حوار – إسلام عبد العزيز فرحات

د. العلواني أثناء الحوار

تلك هي الحلقة الثانية في حوارنا مع الدكتور طه جابر العلواني رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية سابقا، ومدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وعضو المجامع الفقهية، حول مشروعه الجديد لمراجعة التراث الإسلامي.

في الحلقة الماضية بدأنا في تحسس هذا المشروع من خلال قضية المهدي وعودة المسيح عليه السلام، ورأينا كيف أكد العلواني رفضه القاطع لهذه الأمور من خلال قراءته للقرآن الكريم.

طالع:

وفي هذه الحلقة نحاول أن نقترب أكثر وأكثر من حقيقة هذا المشروع ومرتكزاته، مؤكدين أننا لا نتبنى فكرة معينة ولا نروج لتوجه محدد، إنما نحاول إثراء الحوار حول قضايا الفكر الإسلامي دون تحيز.

العلواني أكد في تلك الحلقة أن ما يقوله ليس جديدا، وإنما قال به وفعله من قبل أئمة كبار أمثال أبي حنيفة والشافعي وابن حزم وغيرهم.

ولفت العلواني إلى أنه لا يمكن بحال أن ينكر السنة، مستعيذا بالله من ذلك، ولكنه في الوقت ذاته أكد قناعته بأن السنة لا تستقل بتشريع ولا بإخبار عن غيب.

وفي ثنايا الحوار عديد من القضايا الجديرة بالمتابعة:

مراجعة التراث الإسلامي

* فضيلة الدكتور.. دعنا من إشكال المهدي وعودة المسيح عليه السلام إلى حين.. ولنقترب أكثر من مشروعكم “مراجعة التراث الإسلامي”.. نريد أن نفهم لأن البعض يظن أن ما يمكن تسميته “الأسس التشريعية” أو “مصادر التشريع” قد اكتملت ولم يعد لأحد أن يتحدث عن مراجعة هذه الأسس لأنها خطوط حمراء.. فنحن نريد أن نفهم طبيعة المشروع.

– يا سيدي هؤلاء الإخوة -عفا الله عنا وعنهم- يقرءون الأمور مجزأة، وحينما يقرأ الإنسان قراءة مجزأة فكأنه لا ينظر إلى الإنسان بكامله “رأسا ووجها، يدا ورجلا إلى آخره” وإنما ينظر إليه أعضاء، فيد بمفردها ورأس كذلك وعين.. إلى آخره.

القرآن الكريم ذو وحدة بنائية، ولست أنا القائل بهذا وإنما علماؤنا أكدوا هذا، والقرآن نفسه يؤكده ويوظفه ويوضحه في قوله تعالى مثلا: “إنا كفيناك المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين” أجزاء وأعضاء مبعثرة.

فيأتي أبو نواس ويقول:

ما قال ربك ويل للألى سكروا ***  ولكن قال ويل للمصلين.

هذه القراءة نحن نهينا عنها وأمرنا بأن نقرأ القرآن بوحدته الكاملة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرضتين الأخيرتين قبيل وفاته راجع القرآن مرتين مع جبريل، وقطع بأمر الله تعالى ما بين القرآن وأصل النزول وأسباب النزول، يعني في النزول “اقرأ” هي الأولى، ولكن نحن نقرأ “الفاتحة” كأول سورة والبقرة ثانية وآل عمران ثالثة وهكذا.

هذا الترتيب توقيفي إلهي، الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم مع جبريل أن يفعل هذا، والحكمة الأساسية التي يمكن لنا تذكرها في هذا المجال أنه سيأتي من المتطفلين على علوم القرآن والدراسات القرآنية من يقول “إن القرآن نص تاريخي” بمعنى أنه مرتبط بمرحلة تاريخية معينة ليس له أن يمتد خارجها.. هي مرحلة عصر النبوة.

ويؤكد ذلك المستشرقون حين يقولون إن كل الأمثلة التي جاء بها القرآن من البيئة العربية {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}، أنا بالنسبة لي لم أر بعيرا في حياتي كلها مثلا في أمريكا أو في أستراليا.. فلماذا يكلفونني ما لا أطيق.. إذن هو كتاب لقوم معينين في مرحلة تاريخية معينة.. يعني لا يعد القرآن نصا مطلقا تخاطب به البشرية إلى يوم الدين.

فقطع الله تبارك وتعالى الطريق على هؤلاء بأن أمر بإعادة ترتيبه؛ لأن التنجيم كان قد أدى الغرض؛ التنجيم كان لصناعة الأمة بالكتاب وتقديمها نموذجا للبشرية، وقد حدث وصارت عندنا الأمة الموصوفة بخير أمة أخرجت للناس، وبقوله تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس” وذلك عبر نزول القرآن منجما في اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر واثنين وعشرين يوما هي مدة الوحي.. انتهت المهمة الآن، القرآن أصبح يخاطب البشرية كلها إلى يوم الدين؛ لأنه لا كتاب بعد القرآن ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم والدين قد اكتمل.

وعليه فلو استمر ارتباطه ببيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره والقضايا التي عالجها لكان المستشرق والكافر والرافض للقرآن قد احتج بهذا وقال إن هذا كتاب لا يخصني، بل يخص الناس الذين نزل فيهم وفي عهدهم.

فبالعرضتين تم قطعه عن أسباب النزول والأسباب التاريخية ليأخذ صفة الإطلاق، وتجاوز أي مرحلة تسبقه ويصبح الكتاب الذي يستوعب العصور كلها، فلا يقال في أي عصر من العصور هذا الخطاب ليس لي.. هو خطاب للبشرية إلى يوم الدين؛ لأن النبي خاتم والكتاب آخر الكتب والدين مكتمل.

* وماذا يعني هذا الاستيعاب للقرآن بالنسبة مثلا للأحكام التشريعية؟

– يعني ببساطة أن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ لسائر الأحكام، أي شيء يمكن أن تقول إنه من الدين في أساسياته وأصوله وقواعده وعقيدته وشريعته تجده في القرآن الكريم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: “ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون”.

إذن الحاكمية لمن؟ لهذا الكتاب الكريم وكل آية وردت في القرآن الكريم “إن الحكم إلا لله” يعني للقرآن الكريم؛ لأنه هو كلام الله فهو الخط الفاصل وهو الذي خوطبنا به.

رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الله تعالى مهمته بما يلي: “يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم” فيعلم الكتاب ويعلم الحكمة الكامنة فيه.

* لكن أليست الحكمة هنا هي السنة كما نفهم؟

– لا.. هذا تفسير الإمام الشافعي، ولكن الحكمة أيضا مفهوم مثل مفهوم الرفع الذي تحدثنا عنه في قضية عودة عيسى عليه السلام، مفهوم قرآني يحتاج إلى تحرير ولي محاولات في تحريره..

وقد كتب بعض الناس في هذا كتابات، ولكن تحتاج إلى تحرير باعتباره مفهوما قرآنيا، والسنة لا يقال لها الحكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخدم كلمة السنة كثيرا في القرآن الكريم “سنة الله في الذين خلو من قبل” و”قد خلت من قبلكم سنن”، و”ولن تجد لسنة الله تبديلا” فما المانع أن يقول يعلمهم الكتاب والسنة.

* هل المقصود بها في استعمالاتها السنة الكلامية أم السنة الفعلية؟

– هذا سيساعد على تحرير الأمر كله القرآن الكريم (كتاب وخطاب)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بتعليم الكتاب وتطبيقه، فالتطبيق هو التأويل والحكمة.. لماذا؟

لأن الله سبحانه وتعالى يقول: “يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق” يقصد التأويل المعلق بقضية البعث والآخرة.

هنا ربنا تبارك وتعالى كلف رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس الكتاب حرفيا وأن يبين لهم حكمته بالتطبيق العملي “كان خلقه القرآن” فسلوكه، عبادته، خلقه، حكمه، قيادته، كل ما يفعله كان قرآنا..

وكان عليه الصلاة والسلام إذا فعل شيئا عن اجتهاد أو انطلاق من براءة أصلية كما يقال، قد يستدرج القرآن عليه “عفا الله عنك لم أذنت لهم”، “عبس وتولى أن جاءه الأعمى”، “ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض”.

لذلك فالسنة وحي من الله تعالى، كأنه يقول له: تعلمهم الكتاب وتجعل نفسك نموذجا لهم في تطبيقه، يتأسون بك ويهتدون بفعلك ويقتدون بك؛ لأن البشر بطبيعتهم كما يحتاجون إلى النظرية يحتاجون إلى التطبيق وإلى الأسوة الحسنة.

فليس كافيا أن تعلمهم الكتاب، ولكن طبق أمامهم حتى يرونك تفعل وتقول تتصرف وتمارس، ومن كل ذلك يأخذون حكمة ويستنبطون منهجا لتطبيق القرآن الكريم، من خلال ما تقول وما تفعل وما تقرر وما تتخذ من سياسات وما تفتي وما تعلم.. كل هذا يأخذونه ممن؟

يأخذونه منك ومن عملك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المسئول عن التأويل، فتصبح هنا السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا قرآنيا، تصبح سنة للنبي صلى الله عليه وسلم قائمة على القرآن.

* “سنة قرآنية”.. يمكن أن نطلق عليها؟

– نعم سنة قرآنية.. وليست قضية مستقلة، ففي إطار السنة القرآنية لن يكون هناك أي إشكال، ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه قال في مقدمة رسالته: “فليس تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الهدى إليها”، هذا قوله، وحينما جاء إلى البيان وشرح لنا البيان في الرسالة علمنا خمسة أنواع من البيانات، ثلاثة لبيان القرآن بالقرآن؛ القرآن يبين نفسه، وواحدة السنة تبين القرآن.. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ويطبق بفعله وقوله وتقديره وحكمته وتطبيقه..

والبيان الخامس الاجتهاد الإنساني في الفهم والتطبيق، وضرب له مثلا بأن تجتهد لمعرفة القبلة وما إلى ذلك..

إذن السنة في حقيقتها هي سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فعلا وسنة القرآن من حيث الصياغة والأمر والقول “النص” فعندنا نظرية وعندنا تطبيق الاثنان موجودان.

هذا يجعل الأمر في غاية الوضوح.. ولكن متى بدأت المشكلة؟ المشكلة بدأت حينما جاء العقل الفقهي ووضع في اعتباره فرضية خاطئة فحواها “أن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية..”.

 لا إنكار للسنة

*ولكن.. أستاذنا.. سيدور في أذهان الناس أن د. طه الذي يعد لهذا المشروع ويتحدث عن السنة بهذه الحماسة عند التطبيق يكون هناك موقف آخر من بعض نصوص السنة، فدعني أسألك سؤالا مباشرا وصريحا: هل تنكر السنة أو على الأقل الاحتجاج بها؟

– لا.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أنا أؤمن بكفر من ينكر الاحتجاج بالسنة، ومنكر السنة.. من قال هذا؟!

* إذن للسنة مكانتها في الحجية؟

– نعم.. السنة حجة لا يمكن الاستغناء عنها.. كيف يمكن الاستغناء عنها؟!!

* إذن دعني ألخص الخلاف حتى لا يتشعب عند البعض وأقول: الخلاف الآن في الأصل حول تحرير مفهوم السنة؟

– بالضبط هذا هو الإشكال.. أقصد أن الإشكال كله في المفهوم، بالنسبة لي مفهوم السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن عليه فيدعو الكتَّاب يملي عليهم ما أوحي إليه، ثم يقوم في الناس مطبقا هذا الذي أوحي إليه..

فإذا كان صلاة قال: “صلوا كما رأيتموني أصلي” وإذا كان حجا قال: “خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا”، وإذا كان خلقا فهو سيخالط الناس به، وإذا كان عقائد فهو سيبرزها لهم قولا وفعلا.

ومن فضل الله تبارك وتعالى أن كل أصناف النفاق والشرك كانت موجودة في عصره صلى الله عليه وسلم؛ الكفر بأنواعه، أهل الكتاب بأنواعهم، المنافقون بأنواعهم، فجميع الشبهات وأمور الرفض كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ينزل عليه القرآن وهو يعلم الناس ويقص على بني إسرائيل أكثر ما كانوا فيه يختلفون، ويكشف عن قلوب المنافقين وضمائرهم وما فيها.. إلى آخره.

لكن من ينكرون السنة يتيحون لأنفسهم التشريع؛ لأنهم أنكروا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، وأنا أعرف بعض من يسمون بالقرآنيين اليوم، منهم من يسجد على لحيته؛ على ذقنه، يستدلون بقوله تعالى: “يخرون للأذقان سجدا”؛ لأنهم فهموا يخرون للأذقان بهذا المعنى.. فهؤلاء لا يؤبه لهم.

* ترى إن كان هذا هو الأصل كما تقول فضيلتكم فما الذي خرج بالمفهوم عن أصله هذا؟

– أنا أقول لك.. مثلا في الفقرة 48 في كتاب الرسالة يقول الإمام الشافعي: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”، وقال تعالى: “كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” [إبراهيم: 1].

وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : 89]. وقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى : 52].. هذا قول الإمام الشافعي وأدلته على هذا.

لكن العقل الفقهي التعليمي الأكاديمي كان يريد أولا أن يغطي كل المساحات الفقهية المتوقعة، وقد حصل الخطأ بأن تصوروا أن القرآن نصوص محدودة وقالوا: “النصوص متناهية والوقائع غير متناهية” وهذه مقالة شائعة عندهم منذ القرن الثاني وانتشرت جدا في قرن التكوين الفقهي.

وقالوا أيضا: إن الأدلة هي الكتاب والسنة، ثم أضافوا الإجماع، ثم أضافوا القياس واستمرت عمليات الإضافة.. لماذا؟ لأن حديث معاذ، وهو (موضوع).

* تقصد أن حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لأهل اليمن حديث موضوع؟

– نعم هو حديث موضوع.. مروي عن مجاهيل من أهل حمص، ولا يمكن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن تبيانا لكل شيء يقول له: “فإن لم تجد”، ولكن هذا الحديث قد صُنِعَ، وللإمام ابن حزم كلام في غاية النفاسة في هذا الحديث، رفضه في “النبذ” وهو كتابه في أصول الفقه وفي “إحكام الأحكام” وفي غيرها، والصناعة الفقهية ظاهرة في الحديث.

وتأمله: “أرسل معاذا إلى اليمن وقال: بما تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد!” لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أنزل الكتاب أن يقول له فإن لم تجد، وكيف ينسجم هذا مع أقوال كثيرة نقلت عن الصحابة: “والله لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله”..

وأنا قد أخذت ما قاله ابن حزم ورأيت ما قاله صاحب إعلام الموقعين الذي لم يستطع أن يكذب ابن حزم ولا غيره من الأئمة النقاد، فقال: “إنه حديث تلقته الأمة بالقبول”.. هذا كلام فارغ.. الحديث إما أن يصح إسناده ويستقيم متنه ويتجاوز كل قواعد نقد المتون، وإما أن يلقى جانبا، أما أن يقال (تلقته الأمة بالقبول) من هي الأمة؟!

* تعني أن قبول الأمة بغير القواعد ليس له اعتداد؟

– نعم.. المفروض يقبله المتخصصون.. والمتخصصون هنا هم أهل الحديث، ولكن الصناعة الفقهية الغالبة على الفقهاء جعلتهم يقولون هذا، ولذلك ورثنا تلك القاعدة.. “أن السنة هي المصدر الثاني في التشريع..” وهي خطيرة على الأذهان جدا؛ لأننا أوجدنا عقلية تراتبية.

*عفوا يا دكتور.. أعتقد أن المقصود بتلك المقولة -على حد علمي- ليس الترتيب، وإنما المقصود أن السنة كما تعلمنا بمثابة المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم، تفصل المجمل وتشرح المبهم، فليس الجميع قادرين على فهم الأحكام من القرآن؟

– أنا متى أحكم أن الكتاب ليس فيه هذا الحكم؟ إذا أردت مني أن أحكم أن الكتاب لم يتناول هذا الحكم، فهذا يحتم عليَّ أن أجزم كأصولي وفقيه بأني استعرضت الكليات القرآنية كلها واستعرضت الجزئيات ولم أجد لهذه الواقعة مجالا لأن تندرج تحت كلية من الكليات أو جزئية من الجزئيات..

وليس هناك عالم على وجه الأرض يجرؤ أن يقول: “كتاب الله لم يتناول هذا الأمر إطلاقا”، وحتى لو تناولنا قضايا عادية جدًا، لا يجرؤ على أن يقول ليس لها في كتاب الله أصل، مثلا يقول “خلق السموات والأرض…” فيدرجها تحت قضية الخلق، يدخلها بدليل إبداع، بدليل خلق بدليل تشريع، بأي دليل “سنريهم آياتنا..”، “..ويخلق ما لا تعلمون” فهناك كليات وهناك جزئيات، ويمكن أن تجد الحكم الشرعي في الكليات.

 * وأين موقع السنة هنا إذا؟

– تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* لا أنا أقصد في الاستدلال والاحتكام إليها وليس كمصطلح؟

– أنا في فهمي للقرآن أنني لا آتي إلى أي تشريع، أنا علي فقط أن أرى كيف طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، وما الذي قاله حوله، فحينما أرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وصفتها، هذه هي الصلاة التي أمرني بها، حينما أرى صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الحج الذي أمرت به، وفي الزكاة كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي فذلك ما سوف آخذه.. رسول  الله صلى الله عليه وسلم غزا خمسا وثلاثين غزوة في حياته كل أحكام الجهاد آخذها من هذا.

* يعني السنة العملية فقط؟

– نعم السنة التطبيقية العملية للقرآن الكريم، فهي غير منفصلة عنه، لا نفرق بين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فنجعل هناك سنة مستقلة في التشريع وسنة كذا..

الأمر الآخر في الحديث.. أعني حديث معاذ.. فإن لم تكفهم السنة “فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو..” طيب يا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الموحى إليه، ومعاذ واحد من أصحابه وحديث عهد به، والبيئة اليمنية لا تختلف عن البيئة الحجازية، ما الذي يتوقع أن يختلف لهذه الدرجة بحيث لا يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الكتاب من كلياته وعمومياته ولا في السنة؟

* وأيضا لأن الوحي لم ينته فالرسول صلى الله عليه وسلم ما زال حيا، وعادة القرآن أن ينزل منجما للوقائع والأحداث؟

– نعم بارك الله فيك.. ولكن أرادوا أن يفتحوا المجال للاجتهاد حتى يدخلوا منه.. الإمام الشافعي يقول: “الاجتهاد هو حالة نفسية وعقلية أرادها الله أن تكون حالة هذه الأمة الخيرة الشاهدة المخرجة للناس لكي تقوم بأدوارها في الحياة..”.

 رؤية قرآنية لفهم السنة النبوية

* أعتقد أن الإشكال الأكبر هنا يا دكتور يكمن في التعارض.. بمعنى.. إذا كان هناك نص من السنة صحيح صريح يتعارض مع فهم لنص قرآني كفهمكم مثلا لقوله تعالى: “… ولكن رسول الله وخاتم النبيين…” أيهما أقدم الفهم أم النص.. ثم.. ما القواعد التي تحكم فهم النص القرآني من البداية؟

– حينما فهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله من قوله تعالى “حتى تنكح زوجا غيره” أن المرأة ليست بحاجة إلى ولي ينكحها مع وجود نص قرآني آخر “بيده عقدة النكاح”، مع ذلك الإمام أبو حنيفة قال: “هذا يدل على أن للمرأة أن تنكح نفسها بنفسها” وعزز ذلك بقوله تعالى: “فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن..” مع أن “لا نكاح إلا بولي” حديث صحيح.

 لكن النقد الذي وجهه الإمام أبو حنيفة أن ظاهر القرآن قال كذا وأن المفترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع القرآن، فإذا جاء ما يدل على أن هناك استقلالا يتوقفون، حتى لو لم يحكم بالتعارض القاطع، يعني تعارض بين سنة وكتاب هذا منتف تماما، لكن الأخذ بظواهر الكتاب عندهم أولى من الأخذ بسنن حتى لو صحت.

* حتى لو صحت؟

– نعم.. حتى لو صحت؛ لأن القرآن الكريم قطعي في ثبوته وحتى في دلالته نسبة عالية في ذلك، والأصل فيه القطع، والسنة وأخبار الآحاد هي ظنية، فيقدم القطعي على الظني..

قد تقول المعنى فيه اختلاف! فهنا نأتي إلى عمليات الترجيح.. وقبل أن استطرد في هذا دعني اقرأ شيئا مما كتبه الإمام الشافعي في شيء لصيق بما نحن فيه يقول: “أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه)، ويقول: وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم -يعني بخصوصه وليس حكما مطلقا- فبحكم الله سنه..” يعني بالكلي من القرآن.

فالإمام الشافعي هنا يؤكد ويسلم أن كل ما سن رسول الله هو بحكم الله تعالى، يعني استنبطه من القرآن الكريم.. “ليس لله تعالى فيه حكم فبحكم الله سنه..” أي بخصوص دليل جزئي، قال: “وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله وسن فيما ليس فيه بعينه نص الكتاب”، فكلمة “بعينه” هنا مهمة جدًا، يعني الدليل الجزئي..

فإذن الإمام الشافعي وهو إمام أهل السنة في هذا يؤكد أنه ليست السنة مستقلة في التشريع استقلالا كاملا، وإنما هي تبع للقرآن الكريم في كل ما يسن.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه عنه المطلب بن حنطب يؤكد هذا، فالفصل بين السنة والقرآن بالطريقة التي يفهمها بعض الناس هذا فصل لم يكن عند السلف ولا كان مشتهرًا في القرون الثلاثة الخيرة.

معروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبع للقرآن في كل ما جاء به، وقد خوطب بهذا “يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما”، “اتبع ما أوحي إليك من ربك” اتباع يعني متابعة واحد يلي الآخر “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”، “يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين”.

إذن المفروض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتباع، وعليه صلوات الله وسلامه البلاغ، وشهد الله له بأنه بلغ وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بأنه بلغ، فهذا الفصل غير صحيح وغير وارد..

وأنا سأقرأ لك وثيقة معاصرة من مجمع البحوث والأزهر حول عملية استقلال السنة بالتشريع التي هي مثار النزاع، وأيضا سنجد أن الأزهر قد أقر فتوى الشيخ عبد الله المشد حول نفس الموضوع.

لا حجية للسنة إلا بالقرآن

* قبل القراءة يا دكتور لأن هذا الموضوع مهم وخطير.. دعني أقول خلاصة ما تريد فضيلتك قوله حسب ما فهمت أنا “لا استقلال للسنة بالتشريع ولا حجية لها إلا من خلال ارتباطها بالقرآن الكريم”.. هل هذا صحيح؟

– بالضبط.. وقد جاء ذلك في تلك الوثيقة التي سأقرؤها .. واسمعها.. الوثيقة على هيئة سؤال ورد إلى الأزهر وتمت الإجابة عليه، والسؤال هو:

“هل من أنكر استقلال السنة في إثبات الإيجاب والتحريم يعد كافرا أم لا ؟ نرجو الإفادة بالرأي مع الاستدلال وشكرًا”.

فكان رد الأزهر كالتالي:

“لقد اختلف العلماء في استقلال السنة الأحادية بإثبات واجب أو محرم.. فذهب الشافعية ومن تبعهم إلى أن من أنكر ذلك في الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج والزكاة فهو كافر، ومن أنكر ذلك في الأحكام العلمية كالإلهيات والرسالات وأخبار الآخرة والغيبيات فهو غير كافر، لأن الأحكام العلمية لا تثبت إلا بقطعي من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.

وذهب الحنفية ومن تبعهم إلى أن السنة الأحادية لا تستقل في إثبات واجب أو محرم سواء أكان الواجب علميا أو عمليا وعليه فلا يكفر منكرها، أي لا ينسب إلى الكفر، وإلى ذلك ذهب علماء أصول الفقه الحنفية، فقال البزدوي في شرحه على البخاري: (إن دعوى علم اليقين وأحاديث الآحاد باطلة؛ لأن خبر الآحاد محتمل لا محالة ولا يقين مع الاحتمال، ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأضل عقله..) وبهذا أخذ الإمام محمد عبده والشيخ محمود شلتوت وغيرهم.

يقول المرحوم الإمام محمد عبده: (القرآن الكريم وهو الدليل الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته، أما ما عداه في الأحاديث سواء صح سندها أم اشتهر أم ضعف فليس مما يوجب القطع).

كما ذكر الشيخ شلتوت في كتابه الإسلام شريعة وعقيدة أن الظن يلحق السنة من جهة الورود، أي من جهة السند، ومن جهة الدلالة أي المعني والشبه في اتصاله والاحتمال في دلالته.

ويرى الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات أن (السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم؛ لأن وظيفتها فقط تخصيص عام القرآن وتفسير مجمله وتقييد مطلقه، ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الأحادية).

يعني نفى أن تكون للسنة صلاحية حتى التخصيص والتقييد إلا المتواتر، يؤيد آراء من سبق ذكرهم كما جاء في صحيح البخاري في باب الوصية وصية الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته.. فعن طلحة بن مصرف قال: سألت ابن أبي أخي: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:لا، قلت: كيف كتب الناس الوصية أو أمروا بها ولم يوصه؟ قال: أوصى بكتاب الله.

قال ابن حجر في شرح الحديث: (أي التمسك به والعمل بمقتضاه) ولعله أشار إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله) واقتصر على كتاب الله لكونه جاء فيه كل شيء، إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم الله تعالى به.

وحديث سلمان الفارسي عنه صلى الله عليه وسلم: (الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو عفو لكم)، وأجاب الشاطبي عما أورده الجمهور من قوله تعالى “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” بأن المراد من وجوب طاعة الرسول إنما هو في تخصيصه للعام وتقييده للمطلق وتفسيره للمجمل، ولذلك بالحديث المتواتر وأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون من القرآن لقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن وأن معنى قوله تعالى: “ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء” (الآية 89 من سورة النحل) أن السنة متداخلة فيه في الجملة” وأكد الشاطبي ذلك بقوله تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء.

ولقد رد على ما استدل به الجمهور مما روى من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يوشك أحدكم أن يقول هذا كتاب الله ما كان من حلال فيه أحللناه وما كان من حرام حرمناه إلا من بلغه حديث مني فكذب به فقد كذب بالله ورسوله).

لأن من بين رواة هذا الحديث زيد بن الحباب، وهو كثير الخطأ ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثا واحدا لا البخاري ولا مسلم.. وجاء الثبوت والتحرير (خبر الواحد لا يفيد اليقين ولا فرق في ذلك بين أحاديث الصحيحين وغيرهما).

ومما سبق يتضح أن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل القطعي الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث إنها تكاد تكون غير معلومة -أي المتواترة- لعدم اتفاق العلماء عليها فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم..

وعلى هذا فمن أنكر استقلال السنة في الإيجاب والتحريم فهو منكر لشيء اختلف فيه الأئمة ولا يعد مما علم بالضرورة وعلى هذا لا يعد كافرا..” لجنة فتوى الأزهر. 1/2/1990م.

فما قلناه أو ما ذهبنا إليه ليس بدعا، وإنما يتفق مع ما ذهب إليه الإمام الشافعي وأئمة آخرون.

* عزوت ذلك في الأصل لأبي حنيفة؟

– نعم.

* بعيدا عن هذه النقطة تحديدا أنا أعتقد ما زال الكثير لديك حول المشروع؟

– أظن أننا الآن وصلنا إلى مفرق جيد على وعد بحوار آخر حول تفاصيل المشروع.

* جيد.. ونحن وقراؤنا في الانتظار.