أحمد عبد الحميد

غلاف رواية عزازيل

اهتزت الجموع مهتاجة تردد: “بعون السماء سوف نطهر أرض الرب من الوثنيين”، واندفع الجميع في حالة هياج مجنون إلى خارج الكنيسة يقصدون “الكافرة” هيباتيا، يقودهم من يسمى بطرس، ولحقوا بها في عربتها، والتفوا حولها وهم يصرخون بهتافهم متوعدين “الكافرة”، أطلت هيباتيا برأسها الملكي من شباك العربة.. كانت عينها فزعة مما تراه حولها، تعقد حاجباها، وكادت تقول شيئًا لولا أن بطرس زعق فيها: “جئناك يا عاهرة يا عدوة الرب”، وجذبها بطرس وألقاها على الأرض قائلا: “باسم الرب سوف نطهر أرض الرب”.

كان ذلك مشهدا من رواية “عزازيل” التي قام بكتابتها الدكتور “يوسف زيدان” الخبير في المخطوطات والفلسفة، والتي أثارت جدلا واسعا؛ نظرا لأنها تناولت الخلافات اللاهوتية المسيحية القديمة حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء، والاضطهاد الذي قام به المسيحيون ضد الوثنيين المصريين في الفترات التي أضحت فيها المسيحية ديانة الأغلبية المصرية.

شفرة دافنشي العربية

عندما تقرأ الرواية تلاحظ أنها تقترب من “التابوهات” وتحللها وتكشف عن فترة من التاريخ القبطي المبهم والغامض للكثيرين، وتكشف عن مجموعة من الرؤى والأفكار الصادمة للبعض، والمستفزة للبعض الآخر.

 

الدكتور يوسف زيدان

“عزازيل” لم تمر مرور الكرام، فقد قوبلت بعاصفة من التصريحات الغاضبة من بعض رجال الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية، حيث اتهم القمص “عبد المسيح بسيط” -أستاذ اللاهوت الدفاعي بالكلية الإكليريكية- الرواية بأنها تنتصر لمن تسميهم الكنيسة بالهراطقة، وتوجه هجوما شديدا للكنيسة ورمزها القديس مرقص.

وبدأ بعض المحامين الأقباط في التفكير في تحريك دعاوى ضد الرواية لمنع ترويجها ومصادرتها، ومن بينهم المحامي نجيب جبرائيل -رئيس مركز حقوق الكلمة- الذي اعتبر الرواية مسيئة، تطعن في العقيدة المسيحية، حيث تقول ببشرية المسيح وليس بألوهيته، معتمدة في ذلك على آراء “نسطور” المطرود والمحروم من الكنيسة الذي فصل بين الطبيعتين البشرية واللاهوتية للمسيح.

ويشير جبرائيل إلى أن زيدان عبر في تلك الرواية عن آرائه بهجومه الشديد واللاذع على الكنيسة القبطية، واعتبر جبرائيل الرواية حافلة بالكثير من الانتهاكات للعقيدة المسيحية، ونالت من الثوابت العقيدية، وأضاف أنه سوف يقوم بصفته -المستشار القانوني للبابا- برفع دعوى عاجلة لمنع تداول الرواية.

وعندما سألناه عن التناقض بين موقفه هذا من رواية “عزازيل” وموقفه من مجمع البحوث الإسلامية، والذي وصفه بأنه “محكمة تفتيش لا يختلف عن محاكم التفتيش العصور الوسطى”، وذلك بعد مصادرة كتابه “الازدراء بأحد الأديان السماوية” الذي جمع فيه كل كتابات أشهر رجال الدين الإٍسلامي التي أساءت للعقيدة المسيحية من وجهة نظره، رد جبرائيل بأن كتابه من صميم عمله كحقوقي يعمل في منظمات “حقوق الإنسان” يرصد كل الإساءات التي توجه للأديان أيا كانت هذه الديانة، وأرجع قيام الأزهر بمصادرة كتابه إلى أنه طالب فقط فيه بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على الشريعة باعتبارها المصدر الأساسي للتشريع؛ لأنها تتناقض مع مفهوم الدولة المدنية، واعتبر المادة الثانية عقبة كئودا، -على حد وصفه- أمام الدولة المدنية، وأضاف أنه عاكف حاليا على إعداد كتاب يجمع فيه كل الكتابات التي ازدرت الدين الإسلامي.

وعندما أردنا الحديث مع الدكتور “يوسف زيدان” على روايته “عزازيل” وعلى اتهامات بسيط وجبرائيل، رفض الحديث (وكانت نبرته في الحديث تحمل قدرا من القلق والاضطراب)، وعلق بجملة واحدة: “أنا لن أتحدث بأي كلام يؤخذ علي كقرينة في المحكمة، والتصريحات التي قيلت على لساني بالصحف لم أقلها”.

الكنيسة.. والإبداع

 

الباحث والصحفي القبطي سامح فوزي

فيلما “بحب السيما” و”شفرة دافنشي”، ومسلسل “أوان الورد” وأخيرا رواية “عزازيل”، كلها أعمال أثارت لغطا حول حق الكنيسة في طلب المصادرة أو منع النشر والترويج، لذا يبقى التساؤل: هل للكنيسة -وهي جهة غير مختصة إبداعيا- الحق في تقييم عمل فني وأدبي من عدمه؟

يرى القمص “صليب متى ساويرس” -وكيل المجلس الملي وكاهن كنيسة الجيوشى- أن الكنيسة مثلها مثل المؤسسة الأزهرية لها الحق في أن تطالب بمصادرة أي كتاب يهدم في الأسس الدينية، أو يتطاول على الأديان. كما يعطي نجيب جبرائيل الحق للكنيسة في أن تطالب بمصادرة أي عمل إبداعي أو رواية تعدت على القيم المجتمعية والدينية أو الموروث الثقافي.

بينما يخالفهما “سامح فوزي” -الصحفي والباحث القبطي- حيث يقول إنه ضد فكرة مصادرة أي عمل إبداعي مشاهدا أو مكتوبا على المطلق، لعدة أسباب أهمها: أنك تعطي مشروعية وانتشارا للعمل الذي تحاول مصادرته، وأن حدود النشر ومساحات الحرية لنقل الأفكار هي من الاتساع بمكان بحيث صار من الصعوبة على أي جهة رقابية أن تصادر أي عمل بشكل كامل في وجود فضاء إنترنتي، وانتشار هائل للفضائيات.

والسؤال من وجهة نظر فوزي هو: هل نخشى على عقيدة أو إيمان الجمهور الموجه إليه الرسالة؟ ونعتقد أن هذا العمل الإبداعي من الممكن أن يهز أديانا عميقة الجذور أتباعها بالمليارات؟ وهل تمارس المؤسسة الدينية نوعا من الوصاية، بحيث تعتقد أن أتباعها من الهشاشة وغير المحصنين فتقف لتحاصر وتصادر؟

ويشير فوزي إلى أنه في فترة ظهور الأديان الأولى -حيث كان أتباع الأديان حينها في حالة عالية من الرخاوة- لم تكن هناك مصادرة أو قمع للآخر، بل كان هناك المجادلة والمقارعات الفكرية بين أتباع الدين وبين غير المؤمنين وكانت تنتهي دائما بتعزيز الإيمان داخل المؤمنين بالدين، وهزيمة المنطق الضعيف وتلاشيه.

ويضيف: إن جمهور الديانة الذي سيتأثر إيمانه بعمل إبداعي ليس أهلا لأن يعتنق هذه الديانة، وإيمانه بها محل شك.

ويرى فوزي أن الحاكم الوحيد على العمل الإبداعي هو قواعد العمل الإبداعي فقط لا غير، واعتبر أنه من الخطأ تقييم الأشياء والحكم عليها بوجهة نظر غير القواعد الفنية التي ينتمي إليها العمل أيا كان لونه أدبي، مسرحي، درامي.. إلخ.

الدكتور “صفوت البياضي” رئيس الكنيسة الإنجيلية يؤكد أنه ضد فكرة المصادرة بوجه عام، وأن مصادرة الفكر ليست الحل والعلاج، ولكن العلاج الحقيقي لفكر شاذ أو متطرف هو بطرح فكر آخر جيد في عمل إبداعي آخر يهدم الفكر السيئ الموجود بالعمل الذي تريد مصادرته، فالفكر أيا كان لونه إذا صودر تحول صاحبه لشهيد رأي.

والمصادرة من وجهة نظر البياضي هي “نوع من أنواع الرعاية” بمعنى آخر نستطيع القول إنك لو أردت أن تنشر عملا اعمل على مصادرته، لكن بمناقشة العمل أو الفيلم بهدوء ستسقط الرواية أو الفيلم الرخيص حال كشفت سوءاته، وليس بمصادرته.

اعتبر “هاني جرجس فوزي” -المنتج السينمائي- أنه لا يجوز لأحد أيا كان مصادرة أي عمل إبداعي، وأشار إلى أنه من حق أي إنسان أن يقوم بإنتاج أي عمل فكري أو إبداعي، ومن حق الرافضين لعمله أن يقوموا بإصدار عمل فكري مضاد، أو يقوموا بدورهم الأساسي، وهو تربية وعي جيد لدى الناس، وتنبيههم بأن هذه الأعمال غير جيدة أو هشة.

وأشار هاني جرجس إلى أن المشكلة في الكنيسة أو في المؤسسة الدينية على وجه العموم أنها غير قادرة على تربية وعي لدى الجمهور، واعتبر أن الخوف من الرد على العمل الإبداعي يظهر أنه هناك أشياء لدى المؤسسة الدينية تفضل إخفاءها وتخشى من ظهورها للعيان.

حالة تلصص

 

 القمص عبدالمسيح بسيط

العاصفة التي قوبل بها فيلم “بحب السيما” وموقف الأنبا موسى -أسقف الشباب وعضو المجمع المقدس- معروف حينما وقف ليقول: “لو عرض هذا الفيلم ربما يتسبب في أزمات ومشاكل”، قيل بعدها إنه ليس رأي الكنيسة، والقضايا التي رفعت على مسلسل “أوان الورد” أيضا كانت من محامين حشروا لقب “مستشارين للبابا” أثناء الدعوى، ومن ثم يحدث الالتباس، فالبعض يقول إن الكنيسة تمارس معاركها بيد غيرها، والبعض الآخر يقول إن المتلصصين والواقفين للإبداع رموز كنسية، أو محامون أقباط (مستشارون للبابا سابقا) ومواقفهم أو تصريحاتهم هي مواقف شخصية لا تعبر بالمرة عن رأي الكنيسة.

يقول القمص ساويرس إن البابا شنودة هو الممثل الوحيد للكنيسة باعتباره رئيس الكنيسة، ورئيس المجمع المقدس، واعتبر كل الرموز الكنسية التي تخرج تعبر فقط عن رأيها الشخصي، وأن كل المحامين المذكورين لا يمثلون إلا أنفسهم، فيما اعتبرهم هاني جرجس لا يمثلون الكنيسة ولا البابا ولا المجمع المقدس ولا المجمع الملي، وأنهم -على حد وصفه- مجموعة تجري وراء “فرقعة إعلامية” حيث تتم استضافتهم في الفضائيات أو تظهر أسماؤهم على صفحات الجرائد.

ووصف سامح فوزي ما تقوم به بعض المجموعات “المهيجة” من كلا الطرفين بأنه لا يخدمالحوار الإسلامي-المسيحي، وأن هناك بالفعل مصالح مشتركة بين رجال دين إسلامي “كيوسف البدري” ورجال مسيحيين “كزكريا بطرس” ونجيب جبرائيل لزيادة جرعة الانفعال في الشارع.

علاقات متشابكة

المؤسسة الدينية الملتزمة المحافظة تقلق على أبنائها من أي عمل فكري، أو بعض الاجتهادات المحتوية على قفزات كبيرة على المستوى الديني، أو أعمال إبداعية تقترب من مجالها الخاص، ومن ثم تصبح عندها فك العلاقة بين الإبداع والمقدس صعبة في ظل تخوف الوعاظ إلى حد إدانة الأول .أو تحريمه أو تقليص حدوده لحساب الثاني

وعن الخطوط الفاصلة بين المقدس والإبداع، يقول الدكتور “البياضي”: “إن المقدس هو النصوص القطعية السماوية غير القابلة للتأويل، لكنها قابلة للتفسير، ولا يوجد نص لا يخضع للتفسير، كل المتون والنصوص يجب أن تفسر، فالنص حمال أوجه”، واعتبر البياضي أن النص لابد أن يتفق مع العصر، وأن أهم ميزات النصوص الإلهية أنها صالحة دائما لكل الأزمنة.

ويرى الروائي روبير الفارس أن الرواية ناقشت جزءا من التاريخ، والتاريخ غير مقدس، والإنسان هو الذي يصنع التاريخ والخير والشر، فالمسيحية بالذات تقول إنه ليس هناك أحد من البشر مقدسا سوى المسيح فقط، حتى بقية الأنبياء لديهم أخطاء، ولا يستطيع أحد أن يأتي ليقول إن البابا “كليروس” المذكور في الرواية لم يرتكب أخطاء.

ويرى المنتج هاني جرجس فوزي أن الأمر نسبي، فهو يختلف على سبيل المثال بين الملحد والمؤمن، فالملحد ليس لديه خطوط حمراء يخشاها، بينما المؤمن مثلا لديه ذات إلهية يؤمن بها، ومن الصعب أن يعيب فيها أو ينتهكها أو على الأقل سيفكر قليلا أو سيصبح لديه تحفظات عند الكتابة.

بينما اعتبر القمص ساويرس أنه من حق أي إنسان أن يبدع ما دام لا يقترب من القيم الدينية والمجتمعية والثقافية والموروث الثقافي، واعتبر أن هناك دائما خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها.


صحفي مهتم بالشأن الثقافي