كانت المقامة هي الإرهاصة الأولى لفن القصة القصيرة العربية بشكلها المتعارف عليه الآن. وبعد فترة خفت صوت الحضارة العربية ليتلقف الغرب منجزها الفكري/ العلمي، فأضاف إليه بعد أن عكف على دراسته وتحليله، وكان لهذا الفكر دور مهم في النهضة الغربية الحديثة، وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأت موجة من الترجمات عن الغرب -وإن كانت قد بدأت قبل ذلك وتحديدًا في الثلاثينيات، على يد رفاعة الطهطاوي– فحدث تفاعل وتلاقح نتيجة الاطلاع على هذا المنجز الذي أضاف ولا شك للبنية الفكرية العربية التي كانت تعيد تشكيل وعيها بعد فترة طويلة من السكون.

ظهرت القصة كفن أدبي في بداية القرن العشرين، وكان لها ذيوع كبير، وتذهب بعض الآراء إلى أن أول قصة قصيرة عربية بالشكل المتعارف عليه كانت قصة “في القطار” لمحمد تيمور، والتي نشرت في جريدة “السفور” سنة 1917، بينما هناك آراء أخرى تقول بأن أول قصة قصيرة عربية تظهر في العصر الحديث كانت لميخائيل نعيمة، وهي قصة “سنتها الجديدة” التي نشرت في بيروت عام 1914.

مصر نموذجا

عماد مطاوع

كانت ثمة جهود ومحاولات للاقتراب من كتابة القصة القصيرة العربية، واضطلع بالقيام بهذه المحاولات “عبد الله النديم” من خلال مجلته “التنكيت والتبكيت”؛ حيث كان يلجأ إلى الشكل القصصي في انتقاداته اللاذعة التي اشتهر بها، كذلك تجربة لبيبة هاشم ومنصور فهمي وخليل مطران، وإن كانت كلها لم تتعدَّ الإسهام في الشكل الهيكلي للقص، ثم كانت تجربة “محمد المويلحي” في “حديث عيسي بن هشام”، والتي اقتفى فيها أثر المقامة العربية القديمة، وأيضًا كتابات “مصطفى لطفي المنفلوطي” التي كانت وعظية انتقادية في المقام الأول، لكن كان لها دور مهم في هذه المرحلة؛ ما وفر لها فرصة الذيوع والانتشار، وجاءت مرحلة أخرى مهمة وهي مرحلة الرواد الذين ضربوا بحماس وقوة في أرض ذلك الفن الجميل، والذين أنتجوا بالفعل تجارب قصصية لها كيانها الفني والفكري، طبقا لعصرهم وظروفه، وهؤلاء هم: محمد تيمور، عيسى عبيد، شحاتة عبيد، محمود تيمور، محمود طاهر لاشين.

في هذا الوقت كانت ثورة 1919 قد فتحت وعي الكثيرين على ضرورة التجديد والثورة على القديم، وظهر إلى النور ما سمي “المدرسة الحديثة في القصة” والتي قادها “أحمد خيرت سعيد” من خلال مجلة “الفجر” التي كان شعارها الهدم من أجل البناء. ومن أبرز أعضاء هذه المدرسة: حسين فوزي، يحيى حقي، إبراهيم المصري، حسن محمود، سعيد عبده، محمود البدوي.

ولقد قدمت المدرسة الحديثة إنجازات مهمة توازت مع حركة الترجمة التي كانت نشيطة في هذا الوقت، وأصبح للقصة القصيرة مكانة هامة، وصارت محط ترحيب كافة الإصدارات والدوريات.

ثم جاء جيل الخمسينيات كما اصطلح على تسميته. ومن أبرز كتاب هذا الجيل: يوسف الشاروني، يوسف إدريس، أبو المعاطي أبو النجا، عبد الرحمن الخميسي، محمد صدقي…

وكان للحركة التحريرية التي شبت في العالم العربي إبان النصف الثاني من القرن العشرين دورًا هامًا في تبني هذا الجيل لشعارات وتوجهات الأنظمة السياسية، ولم ينجح منهم إلا القليل الذين ظلوا مخلصين للقصة كفن يعبر عن ذواتهم وعن مجتمعاتهم.

تعد حقبة الستينيات من أكثر الفترات غليانا على مستوى المحيطين العربي والعالمي، فقد كانت هناك حرب باردة بين قطبي العالم وقتها: أمريكا الاتحاد السوفيتي.

وكان للعالم العربي وضعيته الخاصة؛ فهو يموج بالكثير من حركات التحرر والتغيير، ومحاولة إيجاد شكل ديمقراطي للحياة السياسية، وبهذا كان جيل الستينيات كالقذيفة التي انفجرت. وبرز في هذا الجيل أسماء عديدة كان لها تواجدها ودورها الهام على الخريطة الإبداعية العربية، فلقد قفز هذا الجيل بكتابة القصة قفزات واسعة، وأصبحت أقلامه مرايا مخلصة لمجتمعها تعري عيوبه، ومن أبرز هذه الأسماء: محمد حافظ رجب، يحيى الطاهر عبد الله، إدوار الخراط، سليمان فياض، محمد البساطي، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، إبراهيم أصلان، عبد الحكيم قاسم، مجيد طوبيا، محمد إبراهيم مبروك، بهاء السيد، عز الدين نجيب، محمد جاد الرب، محمد عباس، الدسوقي فهمي، خيري شلبي، محمد مستجاب، محمد جبريل…

السودان نموذجًا

*باختصار من مقال “ملامح من تاريخ القصة القصيرة في السودان” عن البيان الإماراتية

 بقلم: الشفيع عمر حسنين

مؤثرات على نشأة القصة القصيرة السودانية:

– التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى خلخلة النظام القبلي الموروث، ونمط الحياة المستقرة.

– التأثر الواضح بالموروث من التراث الشعبي والأسطورة.

– حركة الأدب في كل من مصر وسوريا ولبنان وبريطانيا، والكتب المترجمة من الأدب الروسي إلى اللغتين العربية والإنجليزية، والتي كانت في أوج مجدها في تلك الفترة.

دور معاوية محمد نور

شهدت فترة الثلاثينيات نشاطا واسعا للناقد والقاص معاوية محمد نور، من كتابة للقصة، ودراساته في النقد الأدبي، وإسهاماته المتعددة في الصحف والمجلات الإنجليزية والمصرية واللبنانية أثناء دراسته بجامعة بيروت.

ويعتبر معاوية نور أول من كتب القصة القصيرة بمعناها المحدد والمعروف. وساهمت مقالاته في النقد بصحيفة السياسة الأسبوعية في اتجاه الكتّاب نحو الواقعية وتصوير الشخصيات الحية ودعاها إلى تبني القصة النفسية الاجتماعية، وقدم أمثلة حية بكتاباته للقصة القصيرة، وإن اعتمدت على طريقة التحليل النفسي. وأدى ظهور مجلتي “النهضة” و”الفجر” إلى المساهمة في استقطاب وتشجيع الكتّاب ونشر أعمالهم ودراساتهم عن فن القصة. فظهرت في تلك الفترة أسماء: عبد الحليم محمد، السيد الفيل، حسن أحمد ياسين، ومحمد عشري الصديق كأول من اهتموا بالقصة القصيرة ووضع لبناتها الأولى لتسير جنبا إلى جنب مع الحركة الشعرية التي ازدهرت في تلك الفترة. ودارت أغلب قصصهم عن الزواج والحب والنزوح من القرية والسفر. وأخذت الأسطورة والتراث حظهما الجيد من اهتماماتهم التي لم تخرج من نطاق فكر المجتمع آنذاك. ونال الاستعمار أيضا قدرا لا بأس به من الاهتمام لديهم ليعبروا بذلك عن مشاعر الأمة، وليستحقوا لقب جيل الرواد.

فترة الأربعينيات

أما فترة الأربعينيات فقد جاء التأثر فيها واضحا بالمذاهب الفكرية التي ظهرت في السودان، ومن أبرزها ما سمي بالواقعية الاشتراكية. وعرفت القصة تطورا نوعيا في نمط وأشكال القصة إلى التعبير عن قطاعات المجتمع الدنيا، وأصبحت القصة أكثر ديناميكية، واكتسبت صفة الحيوية باستيحائها للشخصيات والحواريات من عمق المجتمع ورصد حالاته وتحليلها. ومن أبرز الأسماء في هذه الفترة: خليل علي، أبو بكر خالد، وعثمان علي نور الذي أصدر مجلة «القصة» كأول مجلة سودانية متخصصة تعنى بالقصة القصيرة. وظهرت أسماء تركت بصماتها الكبيرة في الأدب السوداني الحديث كله أمثال البروفيسور علي المك، د. إبراهيم الشوش، الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، الزبير علي وغيرهم.

وتعتبر هذه الفترة من أخصب الفترات وأكثرها تأثرا بحركة الأدب والنقد العالمية، وبانتشار فن القصة على نطاق واسع. وأفاد كتّاب هذه الفترة كثيرا من هجرتهم ودراساتهم بالخارج. وتزامن هذا الثراء في القصة مع حركة الشعر الكبيرة التي انتعشت في تلك الفترة.

اقرأ أيضا :

أين نشأت القصة القصيرة..؟

الجزائر نموذجا

من بحث: “تطوّر البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 1947 – 1985 – شريبط أحمد شريبط

نشأت القصة الجزائرية على يد رجال الإصلاح ومقاومة المحتل مثل: محمد بن العابد الجلالي، ومحمد سعيد الزهراوي. وكانت تسمى القصة الإصلاحية وتتناول القيم التي يجب أن تسود المجتمع وضرورة التخلص من المحتل، وأهمية الحرية وكان ذلك في حوالي 1924، لكن التطور والنضج الحقيقي كان على يد جيل الثورة الأدبي‏؛ حيث عرفت الحياة الأدبية والثقافية في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية (1944) تطوراً ملحوظاً، فقد كثر عدد الكتاب ورجع بعضهم إلى أرض الوطن، وتخرج بعضهم الآخر في معاهد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما شهدت هذه المرحلة استمرار إرسال البعثات العلمية إلى البلاد العربية، وخاصة إلى تونس، والمغرب الأقصى، مما نتج عنه ازدهار طرأ على مختلف الأنواع الأدبية إثر تأسيس النوادي والجمعيات الثقافية، وانتشار الصحف اليومية والمجلات الدورية التي تعنى بالإبداع.‏

ويعد قيام حرب التحرير الوطنية الكبرى في أول نوفمبر عام 1954 من أهم عوامل تطور الأدب الجزائري المعاصر سواء على صعيد الشكل أو المضمون، “والتحقت القصة بدورها بالجبل تعايش الثورة وتكتب عنها، ومن القصاص من تفرغ للثورة، وتخصص فيها، ولم يكتب عن أي موضوع سواها مثل عثمان سعدي وعبد الله ركيبي، وفاضل المسعودي ومحمد الصالح الصديق.

لارتباط القصة بالثورة الجزائرية أثران: أحدهما إيجابي: ففي الشكل حاول القصاصون استعارة أشكال فنية مختلفة من الآداب العربية والأجنبية لمواكبة التعبير عن الثورة، وعلى مستوى المضمون أثرت الثورة التحريرية في مضمون القصة، بما لا يقل عن أثرها في الشكل، فقد تقلصت الموضوعات الإصلاحية وخلفتها موضوعات جديدة استلهمت الواقع، فكثر وصف صمود الشعب الجزائري أمام قوى المستعمر وتصوير بطولات المناضلين والتعبير عن الحياة الاجتماعية الجديدة.‏

أما التأثير السلبي:‏ فقد اهتم القاص الجزائري اهتماماً كبيراً بتصوير المعارك، وبدافع وطني يمليه إحساسه بالواجب، والتزام بتصوير كفاح الشعب، وقد أدى هذا الالتزام إلى بروز بعض الكتابات الضعيفة، لغياب التركيز أو عنصر التشويق.

أبرز كتاب جيل الثورة (1954-1962): عبد الحميد بن هدوقة، وأبو العيد دودو، والطاهر وطار.

سوريا نموذجا

الإرهاصات  1931-1947:

نُشر في هذه المرحلة اثنتا عشرة مجموعة قصصية، كان فن القصة القصيرة واضحاً في بعضها، وفي قسم آخر ترجح بين الصورة والمقالة والخاطرة، لكنها في مجملها تحمل بذور نضوج فن القصة القصيرة في تاريخ الأدب السوري. إن الجرأة على نشر المجموعات، وطرق موضوعات لم يعتد طرقها من قبل، والاستفادة من الاحتكاك مع الآخر جديرة بالانتباه، بخاصة أن أماكن النشر كانت متعددة، والكتاب كانوا من مناطق متعددة، وقد أسهمت الصحافة إسهاماً فاعلاً، وراح عدد من أولئك القاصين يتابع الكتابة والنشر لاحقاً، وقد طوّر تجربته وقادها إلى مصاف فنية مقبولة: أديب نحوي- مظفر سلطان…

كانت أمام الكتاب آنئذٍ مهام عديدة تتصل بضرورة ترسيخ جذور الفن القصصي؛ إذ أدرك معظمهم أن مفهوم القصة القصيرة غربي الجذور، وعلى الرغم من بدء نشاط الترجمات من الأدب الفرنسي والروسي، وبدء انتشارها سواء أكانت ترجماتها في سورية أم لبنان أم مصر، فإن الأدباء كانت تتناوشهم ناران: نار الصدمة مع الآخر وضرورة الاستفادة مما تقدمه ثقافته، ونار كونه محتلاً لأرضنا.‏

إن الهم الاجتماعي كان من أبرز الهموم التي شغلت القاصين، وتجلى ذلك عبر نقد ما يقوم به الناس وبعض العادات والتقاليد، وكان الديدن الرئيسي لهذا الهم الإشارة إلى الآثار الاجتماعية المأساوية على العلائق بين الناس.‏

مثلما انصرف عديدون نحو معالجة الهموم الذاتية ذات البعد الإنساني التي تتعلق بمدى مقدرة الذات على الانسجام مع المجتمع، وما تكابده هذه الذات نتيجة بعض العادات والتقاليد. وراح قاصون يتحدثون عن هموم تاريخية، فيما انشغل بعضهم بالصدمة مع الغرب وتأكيد الفروقات، وكذلك تأكيد ضرورة الاحتكاك.

استواء الفن 1959- 1968:

وهذه المرحلة أبرز الحلقات في تاريخ القصة السورية من حيث تقديمها وترسيخها لعدد من الأسماء التي لا تزال تعدّ من أميز الكتاب، مثل: زكريا تامر، وليد إخلاصي، حيدر حيدر، محمد حيدر…

تأثرت القصة السورية بانكسار الحلم القومي إثر انهيار الوحدة المصرية السورية وكذلك الصفعة الكبرى في حرب 67، وقد تجلت آثار هذه الصدمة في نفوس الناس وفي مختلف منتوجاتهم من أدب وفن وفكر.

تميزت القصة القصيرة في تلك الفترة بالمقدرة الواضحة في المزج بين القضايا الاجتماعية والقضايا الوطنية والقومية التي أدرك عديدون أنها لا تنفصل عن بعضها، وربما تكتسب جميعها المزيد من المصداقية في ظل تقاطعها.

فيما انشغل بعضهم في تسجيل تجربته الشخصية التي عايشها، غير حريص كثيراً على المسألة الفنية بقدر حرصه على توثيق ما حدث معه، وربما غير آبه بإعطائها الأبعاد الإنسانية أو تعميقها دون أن يغفل المرء عن الأثر البكائي الانفعالي، واللغة الإنشائية العالية في بعض القصص.

نشرت في : 27/10/2002