على عجلة من أمري تناولت كوبا من الماء لأشربه واقفا فقال لي صاحبي هذا خلاف السنة فقلت له قال ابن عمر رضي الله عنهما: كُنَّا نَأْكُلُ وَنَحْنُ نَمْشِي, وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[1]  قال لعله منسوخ بأحاديث النهي عن الشرب واقفا قلت النسخ يحتاج إلى معرفة التاريخ.

شغلني موضوع النسخ قبل مدة من الزمان بما له من علاقة بالفقه وعلوم القرآن وما له من تأثير في الأحكام الشرعية حلا وحرمة وبيانا لمعنى كلمات الله تعالى وهالني ما وجدت فيما قرأت من تناقض يدعو إلى بحث معمق يجتهد في إزالة تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين

 صعوبة  البحث في الناسخ والمنسوخ

يقول الحازمي مبينا صعوبة علم الناسخ والمنسوخ وخروج البعض في دراسته عن جادة الصواب وصعوبة البحث فيه حتى على كبار العلماء  : (هو علم جليل ذو غور وغموض ، دارت فيه الرؤوس ، وتاهت في الكشف عن مكنونه النفوس ، وقد توهم بعض من لم يحظ من معرفة الآثار إلا بآثار ، ولم يحصل من طرائق الأخبار إلا أخبارا ، أن الخطب فيه جليل يسير ، والمحصول منه قليل غير كثير. ومن أمعن النظر في اختلاف الصحابة في الأحكام المنقولة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – اتضح له ما قلناه .

ويشهد لصحة ذلك قول الزهري : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومنسوخه .

ألا ترى الزهري وهو أحد من انتهى إليه علم الصحابة ، وعليه مدار حديث الحجاز ، وهو القائل : ” لم يدون هذا العلم أحد قبلي تدويني ” وكان إليه المرجع في الحديث ، وعليه المعول في الفتيا ، كيف استعظم هذا الشأن مخبرا عن فقهاء الأمصار؟).[2]

مفهوم النسخ بين السلف ومن بعدهم من العلماء

يختلف مفهوم النسخ عند السلف عن مفهومه عند من بعدهم من العلماء، فهو عند السلف أعم وأشمل وعند من بعدهم أخص، كما تمايزت كثير من العلوم والمصطلحات في عصر التدوين ،فقد ( كان الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون من بعدهم يرون أن النسخ هو مطلق التغيير الذي يطرأ على بعض الأحكام، فيرفعها ليحل غيرها محلها، أو يخصص ما فيها من عموم، أو يقيد ما فيها من إطلاق.

انظر ما قاله الشاطبي: “الذي يظهر من كلام المتقدمين – أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً- كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو مطلق التغيير. أما النسخ في اصطلاح المتأخرين فهو يقتضي أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخراً فالأوّل غير معمول به والثاني معمول به وهذا تغيير خاص”.

وهذه النظرية قد سبق إليها إمام المفسرين ابن جرير الطبري ،حيث يشير في تفسيره إلى كتاب له باسم (البيان عن أصول الأحكام) وأخبر أنه دلل فيه (على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا ما نفى حكماً ثابتاً ألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك، فأما إذا احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل والمفسر- فالناسخ والمنسوخ بمعزل .. ولا منسوخ إلا الحكم الذي قد كان ثبت حكمه وفرضه”).[3]

علة الاشتراك في المعنى إذا هي التي دعت السلف لأن يطلقوا لفظ النسخ على كثير من المعاني.

الإمام الشافعي هو أول من ميز النسخ عن غيره

ويعد الشافعي أول من ميز بين النسخ وبين هذه الأساليب، فقد أطلق في كتابه الرسالة على النسخ معان عدة تميزه في الحقيقة عن غيره، كلفظ التبديل والإزالة والمحو ، وهذه المعاني لا توجد في التخصيص والتقييد ونحوهما من أساليب البيان ،كما ذكر أيضا أن من لازم النسخ وجوب ترك العمل بالمنسوخ ووجوب الأخذ بالناسخ.

قال الشيخ أبو زهرة في كتابه “الشافعي حياته وعصره”:  إن الشافعي في رسالته قد حرر معنى النسخ فيما ساق من أدلة وأمثلة ،فميزه عن تقييد المطلق وتخصيص العام ،وجعلهما من نوع البيان ،وكثير من المتقدمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يسمون تقييد المطلق نسخا، وتخصيص العام نسخا، حتى كان منهم من يجعل الاستثناء نسخا ،وهكذا فلما جاء الشافعي حرر معنى النسخ ،وميزه بين تلك الإطلاقات الواسعة التي كان – بإدماجها فيه -غير متميز وجعل التخصيص والتقييد من باب بيان المراد بالنص ،وأما النسخ فهو رفع حكم النص بعد أن يكون ثابتا).[4]

ويقرر الإمام الحازمي سبق الإمام الشافعي في تحديد معنى النسخ وفصله عن غيره من المعاني التي تشترك معه فيقول: (لا نعلم أحدا جاء بعده (الإمام الزهري) تصدى لهذا الفن ولخصه ، وأمعن فيه وخصصه إلا ما يوجد من بعض الإيماء والإشارة في عرض الكلام عن آحاد الأئمة ، حتى جاء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي – رضي الله عنه – فإنه خاض تياره وكشف أسراره واستنبط معينه ، واستخرج دفينه ، واستفتح بابه ، ورتب أبوابه . قال : محمد بن مسلم بن وارة : قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه ، فقال لي : كتبت كتب الشافعي رضي الله عنه  ؟ قلت : لا . قال : فرطت ، ما عرفنا المجمل من المفسر ، ولا ناسخ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من منسوخه حتى جالسنا الشافعي .

وقد ذكر الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب ” الرسالة ” من هذا الفن أحاديث ، ولم يستنزف معينه فيها ، إذ لم يضع الرسالة لهذا الفن وحده ، غير أنه أشار إلى قطعة صالحة توجد في غضون الأبواب من كتبه ، ولو كانت موجودة لأغنت الباحث عن الطلب)[5].

فعلى هذا يعد الإمام الشافعي أول من ميز بين النسخ وغيره من المعاني القريبة منه وسار على دربه من تبعه من العلماء.

 


 

[1] صحيح ابن حبان 12/144 وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح

[2] الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني، زين الدين (المتوفى : 584هـ) بتصرف يسير

[3] نواسخ القرآن لابن الجوزي صـ94

[4] الناسخ والمنسوخ للنحاس تقديم د/ سليمان بن إبراهيم اللاحم 1/104

[5] الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار صـ 3 طبع في الهند بحيد آباد الدكن