو الدكتور محمد يوسف موسى (المتوفى 1963)  الذي كان اتجاهه نقديا توفيقيا، فالرجل جمع بين العلم الأزهري وبين التعليم الحديث، ويذكر أن القرآن الكريم هو من دفع المسلمين إلى التفلسف.

فلم يقف النص القرآني عائقا أمام الفلسفة، فآيات القرآن تعرضت لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعية والإنسانية، كما أن مصدرية القرآن الكريم كانت حاضرة عند المتكلمين المسلمين في اجتهاداتهم ومذاهبهم الكلامية، كما أن القرآن كان حاجزا أمام التفكير الذي كان عماده الفلسفة الإغريقية .

أما تيارات الإصلاح في شبه القارة الهندية خلال القرنين الثالث عشر الرابع عشر الهجريين فقد تحدث عنهما الكتاب، مشيرا أن قضايا الإصلاح والتجديد وعلاقة الإسلام بالآخر ُطرحت مبكرا في البيئات الإسلامية غير الغربية خاصة في الهند مع بدء الانهيارات والهزائم العسكرية في الدولة العثمانية منذ القرن السابع عشر الميلادي، ثم زادت حدتها مع انهيار الدولة التيمورية في الهند عام (1273هـ=1857م) وانتشار المواجهات العسكرية مع الإنجليز.

غير أنه مع العقد الثالث من القرن التاسع عشر ظهرت بواكير للدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوروبية الوافدة من جهة وبين الثقافة الهندوسية من جهة أخرى، والعقيدة الإسلامية من جهة ثالثة.

وقد انقسم المفكرون المسلمون الهنود عقب ثورة (1274هـ=1857م) إلى اتجاهين رئيسين:

الأول: الاتجاه المحافظ ممثلا في أتباع الشاة ولي الله الدهلوي المتوفى (1176هـ=1762م) ، والداعي إلى التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ومقاطعة الغرب.

والثاني: الاتجاه التحديثي ممثلا في السيد أحمد خان (المتوفى 1316هـ=1898م) والداعي إلى الاقتباس من علوم الغرب ونظمه وفنونه مع التمسك بالثوابت الاعتقادية .

كان انشغال المفكرين المسلمين الهنود بقضايا العلاقة مع الآخر ناتج عن وقوع الهند المبكر تحت نير الاستعمار الإنجليزي، فقد كان الواقع المعاش يمثل ضغطا فكريا يفرض ضرورة النظر في تلك القضايا، كما نوقشت مسائل العلاقة مع الآخر باعتبارها إحدى قضايا الإصلاح والتجديد، لذا ظلت مثارة على مدار قرنين من الزمان.

ويلاحظ أن الهند شديدة التنوع البشري والثقافي والحضاري، لذا أوجد التيار التحديثي ردودا مختلفة على تحديات هذا التنوع، فكان الصراع بين القيم والجديد مشتعلا، أما النخبة التجديدية والإصلاحية من المفكرين المسلمين الهنود فكانت تناضل على جبهتين، أولهما:جمود العلماء التقليديين وانتقاداتهم بل وصداماتهم مع التيار التجديدي، وثانيهما: التيار التحديثي التغريبي وإصراره على التبعية الغربية.