قبل التعريف بالشيخ عبد الحميد الفراهي يجدر الالتفات إلى قضية عدم التواصل بين أركان الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة؛ فمن المؤلم حقًّا أن نعيش -نحن العربَ والمسلمين- بعقلية وروح الـجُزُر المنعزلة؛ فلا تواصل، ولا تعارف، ولا اهتمام بالمتابعة بين المنشغلين بالهمِّ الثقافي والعلمي! وهذا في نطاق “المختصين” قبل أن يكون في دائرة “المهتمين” عموما!.

فمن الواضح أننا نعيش رغم “ثورة الاتصالات” زمان “اللاتواصل”!.

من أجل هذا أقـدِّم هذه الإطلالة على عَلَمٍ كبير من شبه القارة الهندية، لا يكاد يعرفه إلا القليل من المختصين، رغم أن له جهودا جليلة في الثقافة العربية الإسلامية، لا سيما فيما يتعلق بالقرآن المجيد وعلومه.

إطلالة على حياة الشيخ الفراهي

هو الشيخ “حميد الدين أبو أحمد عبد الحميد بن عبد المحسن الأنصاري الفراهي”، ولد سنة 1280هـ (1864م) في قرية “فيرها” من قرى مديرية “أعظم كره” بشبه القارة الهندية، وبدأ تعليمه منذ ترعرعه.. فحفظ القرآن صغيرا -شأنَ أبناء العائلات الشريفة في الهند- وبرع في الفارسية حتى نَظَم فيها الشعر وهو ابن ستة عشر عاما، ثم اشتغل بطلب العربية وعلومها على يد ابن عمته العلامة المؤرخ الأديب شبلي النعماني (1274 – 1332هـ/ 1858 – 1914م)، وكان أكبر منه بست سنين.

كما تلقى العلم في حلقة الفقيه الحنفي المحدث العلامة الشيخ “أبي الحسنات محمد عبد الحي اللَكنوي” (1264- 1304هـ/ 1848 -1887م) وغيره من علماء عصره، ثم عَرَّج بعد ذلك على اللغة الإنجليزية وهو ابن عشرين سنة، والتحق بكلية “عليكره” الإسلامية، وحصل على “الليسانس” في الفلسفة الحديثة من جامعة “الله آباد.

وبعدما قضى وطره من طلب العلم، واستقى من حياضه.. عُين معلما للعلوم العربية بمدرسة الإسلام بكراتشي (عاصمة السند آنذاك)، فدرس فيها سنين، وكتب وألَّف وقرض وأنشد، ثم انقطع بعد ذلك إلى تدبر القرآن ودرسه، وجمع علومه، فقضى فيه أكثر عمره حتى توفي رحمة الله في 19/6/1349هـ (11/11/1930م) في مدينة “متهورا” حيث كان يتطبب من مرض ألم به.[1]

وقد كان “الفراهي” نموذجا مشرفا للعالم المسلم، الجامع بين التبحر في العلوم العربية والدينية، والاطلاع الواسع على العلوم العصرية والطبيعية، ويظهر أثر هذه الثقافة الموسوعية العميقة فيما كتب من مصنفات قاربت الخمسين عددا، أهمها وأعظمها ما كتبه حول القرآن المجيد وتأويله ونظامه، وهو ما سنركز عليه لاحقا بحسب ما تقتضيه طبيعة المقال، وكذلك ما كتبه حول الحديث الشريف والأدب العربي والفلسفة الأخلاقية والمنطق، بالإضافة إلى الكثير من الشعر الراقي في كل من اللسانين العربي والفارسي، وفي ذلك يقول السيد “أبو الحسن الندوي” (1333 – 1420هـ/ 1914 – 1999م): “… ولا يتأتى ذلك إلا لمن جمع بين التدبر في القرآن والاشتغال به، والتذوق الصحيح لفن البلاغة والمعاني والبيان في اللغة العربية، وبين التشبع من دراسة بعض اللغات الأجنبية والصحف السماوية القديمة، وسلامة الفكر ورجاحة العقل والتعمق.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.[2]

وبالجملة، كان -رحمه الله- كما يقول عنه أحد أبناء مدرسته: “غاية، بل آية في حدة الذكاء، ووفور العقل، ونفاذ البصيرة، وشدة الورع، وحسن العبادة، وغنى النفس.. ولئن تأخر به زمانه فقد تقدم به علمه وفضله”.[3] رحمه الله وأحسن إليه.

التعريف بمصنفاته

رصد د. “أجمل أيوب الإصلاحي” (في مقدمته الضافية لـ”مفردات القرآن” للفراهي) مصنفات الفراهي رصدا دقيقا، محددا المطبوع منها والمخطوط، وبلغ بجملتها واحدا وخمسين مصنفا: عشرون منها مطبوعة، وبقيتها لا تزال مخطوطة.

وتجدر الإشارة إلى جملة هذه المصنفات، وهي أن جل المطبوع منها في حكم المخطوط؛ إذ لم يُطبع إلا طبعة أو اثنتين منذ زمان طويل، ونشر في الهند، وطُبع بالخط الفارسي على الطريقة الهندية (الأشبه بخط اليد).

ويهمنا -حسب طبيعة التناول في هذا المقال- أن نشير إلى مصنفاته القرآنية في التفسير وعلوم القرآن؛ لأن سرد القائمة كلها سيطول.

أولا: مصنفاته في التفسير

المطبوع (كل عنوان طبع مستقلا)[4]:

1- تفسير فاتحة نظام القرآن (مقدمة تفسيره “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”).

2- تفسير الفاتحة والبسملة.

3- تفسير سورة البقرة (62 آية منها، في 65 فصلًا، ونحو 300 صفحة. نشر الدائرة الحميدية بالهند – ط1/1420هـ – 2000م)

4- تفسير سورة الذاريات (50 صفحة – مطبعة أعظم كره بالهند – د.ت).

5- تفسير سورة التحريم.

6- تفسير سورة القيامة (22 صفحة – مطبعة فيض عام كره بالهند – د.ت).

7- تفسير سورة المرسلات (20 صفحة – مطبعة أعظم بعليكره بالهند – د.ت).

8- تفسير سورة عبس (25 صفحة – مطبعة أعظم كره بالهند – د.ت).

9- تفسير سورة الشمس.

10- تفسير سورة التين.

11- تفسير سورة العصر.

12- تفسير سورة الفيل.

13- تفسير سورة الكوثر.

14- تفسير سورة الكافرون.

15- تفسير سورة المسد (29 صفحة – مطبعة أعظم كره بالهند – د.ت).

16- تفسير سورة الإخلاص (وهي السورة الوحيدة التي كتب تفسيرها بالأردية).

المخطوط:

1- تفسير سورة آل عمران (31 آية منها).

2- تعليقات في التفسير (جمعها د. أجمل أيوب الإصلاحي من حواشٍ سجلها الفراهي على نسختين من المصحف الشريف في أثناء قراءاته في السفر والحضر).

3- جزء من سورة الحج (لم يذكره د. أجمل في مسرده بمقدمة “المفردات”).

4- مذكرات القرآن (لم يذكره أيضا د. أجمل، وذكره د. محمد عناية الله أسد سبحاني في كتابه “إمعان النظر في نظام الآي والسور” دار عمار/الأردن، ط1/2003م).

ثانيا: مصنفاته في علوم القرآن

المطبوع:

1- دلائل النظام (127 صفحة – نشر الدائرة الحميدية بالهند – ط1/1388هـ).

2- مفردات القرآن (475 صفحة – بتحقيق د. محمد أجمل أيوب الإصلاحي – دار الغرب الإسلامي ببيروت – ط1/2002م).

3-إمعان في أقسام القرآن (147 صفحة – دار القلم بدمشق – ط1/1415 هـ – 1994م).

4- التكميل في أصول التأويل (69 صفحة – نشر الدائرة الحميدية بالهند ـ ط1/1388هـ).

5- مجموعة رسائل الفراهي (مطبوعة بالهند).

6- أساليب القرآن.

المخطوط:

1- أساليب النزول.

2- أوصاف القرآن.

3- تاريخ القرآن.

4- حجج القرآن (ذُكر في “تفسير سورة الفاتحة” أنه طبع للمرة الأولى سنة 2003م).

5- حكمة القرآن.

6- فقه القرآن.

7- الرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ.

نظريته في “نظام القرآن”

سبقت الإشارة إلى أن الفراهي انقطع فترة طويلة من عمره إلى تدبر القرآن ودرسه، والنظر فيه من كل جهة، وكان من أعظم ما يركز عليه ترتيب بيانه، وتنسيق نظام آياته، منطلقا من أن كل ما تقدم وتأخر من سوره بني على الحكمة والبلاغة، ورعاية مقتضى الكلام.. فلو قدم ما أخر، أو أخر ما قدم؛ لبطل النظام، وفسدت بلاغة البيان.[5]

وقد أداه تدبره هذا في كتاب الله تعالى وحسن قراءته إياه إلى استنباط ما سماه: “علم النظام” وتحديد أصوله، وذلك بعد أن نظر فيما قاله علماء القرآن في التناسب والترابط المحفوف بهما كلام الله تعالى (آيات وسور)، فوجده غير كافٍ ولا شافٍ -كما يقول- على ما فيه من أهمية “الكشوف الأولى” إذا صح التعبير! ولذلك عمل على تطويره وتعميقه حتى يجعل منه فنا مستقلًا قائما على أصول راسخة وقواعد واضحة مستنبطة من أساليب القرآن وقواعد اللسان، وجاء في تقريره بما لم يهتد إليه أحد ممن سبقه؛ مما يفتح للمتدبرين في كتاب الله بابا عظيما لفهم أسراره وبلاغته، ويسهل عليهم الانتفاع به علما وعملًا.

وهو يسجل أن اهتمام السابقين كان منحصرا في الكشف عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام من أوله إلى آخره حتى يصير بها شيئا واحدا.

ويرى أنهم قنعوا في ذلك بمجرد بيان المناسبة بينهما، من غير أن ينظروا -في غالب أعمالهم- إلى أمر عام شامل ينتظم به محتوى الآية أو السورة، ومن أجل ذلك ركز في (دلائل النظام) على التفرقة بين “التناسب” و”النظام”، منبها إلى أن ما يعنيه من “النظام” ليس مجرد تناسب.. وفي تقرير هذا يقول:

“قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام.. فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلًا بنفسه، وطالِب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛ فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بُعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب”.[6]

ويوضح: “إن المراد بالنظام أن تكون السورة كلا واحدا، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، أو بالتي قبلها أو بعدها على بُعد منها، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السورة معترضة، وعلى هذا الأصل نرى القرآن كله كلاما واحدا، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه، من الأول إلى الآخر؛ فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء”.[7]

فلا جرم إذن أن تَعْدِل معرفة النظام والربط عند الفراهي نصف القرآن! فمن فاته النظام والربط فاته شيء كثير من فهم روح القرآن، فبالنظام يتبين كما يقول -رحمه الله- سمت الكلام، والانتفاع بالقرآن، والاستفادة من موقوفه على فهمه، ولا يمكن فهم الكلام إلا بالوقوف على تركيب أجزائه، وبيان تناسب بعضها لبعض؛ لأن الاطلاع على المراد من معاني الأجزاء لا يتأتى إلا بعد الوقوف على الناحية التأليفية ومواقع كل جزء منها.

ويؤكد الفراهي: “إن نظام القرآن ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، وهو المرجِّح عند تضارب الأقوال، وهو المعيِّن عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تُفتح به كنوز القرآن”.[8]

تفسيره: “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”

حاول الفراهي تطبيق نظريته في “النظام” -التي عرض لها في كتابه “دلائل النظام”- عمليا.. ووضع لذلك عنوانا عاما هو: “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”، وأنجز بالفعل تفسير عدد من السور -كما سبق في سرد مصنفاته- اختارها قصدًا؛ لما أشكل من نظامها أو أساليبها على كثير من المفسرين، وليحاول من ثَمَّ تطبيق نظريته عمليا، ويبدو أنه كان ينوي إكمال تناول القرآن المجيد كاملًا على هذا النسق، ولكن الأجل اخترمه -رحمه الله- قبل أن يحقق ذلك.

وكانت سبيله في معرفة النظام على الكيفية التي بيَّن في “دلائل النظام”، تبدأ بالسعي إلى استخراج ما سماه: “عمود السورة”، الذي يعني به: “العنوان الرئيسي للسورة من القرآن”؛ فمعرفته تؤدي إلى معرفة نظام القرآن كله، ولم يكن يعتمد في استخراج هذا العمود على حشد الأقاويل والروايات التي تملأ كتب التفسير؛ بل كان يعمد مباشرة إلى تدبر القرآن والنظر في معانيه وأهدافه نظرَ المطلع الخبير؛ ليهديه هذا التأمل المجرد إلى معرفة العمود، ومن ثَمَّ إدراك النظام.

وقد صرح بصعوبة هذه العملية المعرفية لاستخراج “عمود السورة”، ثم عدد أهم أسباب هذه الصعوبة، والتي يمكن تلخيصها عنه في كون القرآن نزل متشابها مثاني، وأن الكتاب نزل بالحكمة التي لا تتأتى بمجرد إلقاء المعارف، بل بإعمال الفكر والعقل.. ثم كون ما جاء به القرآن من نهاية الإيجاز هو مدار الإعجاز.[9]

وكان جُل اعتماده في تفسيره هذا على القرآن نفسه، ويظهر هذا من تسميته إياه بـ:”نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”، فعطَف “تأويل الفرقان” على “نظام القرآن” عطْفَ العام على الخاص، وقدم “النظام” الخاص تنويهًا بشأنه، وتنبيهًا إلى إغفال الناس عنه مع أهميته البالغة في فهم القرآن.[10]

ثم يعتمد صحاح الأحاديث في التفسير، ثم يعتني بتحقيق ألفاظ القرآن وأساليبه، بتعمقٍ وفحصٍ لمقولات الأسبقين، ولا يعرِّج على الإسرائيليات المنقولة في كتب التفسير، بل يرجع إلى الصحف الموجودة بأيدي اليهود والنصارى، لا سيما أنه درسها دراسة نقدية متعمقة، مع معرفته باللغة العبرانية، واطلاعه على الدراسات التي قامت حولها في الغرب.[11]

ولعله قد تبين من هذا العرض الموجز مدى الخسارة التي لحقت بالأمة المحمدية -كما يقول السيد سليمان الندوي- برحيل الشيخ الفراهي قبل أن يتم إنجاز تفسيره هذا!.


أحمد عبدالرحيم