“كل مجتهد مفتٍ، وليس كل مفتٍ مجتهد”.. هكذا قرر أ. د قطب مصطفى سانو وكيل الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في حواره مع “إسلام أون لاين”. سانو في معرض حديثه عن الاجتهاد والإفتاء وعلاقة كل منهما بالآخر قرر أن العقل المسلم نزاع بطبيعته القرآنية إلى التجديد والاجتهاد، وأن قواعد من جنس “لا اجتهاد مع النص”، قواعد مجهولة النسب، وتساءل متعجبا: إذا لم يكن الاجتهاد مع النص فمتى يكون؟!!

الاجتهاد إذن وجعله علما مستقلا يحل الكثير من الإشكالات الناتجة عن وجود مفتين نمطيين يغترفون من التراث وينثرونه على الواقع مع اختلاف السياقات والظروف.. هو محور هذا اللقاء..

والدكتور سانو واحد من العلماء الذين يمتلكون رؤية موسوعية لموضوع الاجتهاد وطبيعته وطرق تحصيله.. فلسنا إذن مع هاوٍ يعرض وجهة نظر متسرعة، وإنما مع متمرس يمتلك الأدوات التي يمكن من خلالها أن نستخلص تصورا واقعيا يتواءم مع ظروف العصر ومستجداته، ويحل تلك المعضلة التي تحدث بها الركبان.. فوضى الفتاوى!

فإلى نص الحوار..

* بداية نود منكم معرفة أبعاد ما قيل من أن الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا تعد مشروعا أسمته “صناعة المجتهد”..؟

– في الحقيقة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا منذ فترة تحاول منذ فترة ومن خلال مؤتمرات ولقاءات التعرف على وجهات النظر المختلفة حول تحويل المسألة الاجتهادية من الدائرة النظرية إلى الدائرة التطبيقية، بمعنى كيف ننتقل بالاجتهاد من أن يكون فقط نظرية يتحدث عنها العلماء في ندواتهم ومؤتمراتهم إلى مادة علمية تتمكن بها الجامعة من إعداد جيل تتوافر فيهم القدرة على ممارسة الاجتهاد.

فنحن لا نريد القول بأن هناك مجتهدين، وإنما نريد أن نؤهل أناسا قادرين على ممارسة الاجتهاد بمعناه التطبيقي الحقيقي، وهذا لن يتأتى لنا إلا من خلال التعرف على مختلف المواقف ووجهات النظر التي تطرح، هذه قضية تسعى الجامعة إلى الوصول لقول فصل فيها.

أما القضية الأخرى التي تهتم بها الجامعة فتتعلق بتوسيع مفهوم الاجتهاد وإخراجه من الثبات والنمطية، فمن وجهة نظرنا أن الاجتهاد في المستجدات التي طرأت في عصرنا لا يقل عن الاجتهاد في المسائل القديمة التي سبق فيها الأولون، لكننا ننسى أنهم اجتهدوا حينذاك طبقا لظروفهم الاجتماعية وأوضاعهم السياسية التي تغيرت الآن، ولكن البعض –هذه الأيام للأسف – يقدسها حتى اقتربت من أن تصبح نصوصًا ثابتة لا يجوز الاجتهاد فيها!!

نريد أن نوسع من دائرة الاجتهاد في الأمور المستجدة عن علم وبصيرة وحكمة، ومع كامل احترامنا للاجتهادات القديمة التي رأيناها على اختلاف الأزمان، فإن جزءًا كبيرًا منها لم يعد يصلح للواقع الذي نعيش فيه.

وعلى سبيل المثال، إذا أردت اليوم أن أجتهد في قضية المضاربة لماذا يجب أن أكون أسيرًا لما كان مطروحًا من قبل.

لماذا لا أقول مثلاً إن شركات التضامن أو المضاربة هي شركة مستقلة وهي جائزة بنفس الأدلة التي جازت بها شركات أخرى، ومن ناحية أخرى، لا أحتاج إلى قياس كي أقول مثلا إن الديمقراطية صالحة للحكم، لماذا أتمسك بالآراء التي كانت موجودة من قبل..؟!

فأنا أجتهد وأنظر إلى هذه الأمور في ضوء الواقع وفقه المقاصد لكي أصل في النهاية لوجهة نظر إسلامية، بدون التقيد باجتهادات السلف والخلف، ما دمت لم أخرج عن مراد النص الشرعي ووضعت نصب عيني مقاصد الشريعة.

* عذرا.. هذه الروح في التعامل مع المستجدات الحياتية على المستوى الفقهي لها شانئون كثر، ويتذرعون ببعض القواعد التي -في رأيي- تميت هذه الروح الاجتهادية.. فمثلا يطلقون قاعدة من جنس “لا اجتهاد مع النص” وغيرها الكثير.. فكيف ترون هذه الإشكالية؟

– الاجتهاد مشروع في معظم الحالات، ولا ينبغي أن يحرم من أجل تلك المقولة مجهولة النسب، وأنا أتساءل: إذا لم يكن الاجتهاد مع النص فأين يكون؟!!

إن الاجتهاد واجب في حضور النص، فهو واجب مع النص لإثبات صحته أولا ثم لتنزيله وتثبيته على الواقع، وحول النص يكون الاجتهاد، وأحيانًا يكون النص ذاته دافعًا إلى الاجتهاد فيه لفهم معانيه.

وهذا يقودنا إلى مسألة الاجتهاد في الفتاوى، فقد رأينا أناسا يتوسعون في التحريم وآخرين يبيحون كل شيء، وما بين التشديد والتفريط تتأثر وحدة الأمة الإسلامية والعلاقات بين الشعوب والمجتمعات على اختلاف طبيعتها وواقعها.

نحن نريد أن يكون المتصدرون للفتوى أهلا لتحمل هذا العبء الثقيل بصبر وواقعية، إن النازلة هي الداء والفتوى هي الدواء، وطبقًا لطبيعة الداء يكون الدواء، غير أن الدواء لا يعطيه إلا الطبيب الواعي المجتهد، وليس كل من أراد أن يطبب يستطيع، إننا بحاجة إلى أناس يتصدون للفتوى مزودين بقدرة المعرفة والتحليل والاستنباط المتعمق.

المجتهد.. كيف يُصنع

* على ذكر التأهيل.. هل هناك آليات محددة لإخراج عالم مجتهد؛ لأننا نرى كل من تحصل على قدر من العلم الشرعي يدعي الاجتهاد، وتبرز هنا مقولات من عينة نحن رجال وهم رجال.. إلى آخره؟

– يا سيدي.. هذا نابع من كون الاجتهاد في أذهان الكثيرين مسألة هلامية، ولذلك فنحن نريد أن تتحول مسألة الاجتهاد إلى تخصص ودراسات عميقة وهذا هو جوهر آلياتنا..

ولذلك فإن من يقول إن الاجتهاد ملكة نقول له هي ملكة يجب أن تنميها.. مثله مثل الطب، فالإنسان لا يولد طبيبًا، ولكنه تكون لديه ملكة من الذكاء والنبوغ يجب أن ينميها بالدراسة العملية، وليس كل الناس يقبل في الطب، كذلك الاجتهاد يحتاج إلى ملكة فطرية تأتي بعدها دراسة وتخصص، وهذا لن يتم إلا إذا استطعنا إنشاء قسم للاجتهاد يسير وفقًا لقواعد العلماء في مسألة الاجتهاد.

وإذا نظرت في التراث، فسوف نجد فيه أصلا لعلم الاجتهاد، وانظر إن شئت لما فعله ابن القيم في “إعلام الموقعين” عندما جمع بين أصول الفقه وراعى مقاصد الشريعة ومقتضيات الواقع.

* ندرك أن للمجتهد شروطا ينبغي توافرها فيه، لكن السؤال الأبرز، هل لديكم في هذا المشروع الطموح آلية تضمن تحصيل الدارس لتلك الشروط، أم أن الأمر أيضا سيبقى خاضعا للملكة؟

– بالطبع، يشترط في المجتهد أن يكون ملمًّا بعلوم اللغة وأصول الفقه والحديث، إضافة إلى إلمامه بعلم الخلاف وقواعده، وإذا نظرنا في مؤسساتنا التعليمية، لن نجد تلك العلوم مجتمعة في مكان واحد..

وآليتنا تنبع من هذه الإشكالية، فنحن سنقوم بتجميع خلاصات تلك العلوم وتصنيفها في مقررات دراسية ممنهجة، ثم نقدمها للمؤهلين الذين تتوافر فيهم القدرات الذاتية للاجتهاد والاستعداد الفطري له، ويتم انتقاؤهم بعد سلسلة من الفحوصات والاختبارات، لنتأكد من أن هؤلاء سيكونون مجتهدين بعد تخرجهم، فلو أن شخصا تخرج وهو يحمل شهادة في علم الاجتهاد واجتهد لن نستغرب منه ذلك، بعكس آخر تخرج وهو يحمل شهادة في علم الحديث واجتهد في المسألة الفقهية، فسنقول هذا ليس تخصصك.

وعلى سبيل المثال، ظهر في هذا العصر ما يسمى بالمصرفية الإسلامية، وكانت حتى وقت قريب تفتقر إلى الدارسين المتخصصين لها فقهيًّا، برغم أنه باب من أبواب المعاملات اليوم، والآن أصبح لدينا كليات وربما جامعات متخصصة في المصرفية الإسلامية ليتخصص فيها الناس.. فما المانع إذن أن يتخصص الناس في الاجتهاد..؟

* ما هو تصورك للسمات العقلية والنفسية للمجتهد؟

– أول شيء هو الذكاء الذي يمكن أن نسميه بالفطنة، وهي درجة من الوعي واليقظة التي تمكنه من سرعة الفهم، إضافة إلى قدرته على قراءة الأحداث كاملة، وأن يكون من ذوي العقليات الموسوعية والذكية، القادرة على الاستيعاب والنقد والتفاعل والقادرة على التعامل مع الأمور، وربما يدخل فيها القدرة على قبول الآخر.

وبالطبع لا نغفل أن نقول إن الحلم والسكينة والوقار الذي يكسى الهيبة والجلال هو من أهم شروط المتصدي لعملية الاجتهاد، ويتم تقييم تلك الصفات بواسطة لجنة متخصصة أنشأناها لهذا الشأن.

فوضى أم تعددية؟

* هل توافقون على مصطلح “فوضى الإفتاء” والذي أطلقه البعض على حالة الإفتاء الإسلامية الآن؟ أم أنكم تعدون ذلك من باب التعددية التي قالوا عنها قديما “اختلاف الأئمة رحمة للأمة”؟

– هي بالطبع في جانب منها رحمة، ولكن في جانب آخر نقمة، وتأخذ شكل الفوضى إن صدرت من غير أهلها..

فمثلا لا يستطيع أحد أن يعيب على الفتاوى التي يختلف حولها المجتهدون مثل العلامة القرضاوي والشيخ الدكتور علي جمعة فهي من التعددية المقبولة؛ لأنها صادرة عن أهلها، أما لو وجدت اختلافا بين الشيخ القرضاوي مثلا، وبين رجل شحرور لا علاقة له بهذا التخصص هنا تكون فوضى، فالشيخ القرضاوي مؤهل وعالم أهل للفتوى، أما الآخر فلا.

فالأمر مثل التطبيب، فلو جاء شخص وتصدى للتطبيب ووصف الأدوية فسيتحول الموضوع إلى فوضى، وستكون الخسائر كارثية لو ترك، وكذلك الفتوى إذا خرجت من غير أهلها.

* لهذه الأسباب، فضيلةَ الدكتور، هناك اقتراحات كثيرة للقضاء على هذه الفوضى ومنها اقتراح بمأسسة الفتوى، بمعنى توحيد الفتوى في جهة مؤسسية معينة لها خلفياتها، هل ترى ذلك صائبًا؟ أم يجب أن نترك العنان للمجتهدين الذين يصلحون للإفتاء؟

– هنا يجب أن نفرق بين أمرين، أولاً القضايا العامة التي لها تأثير على المجتمع، وهذه يجب أن توحد فيها الفتوى في القطر الواحد، فلو أردنا أن نتحدث في مسألة عامة وهناك عدد من المفتين يجب عليهم أن يوحدوا فتواهم؛ لأنها لا تقبل التعددية التي سوف تؤدي إلى الفوضى.

أقول مثلا قضية تسجيل النكاح، العلماء يختلفون فيها، فهناك من يقول: لا نحتاج لتسجيلها؛ لأنه مستحدث في الملة، وآخر يقول: لا، هنا يجب توحيد الفتوى؛ لأن المسألة لها مساس بمنظومة عامة لا يجب أن تترك للفوضى..

أما الثانية فهي المسائل الفردية، مثل الطلاق والزواج وغيرها، وهذه يترك فيها التعددية؛ لأنها ليست لها انعكاسات على عموم المجتمع.. ونستطيع أن نقول: “نوحد الفتاوى في المسائل التي تعم بها البلوى”.

* هل يمكن أن نسميها فتاوى الأمة أو الشأن العام؟

نعم، فالشأن العام توحد فيه الفتاوى ولا تترك هكذا فتعم الفوضى، أما القضايا الخاصة فيمكن ذلك شريطة أن تكون هذه الفتاوى صادرة من أهلها، وإذا لم تصدر من أهلها تكون هي الأخرى محل فوضى.

* على ذكر اقتراحات القضاء على الفوضى، هناك من اقترح ما أسماه العلامة القرضاوي “ثقافة المستفتي”.. كيف يمكن تعميق آليات هذه الثقافة في مجتمع مفتوح.

– أنا أعتقد أن هذا من الصعوبة بمكان، فأنت تتحدث عن مستفتين من العوام بعضهم يحتاج إلى جهد كبير حتى تثقفهم، لكن يمكن للمفتي أن يثقف المستفتي من خلال الفتوى التي يطرحها، وعندما يتحدث المستفتي عن القضية التي يستفتي فيها يكون المفتي في حاجة ماسة لتنظيم الفتوى والاجتهاد.

* ما شروط “صناعة الفتوى” إن جاز التعبير؟

– صناعة الفتوى مصطلح له شروط بالنسبة للمفتي، والحالة العامة تقتضي شروط إخراج الصناعة في أبهى صورة.

وهذه الصناعة لا يتصدى لها كل من هب ودب، ولكن نريد لها مهرة ممن لهم الملكة ومن يتمتعون بوفرة المعرفة، حتى نستطيع أن نقول إن هذه الصناعة سوف تنتج منتجا نستفيد منه، لا يمكن أن تترك هكذا، وإنما يجب تحويلها من الدائرة العشوائية إلى دائرة الانضباط.

الفتاوى السياسية

* في الفترة الأخيرة سمعنا عن فتاوى تصدر من مؤسسات أو أشخاص تتعلق بالانتخابات والمظاهرات وغيرها مما يعد من المفردات السياسية.. إلى أي مدى ترى العلاقة بين الفقيه وما تفرزه السياسة من أمور تستدعي تدخل المفتي؟

– قلت في أحد كتبي إن المفتي يجب أن يكون مراعيًا لظروف الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعيش فيه الناس، وأكدت أن المفتي الذي لا يعرف الناس لا ينبغي أن يفتي؛ لأنه بدلا من أن ينفع سيضر..

هنا على المفتي أن يلم بالمسائل السياسية وبعواقب الأمور، حتى لا يفتي فتوى مرتجلة قد تجلب له مشكلات، فإذا رأى العالم تصرفا سياسيا مخالفا للشرع واعتبره منكرا يجب ألا يفتي بمنكر أشد، وهذا لن يتأتى له إلا إذا كان عارفًا بهذه المسألة بصورة دقيقة، والمآلات التي ستؤول إليها.

ولذلك رأينا الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يرفض أثناء محنة خلق القرآن -والتي سجنه الخليفة وعذبه بسببها- فكرة الخروج والتمرد على الحاكم، حينما قيل له: ألا نخرج يا إمام؟، فقال: إنها فتنة.. أن يخرج الإمام أحمد ويُأخذ ويُقتل؛ لأنه قبل أن يقتل أحمد سيقتل خلق كثير، ومن هنا نقول: إن المفتي يجب أن يكون على علم ودراية بفقه المآل وفقه المقاصد وفقه الواقع.

وليس كونك مجتهدًا أنك أصبحت قادرًا على الإفتاء، أبدا؛ لأن الإفتاء مرتبة زائدة على الاجتهاد، لذلك أستطيع أن أقول: إن كل مفتٍ مجتهد، وليس كل مجتهد مفتٍ…

وهنا تتحرك القضية، فنبدأ بتأهيل المجتهدين ومن أراد أن يترقى للإفتاء سيكون الطريق سهلا.

مرجعية المفتي

* على ذكر المآل وفقهه فضيلة الدكتور.. هناك بعض الأمور في منتهى الجلاء لا تحتاج إلى مآلات ولا واقع؛ لأن الواقع والفقه يحتمان الفتوى فيها، وسأعطيك مثالا، لدينا في مصر سؤال عن حكم بيع الغاز لإسرائيل، وحكم العمل في الشركات التي تصدره، ووجهت تلك الأسئلة لدار الإفتاء، ولم تفت لكنها ردت بأن هذه من الأمور التي تحتاج لخبرة سياسية وحنكة اقتصادية، وفعلت أمرًا جديدًا على الفتوى بأن ردتها للحوار المجتمعي وما ينتجه الحوار سيكون هو الحكم،

والسؤال: هل يصلح الحوار المجتمعي – مع تبايناته السياسية وتضارب المصالح فيه بين القوى المختلفة- متكأ لفقيه، وإلى أي حد يمكن التعويل على ما يسمى فقه المآل؟

– أنا لا أستطيع التعليق على الفتوى في هذه الحالة، أنتم أدرى بالواقع المصري..

* نعم.. فضيلتكم لست مطالبًا بالتعليق.. لكنني أحاول الوصول مع فضيلتكم إلى دور محدد لما يسمى فقه المآل.. إلى أي حد يكون التعويل عليه؟

– أعتقد هنا أن معرفة فقه المآل هي التي يمكن أن تنقذ المفتي من هذه الورطة التي يقع فيها، فيجب أن ينظر للمآلات من جلب لمصلحة أو درء لمفسدة، فإذا قلت بالجواز وهو سيجلب مفسدة معتبرة لا مفر منها، لا أقول به، وإذا قلت انه سيجلب مصلحة معتبرة عندئذ يجب أن أنظر إلى المآلات، والمآلات هنا أنظر إلى النسبة الغالبة بها، وهي التي يجب العمل بناء عليها، وبالتالي أنا لا أعتقد أن يكون لها البعد الآخر، إما لحاجة في نفس يعقوب، مثلا المؤسسة لا تريد أن تفتي في القضية، أو شيء من هذا القبيل؛ لأنها إذا استعانت بالتراث ستجد المسألة محلولة، لكن الحسم الموجود في التراث لا يناسب الواقع الذي نعيش فيه.. وكما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور…

لذا يجب أن نكون على علم ودراية بالواقع الذي نعيش فيه، وأنا دائما أقول الفتاوى لا تصدر ولا تستورد، نريدها محلية الصنع محلية الاستهلاك ومحلية الإنتاج، ننتجها محليا ونستهلكها محليا.. لأن الواقع يختلف من مكان لآخر.

ولذلك مثلا في قضية العمليات الاستشهادية.. أنا عندي مشكلة معها، ليس من حيث إنني أعارض أولئك العلماء الأفاضل، أبدا، ولكن المشكلة أنها قد تم تصديرها، والفتوى حينما صدرت، صدرت محلية الصنع محلية الاستهلاك، كان يراد لها أن تنحصر داخل الواقع الفلسطيني وفقط..

ولكن ما تم غير ذلك، لقد صدروها، وطاروا بها لكل الدنيا، وأسسوا لمشاكل هنا وهنالك، وبالتالي كانت النتائج كارثية.. وتلك نتائج ما يعرف دائما بـ “الفتاوى الفضائية”، التي تعبر المكان إلى عوالم أخرى لها تكييفات وسياقات مختلفة اختلافا جذريا.

أنا هنا اعتقد، والله أعلم، أن المؤسسات العلمية لها دور في التصدي لجملة هذه القضايا، ولن يكون ذلك أبدا إذا بقينا نتحدث في الجانب النظري ولم نتقدم خطوة على الطريق العملي لتأسيس “علم الاجتهاد” ليكون ملازمًا لعلم الإفتاء، وألا يكون كل منهما مستقلا بذاته ويدرس وحده.

لا أريد إلا المجتهد الذي أصنعه، أريد أن أنتج المجتهد، أريد المؤسسة التعليمية في العالم الإسلامي تنتج المجتهد وتنتج المفتي، ولن يتأتى لهم ذلك إذا بقينا نتحدث عن القضايا بهذه الصورة الجزئية.

الفقه الحضاري

* بعض علمائنا رفض ما أسماه الفقه الحكمي، وقال ينبغي أن ننتقل من الفقه الحكمي إلى الفقه الحضاري الذي يراعي المقاصد الشرعية العليا والمآلات، إلى أي مدى يلبي هذا الطرح حاجات الناس في واقع يفرز المزيد من الاحتياجات كل يوم.

– أوافقه الرأي، فالواقع يتم استيعابه من خلال هذا الفقه الواسع الذي لا يقف عند جانب الحلال والحرام، ولكنه يتسع للحياة وللأمور التي تستجد، وهذا الفقه يمكن جدا أن يستوعب هذه التساؤلات اليومية التي تأتي من عامة الناس.

ولكننا نريد هذا الفقه عمليا واقعيا لا تنظيريا.. حتى يستطيع أن يجيب عن التساؤلات والقضايا اليومية للإنسان العادي وهو قادر على أن يفعل ذلك.