الناظر في كتاب الله المسطور – القرآن الكريم– يرى أن العلاقة بين الزوجين شأنٌ ليس بالهيّن، الأمر الذي استدعى توجيهات متوالية تتناول إشارات عامة، وأحيانًا تفصيلية – منها قول معروف ومغفرة – ترشد إلى طريق إدارة العلاقة الزوجية اقتصاديًا واجتماعيًا وجنسيًا، ثم جاءت سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أقواله وأفعاله لتضيف، وتعطي المسألة بُعدًا أوسع وأشمل. وعندما أتأمل في قوله سبحانه:“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم:21) أجد أن هذا التفكّر في طبيعة هذا السكن وتلك المودة والرحمة ضروري خاصة مع السير والنظر في كون الله سبحانه، وسنن الحياة الاجتماعية، وكلها تمثل كتابه المنشور المنظور، عندها نجد أمورًا كثيرة تتطلب دراسة وأهمها: الحوار والتشاور بين الزوجين.

وبدايةً نحسب أن هذا التشاور والحوار هو أهم مظاهر السكن والمودة والرحمة، فهو المدخل للتفاهم، وتجديد الحب، والعون على تخطي المشكلات، واستمرار الحياة الزوجية، أما غيابه فهو المدخل للتخاصم، والتدابر، والشقاق.

والقرآن الكريم يذكر التراضي والتشاور بين الزوجين في أمور إرضاع الأطفال وفطامهم “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (البقرة:233)، فما بالنا بما هو أهـم من ذلك في شئون الحياة، وأكثر دوامـاً، وأجدر ؟!

وسيرة الرسول الهادي تمتلئ بحوادث ومواقف تبين سلوكه مع زوجاته، وحديثهن معه في شئون الدنيا والدين.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث عن الزوجة الصالحة ومواصفاتها إنها هي التي “إذا أمرها زوجها أطاعته، وإذا أقسم عليها أبرّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله”. فهو هنا يتحدث عن صالحة تطيع زوجها، وتبرّ قسمه، وتحفظ غيبته، ولكنه أبدًا لا يتحدث عن حياة زوجية تسير بالأوامر، أو الحلف المتكرر، أو غياب الزوج المستمر.

إنما الأصل التحاور والتشاور والتشارك، لطفًا ولينًا، ومودة ورحمة، حتى تفرض الظروف فرضًا غير ذلك، وعندها يكون الأمر والطاعة، أو القسم والبر، وعندها يكون الوعظ أو الزجر أو الهجر.. إلى آخره. ولا يٍنتقل من مستوى إلى مستوى إلا للضرورة، وحيث لا ينفع سواه، ويغلب على الظن أن الأسلوب الأشد ينفع في الإصلاح، وإلا ففي “التسريح بإحسان” متسع.

هكذا نفهم شرع ربنا في إدارة العلاقة الزوجية، ولكن واقع الممارسة الاجتماعية في حياتنا اليومية، وخبرتنا الطبية الإكلينيكية في عملنا تقول: إن الناس درجوا على غير ذلك: فهناك غياب للحوار والتشاور، وهناك عنف، وقلة حكمة من الطرفين، وهناك تعسف وإساءة لاستخدام كل طرفٍ لحقوقه المشروعة، مع إلحاح زائد في المطالبة بها، وهناك استفزاز تحسبه المرأة حلاً، ورعونة يحسبها الزوج رجولة..!

ومن أسباب غياب الحوار بين الزوجين:

1- الجهل بمعنى وأهمية الحوار:هناك غياب للإدراك بأن الحوار هو عصب الحياة الزوجية، وأنه الجسر الذي تنتقل عبره المغازلات والمعاتبات، والاستشارات والملاحظات.
وهناك ظن أن الحوار يحمل معنى الضعف بالافتقار إلى رأي الآخر، أو أن البوح بمكنون النفس لا ينبغي أن يكون. ونحن هنا لا نناقش ماذا يقول الشريك لشريكه، وماذا يكتم فذلك موضوع آخر، ولكننا نتحدث في المبدأ إذ لا يجوز أن يغلق أحد الطرفين نفسه، أو يستغني عن التواصل مع الطرف الآخر بوحًا أو استشارة تحت أية دعوى، ولو كانت نبيلة، مثل: تجنب إحراجه، أو لومه، أو عدم شغله بمشاكل إضافية، وليس الحوار بالضرورة لومًا أو إحراجًا، أو افتعال مشاكل.

وبعض الأزواج لا يرى في زوجته الكفاءة التي تؤهلها للمشاركة في حوار معه حول شئونهما، وشئون البيت، والشئون العامة، وإذا صح اعتقاده فيها فهو خطؤه حين اختار زوجة غير مناسبة، وإن لم يصح فقد ظلمها وظلم نفسه، وفي الحالين لا نعفيه من مسئولية التواصل معها لعله يجد الواقع أفضل من حساباته، ولعله يجد عندها إجابة على سؤال يحيره أو مشاركة في هم يحاصره.
وصلى الله وسلم على الموحَى إليه حين دخل على أم سلمة -رضى الله عنها- يوم الحديبية.. وقال لها: هلك الناس.. أمرتهم أن يحلقوا رؤوسهم ويتحلّلوا من إحرامهم فلم يفعل ذلك منهم أحد.

فأشارت عليه بالرأي الذي بدد حيرته، وأخرج المسلمين من هذا الموقف العصيب. ومن الخطأ الظن بأن الحوار بين الزوجين يعني البدء بالتفاهم، أو يسوده دومًا الهدوء والسلاسة، إنما الحوار ينشد الوصول إلى هذا فإن بدأ به سعينا لتطويره واستثماره.
ويحتمل الحوار الشد والجذب، كما يحتمل اختلاف وجهات النظر، ولا يكون الخوف من هذا سببًا مقبولاً في اجتناب الحوار، إنما هو السبيل للوصول إلى الحكمة تخرج على لسان أحد الطرفين، ويهدي الله لها بإذنه من يشاء، أو يُحسم الخلافُ بأمرٍ راشدٍ لتحويل حصيلة النقاش لإجراءات.

2انشغال أحد الزوجين أو كلاهما:يعود منهكًا من عمله، أو تعود مكدودة لتجد البيت ومطالبه، والأطفال وحاجاتهم فمن تعبٍ إلى تعب، ومن انشغالٍ إلى انشغال.
فأين الوقت؟ وأين الطاقة النفسية والذهنية والإرادة والصبر على بدء وإدارة حوار، أو حتى تبادل كلام؟
! ويتفاقم الأمر بغياب أحد الطرفين عن الآخر في سفرٍ طويل لدراسة أو عمل فيراه رفيقه في العام شهرًا!!
مثل تلك الزوجة التي جاءت متهيبة من اللحاق بزوجها العامل بالخارج و الاستقرار معه بعد خمس سنوات من سفره كانت تراه فيها في إجازة قصيرة كل عام، وتقول: “كنت في كل مرة أشعر أننا نتباعد، رغم وجود أطفال، وأشعر أن المسافة بيننا كبيرة”. فقلنا لها: يا سيدتي كأنكما لم تتزوجا فعلياً حتى الآن!! إن الزواج معاشرة، والمعاشرة ليست جنـسًـا فقط، وشهر في العام لا يكفي للتعارف بينكما فيكف بالتفاهم والتآلف؟! إن سفرك للاستقرار معه هو الزفاف الحقيقي، والبداية الحقيقية لحياتكما الزوجية..
وتلك هي النصيحة لكل من لا يتحاور مع زوجته: إنهما في الحقيقة غريبان في بيت واحد يجهلان عن بعضهما البعض أكثر مما يعرفان ..بكثير.
والحوار سيقدم الكثير من المفاجآت والمبادرات، لا بد من وقت للكلام، وإذا كان المثل الحكيم يقول: تكلّم حتى أراك فإننا نقول: تكلم حتى يشعر بك شريكك، وتشعر به. حاجتنا شديدة وماسة لتعلم فنون الكلام، وحاجتنا أكثر ربما لتعلم فن الإصغاء.

3الحرص على عدم تكرار فشل سابق:فقد يخشى أحد الطرفين أو كلاهما من تكرار محاولة فشلت للحوار من قبل. تخاف الزوجة أن تطلب من الزوج، أو تتحرج، إذ ربما يصدها أو يهمل طلبها، أو يستخف به كما فعل في مرة سابقة.
وقد ييأس الزوج من زوجة لا تُصغي، ولا تجيد إلا الثرثرة أو لا تفهم وتتفاعل مع ما يطرحه، أو يحكيه.
الخوف من رد الفعل، أو اليأس من تغيير طباع الطرف الآخر يجعل إيثار السلامة بالصمت هو الحل، وهنا يكون عدم الحوار اختيارًا واعيًا لم تدفع إليه ظروف خفية، أو تمنعه المشاغل، ولم ينتج عن إهمال أو تناسٍ.
والمبادرة هنا لا بد أن تأتي من الطرف الذي سبق وأغلق باب الحوار بصدٍ أو إعراضٍ أو عدم تجاوب.
إن التحاور والتشاور يعني طرفين أحدهما يستمع، والآخر يتحدث ثم العكس، ولا يعني أن أحدهما يرسل طوال الوقت أو يُتوقع منه ذلك، والآخر يستقبل طوال الوقت، أو يُنتظر منه ذلك، وتكرار المبادرات بفتح الحوار، ومحاولة تغيير المواقف السلبية مسألة صعبة، لكن نتائجها أفضل من ترك الأمر، والاستسلام للقطيعة والصمت.

4الاعتقاد الخاطئ بأن الأفعال تُغني عن الأقوال:الإطار العام للحياة الزوجية – من سكن ومودة ورحمة – هو الحب بهذا المعنى الأشمل الذي يأخذ بين الزوجين معانٍ أعمق وأرحب مما يأخذ بين غيرهما، وقد يشهد الانتقال من مرحلة قبل الزواج إلى ما بعده تحولاً من التعبير بالكلمات الجملية، والهدايا، والمجاملات بأنواعها إلى التعبير “الصامت” المتضمن غالبًا لأفعال أهم وأكثر فاعلية ودلالة من الأقوال لكنها لسوء الحظ لا تكفي!!
في فترة الخطوبة وما بعدها -حتى الزفاف- يمكن أن تستمر مكالمات هاتفية بين الطرفين لساعات ثم بعد الزواج يقولون: لا يوجد كلام نقوله!!!
ويقولون: في الفعل ألف دليل ودليل على الحب أبلغ من الكلام.
ونقول: تلك هي نصف الحقيقة، لأن الله خلق للإنسان لسانًا فعله الكلام، وصار فعل الكلام سبيلاً وعلامة على التواصل، بينما عدمه دليلاً على الانقطاع.

الحوار -حتى الصاخب- علامة من علامات الحياة: حياة العلاقة، ودفئها، وتدفقها، ومعناه أن الشريك يأنس بشريكه، ويهتم بأمره-ولو شغبًا أو اعتراضًا- ويحب الحديث معه، يتبادلان الضحكات أو الآراء، أو حتى الاتهامات ثم يصفو الجو أو يتكدّر فيتجدد الحب حين يتحرك تيار التواصل، أما الصمت حين يسود فالركود والبرود ، وجبال الجليد تنمو وتتضخم، وربما التمس الشريك الدفء والتواصل في مكان آخر، أو مع أطراف أخرى، وفي هذا خطر كبير.

وبعد.. فإن غياب التشاور والحوار والكلام بين الزوجين آفة منتشرة، وهي “أم المشاكل” في كثير من الحالات الزوجية المتأزِّمة، والرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” كان يدعو-في اعتقادنا- إلى أن يحرص المؤمن على كل كلمة يقولها ويختار الأحسن، وهو ما ندعو للتدريب عليه، ولم يكن بداهة يدعو إلى إشاعة حالة وثقافة الصمت بين المؤمنين، في بيوتهم أو خارجها!! إن الحوار الذي يغيب في بيوتنا غائب أيضا على مستوى السياسية والمجتمع والإعلام، وربما ينبغي أن يبدأ في البيت ككلمة طيبة، والكلمة الطيبة صدقة، ولمسة حانية، اتفاق واختلاف، هدوء وصخب، غضب ورضا، وفي إطار الحب يتقلب الحوار.. هكذا الزواج وهكذا الحياة.


د.أحمد محمد عبد الله – مدرس مساعد في الطب النفسي