هيام السيد

نعم ! حدث بالفعل .. حدث أن رأت أذني وسمعت عيني!!.. حدث لي وربما يكون يحدث لك دون أن تدرى ولا تشعر. فهذا الاختلاط في الأحاسيس بل في الحواس يحدث دائمًا عندما تشاهد الجمال وتشعر به وتذوب فيه وتعيش معه، يحدث عندما تتأمل تلك المنظومة الرائعة من الفنون الإسلامية، وتقدرها حق تقدير؛ فيتحقق لك الإشباع الجمالي والحسي، عندما تتذوق الوحدة والتناغم بين العلاقات الشكلية فتختلط عليك حواسك فتسمع بعينيك وترى بأذنيك.
ذلك أن الإنسان ظاهرة طبيعية من ظواهر هذا الوجود، خلقه الله سبحانه وتعالى ليُعمِّر الأرض. وسائله في التعبير هي أدواته وعدده وآلاته المستمدة مما يحيط به من ظواهر طبيعية أخرى، يستعمل جميع حواسه وخاصة البصر والسمع، ومن ثم فالفن الإسلامي في الزخرفة والعمارة، هو أحد تلك الظواهر التي نتحدث عنها، والتي يختلط فيها الحس بالإحساس بالحواس. ولغة الفن الإسلامي مستعارة من الطبيعة، فالخط واللون والظل والنور وملامس السطوح (الملمس الناعم، والملمس الخشن) والأحجام والسطوح والفراغات، كلها مستمدة من الطبيعة وتحليلها، وهذه العناصر هي بمثابة حروف وكلمات الفنون التشكيلية الإسلامية ، تمامًا مثل كلمات اللغة التي نصوغ منها الشعر والأدب، ومثل أصوات الطيور والرياح والمياه الجارية، وهى العناصر الأولية التي نصوغ منها الموسيقى وهكذا …
ودعونا نحاول فيما يلي أن نستكشف سويًا معالم هذا الفن الجميل، وعناصره من بداية ظهوره مع ظهور وانتشار الدين الإسلامي وحتى يومنا هذا

وحدة الفنون الإسلامية
إن وحدة الفنون الإسلامية التي نلمسها في منتجات وعمائر البلاد الإسلامية من أقصى المغرب في مراكش العربي إلى أقصى المشرق في إيران والهند أمر يدعو إلى الدهشة، ويثير الرغبة في البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذه الظاهرة الفريدة، لأن هذه الأقطار في أصولها التاريخية مختلفة في: اللغة وأصول الجنس البشرى والعادات والعقيدة؛ وبالتالي فهي مختلفة في مظاهرها الحضارية كطرز المباني الدينية والمدنية، وأدوات الحياة اليومية.
وقد أجمع الباحثون والدارسون على أن العقيدة الإسلامية التي انتشرت في هذه المنطقة الشاسعة بسرعة غريبة، كانت ذات أثر قوي في تحقيق هذه الوحدة؛ بحيث تغلبت على فوارق الجنس والتقاليد الوطنية المتوارثة. ولعل السر الكامن في قوة وفاعلية العقيدة الإسلامية أنها ليست قاصرة على العبادات؛ وإنما هي نظام للحياة: نظام يقوم على دعامات قوية ومتينة في المثل والقيم والمبادئ. وأن هذه العقيدة تمتد إلى شئون الفكر والآداب والعادات والمعاملات، وهناك عامل آخر هو أن القرآن الكريم أُنزل باللغة العربية، وأصبحت عاملاً مشتركًا ورباطًا مميزًا في كل أعمال الفن، وبخاصة أن كراهية تمثيل الكائنات الحية جعل للغة العربية منزلة خاصة، وهكذا أصبحت اللغة العربية والكتابة عاملين جوهريين في كل ما أُبدع من أعمال فنية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وهناك عوامل أخرى ساعدت على تكوين وحدة الفنون الإسلامية الزخرفية، منها تجميع العمال والفنيين من مختلف البلاد الإسلامية للتعاون في إقامة المنشآت العامة: كالمساجد الجامعة أو قصور الخلفاء؛ فعندما استقرت الخلافة الأموية في دمشق وضع نظام لاستيراد المواد الخام، واستقدام الأيدي العاملة الممتازة من كافة أنحاء الدولة، وكان المعلمون من المصريين والسوريين والفرس والروم يعملون جنبًا إلى جنب يتعاونون في تحقيق حركة البناء النشطة التي كانت تتزايد مع الأيام.
ويعتبر المسجد رمزاً للفن الإسلامي؛ فهو مكان بسيط على شكل مربع أو مستطيل مستمد من المسجد الأول للرسول () بالمدينة المنورة، وقد انعكست بساطة العقيدة، وعدم وجود قرابين أو تأليه لشخصيات دينية على المسجد؛ فكان -ولا يزال- بسيطًا في تخطيطه وتجهيزاته، ويُزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية والهندسية المجردة، وأصبحت مسئولية المهندس المعماري المسلم تأكيد الهيكل البنائي بإثرائه بالزخارف النباتية المجردة والهندسية، والخط العربي بأنواعه. كما حرص الفنان المسلم على إثراء هذه البساطة المعمارية بالتنويع في الخامات المستعملة، فهو عندما يُقسِّم السطوح الموجودة أمامه على جدران المسجد إلى مساحات مختلفة الأشكال يملأ كل مساحة بعناصر زخرفية نباتية مجردة أو هندسية، كما يستعمل الحجر والرخام والجص والفسيفساء وبلاطات القيشاني بحثاً عن القيم الجمالية التي تتميز بها كل خامة، ذلك إلى جانب فتحات النوافذ التي تشكل بدورها علاقة جمالية مع الجدران، وتزين في نفس الوقت بالزجاج الملون الذي يضفي على المكان روعة وجمالاً. هذا الأسلوب لم يكن قاصرًا على المساجد وحدها؛ بل يمتد بزخارفه المتعددة ونوافذه المُحلاة بالزجاج الملون إلى البيوت والقصور وإلى جميع أنماط العمائر الإسلامية، فهو أسلوب عام لكل الإنتاج الفني الإسلامي بما في ذلك المنتجات الفنية الصناعية التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية

اقرأ في هذه الزاوية: حكايات بعد الإفطار