هل يُمكن أن يتمنى المُلتزم أن يكون على حال غير المُلتزم؟ ومَنْ الأولى بالغيرة والاقتداء المتدين أم غير المتدين؟ وإذا كان المتدين يتمنى أن تتسعَ دائرة الحرية الشخصية في حياته كما يفعل غير المتدين؛ فهل هذه التطلعات مشروعة؟ فكيف هو حال هؤلاء الملتزمون الجدد في هذا العصر؟

أثارت لدي هذه التساؤلات رسالة أرسلتها لنا مسلمة محجبة، اشتكت غيرتها من المتبرجات، لأنهن الأجمل في أعين الناس، والحجاب يداري الكثير من الجمال الذي وهبه الرحمن للمرأة. وترتبط -في ظني- مشكلة الفتاة بسنها، لأنها لم تتجاوز العشرين بعد. ولكن هناك مجموعة من الاستفسارات -التي فتحتها الرسالة- يجب طرحها وإدارة نقاش جاد حولها، وحتى نعرف من هم هؤلاء الملتزمون الجدد؟

القدوة والقولبة

عادة ما يميل الطرف الأقوى إلى البروز، وتصدير النموذج الأولى بالاقتداء، وقولبة الآخرين على شاكلته، ويجنح الطرف الأضعف إلى التقليد والمحاكاة والتقولب على غرار من يعجب به.

ومن المنطقي أن يغار غير الملتزم من الملتزم، ويتمنى أن يصير مثله، وتتوق نفسه إلى الاقتداء به، لِما للالتزام من هيبة ووجاهة واحترام في قلوب الناس، وهذا ما ذكره الرحمن في قوله تعالى: {وَلَكِن اللهَ حببَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزينَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}.

ومما يبزر العلاقة الطردية بين الالتزام والمحاكاة، وأن الملتزمين هم أهل الاتباع والاقتداء بهم، أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل هداة، ليتتبع الناس خطواتهم، ونزل آخر وحي السماء -القرآن- لهدى الأرض على شخصية متميزة مصطفاة -محمد صلى الله عليه وسلم- تدخلت العناية الإلهية في تأديبه وإكسابه مكارم الأخلاق.

فالأصل إذن أن يكون المتدين قدوة صالحة لغيره من الملتزمين، والخارجين عن ضوابط الالتزام التي حددها الشرع، ولكن الذي جد في العقد الأخير هو سعي الملتزم إلى التشبه ببعض تصرفات المحيط غير الملتزم.

لذيذ أم مُرّ؟

الملتزمون الجدد ليس وضعا جديدا، وإذا شئنا تتبع هذا الفعل النفسي، وجذوره، مع استثناء متغير ضعف النفس الإنسانية؛ فعلينا أولا إلقاء الضوء على الخطاب الديني الذي علا صوته في الآونة الأخيرة، والذي هز قطاعا كبيرا من مجتمع الملتزمين، وهو الخطاب الذي تبناه الدعاة الجدد، فيما يتعلق بإنتاج مصطلحات مثل “دين السعادة“، “التدين اللذيذ”، وإدراج مباهج الحياة داخل إطار التدين.

هذا شيء لا أعارضه، ولا ينكره فاهم للدين، محب لانتشاره، ولكن الملاحظة التي أفتح معكم النقاش حولها، هو تغيب مفهوم هام في أذهان الملتزمين، وهو: أن الدين فرض أمورا ونهى عن أخريات، ورضا الله يستوجب في أحيان كثيرة المشقة والتنازل عن جزء من الحرية الشخصية.

فالدين “اللذيذ” قد يحمل أحيانا طعما “مُرا”، أوليست الفروض والطاعات تقتضي بذل الجهد والمشقة؟ أوليس جهاد النفس واجتناب الشهوات يحمل في طياته الألم والمعاناة النفسية والجسدية أحيانا؟ أوليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُواجه كثيرا بالصدود والصدام والعنف في أحايين كثيرة؟… بلى.

فقد بين لنا رسول الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم ذلك، واضحا جليا، فيما رواه أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم قال: حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره (مُتفَقٌ عَلَيْهِ). وفي رواية لمسلم: حفت بدل حجبت وهو بمعناه: أي بينه وبينها هذا الحجاب فإذا فعله دخلها. وهو ما يعني أن التزام صراط الطاعة والاستقامة عليه أمر ليس سهلا، وإنما يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة.

فالإسلام ليس قولا أو شكلا فقط، وإنما هو قول وعمل، مظهر وخبر، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم.

فارتداء الحجاب مهما تحدثنا عن فوائده، هو جزء من التخلي عن الحرية الشخصية للمسلمة، لصالح الحماية المجتمعية، ولا أخفيكم سرا أنني أحيانا ما يضايقني ارتداء الحجاب لمدة تقارب 15 ساعة- قرابة ثلثي اليوم- أقضيها خارج البيت، وأول شيء أفعله عند دخولي البيت هو “خلع” ذلك “الدبوس” الموجع الذي يرافق حَلقي.

التدين اللذيذ

مثلما طغى مصطلح الملتزمون الجدد على الحياة العامة، فقد طغى مصطلح التدين اللذيذ على عقول بعض الملتزمين، وعلى نفس القياس، هناك ضوابط شرعية كثيرة، تضع الملتزم على خط “صراط مستقيم” ليجتهد في عدم الحياد عنه، وفي هذا يجب أن يكون واعيا بأن هذه المشقة هي الموجبة للمغفرة، واكتساب الحسنات يكون بقدر البذل، ولا مانع من تدبر حكمة الله في التشريع، لتعظيم أوامره في قلوبنا، وتقدير أهمية الضوابط الدينية في حماية الفرد والمجتمع.

وهذا الوعي لدى الملتزم، يُولد لديه استمتاعا بالطاعة، واطمئنانا لأوامر الله، واستحسانا لتطبيق الفرائض، ولذا يطيب له أن يستمتع بالدين، وتصير أوامر الشرع للمسلم -بتعبير المصريين- “على قلبه زي العسل.

وهو ما عبر عن الإمام ابن القيم -رحمه الله- عندما ربط الوصول إلى درجة “كمال الإيمان”، بضرورة أداء “كمال الطاعة”، في حالة من الرضا والسعادة مع “كمال الحب” لهذه الطاعة.

ويمكن استيعاب الفكرة المقابلة في الدين، من أنه دين رحمة ومانح للكثير من الرخص ولا يكلف المرء فوق طاقته، ويحترم خصوصية المجتمع والعادات والمعطيات الثقافية والظروف العارضة.

ويأتي الخلل من تغليب فهم لذة الدين على تقدير انطوائه على المرارة، والملتزم الواعي هو من يدرك أن للدين تكاليف تحتاج للبذل والمشقة أحيانا، ولكنه رحيم في الوقت نفسه. وقد وضع الله هذا التصور عن الدين أمام الإنسان، وتحمل الأمانة: {إِنا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ}.

التوسع في الرخص

والسبب الذي دفعني إلى تعريف لذة الدين -في نظري- بوجهيها؛ أن التمادي في تصوير دين السعادة “السهل السلس”، قد أخرج بعض الملتزمين من التحصين الذاتي ضد تطبيع المجتمع مع الذنوب؛ إلى إدراج بعض التصرفات -التي لم يكن الملتزم يرضاها قديما- وأسلمتها تحت شعار “الدين الميسر”.

ومن هنا دخلت بعض السلوكيات التي كان يراها بعض الملتزمين “مكروهة” في زمرة العادات والمباحات المستحسنة، وما أن يفعلوها في المرة الأولى حتى يجروا الخيط، ولا يتوقفوا أمام فك هذا الخيط، ويتساءلوا: هل من الأفضل أن نتمدد ونتوسع في هذه السلوكيات ونتعود عليها، أم لا؟

وتدخل “الرخص” في إطار تلك السلوكيات، والتي كان المتدينون يأخذون بها عن ضيق وتحت ضغط ظروف صارمة، ولكن مع إشاعة مفهوم “الدين الميسر” صار هناك إيلاف للرخص، وتوسيع متدرج، لدرجة أن البعض رفعها -ظلما وعدوانا- إلى مرتبة “المستحسنات”.

شهية التحليل

 الخطوة التي تلت هذا الإيلاف، أن انفتحت شهية بعض الملتزمين على المباحات والرخص، إلى محاولة استصدار فتاوى لتحليل الحرام، وغبطة غير المتدينين على مساحة الحرية المتاحة لهم. إذ يتمتع غير الملتزم بمساحة حرية، فلا نفس لوامة تستوقفه، ولا حدود الدين تعرقله.

وعبرت عن هذه الغبطة بصدق شكوى السائلة، لأنها “ضبطت” نفسها تغار من المتبرجات.

وقد يستنكر البعض هذه الرغبة، ولكني أنحني إجلالا لمن يكتشف نفسه بسرعة، ويحاسب أمواج قلبه، ويوجهها إلى شاطئ الطاعة الآمن.

نعم، إن الجرأة في مصارحة النفس بهذا التغير القلبي في التعامل مع الشريعة وأحكامها؛ هامة جدا في الحفاظ على التدين من التسيب. وكنا نجد السلف الصالح يضيقون من استخدام الرخص، وتوسيع دائرة المباح؛ لأن النفس في حاجة دائما إلى الترويض، وكلما أغلقت أمامها باب الشهوة، وضيقت عليها في تلبية مطالبها، فتحتَ بينك وبين الله بابا جديدا وكنتَ أقوى على تطبيق الدين، والوقوف أمام مغريات الحياة، والتطلع إلى مزيد من الحسنات، واستشعار يسر الطاعة. [طالع: النوافل طريق العاشقين]

وقد ساهمت فوضى الفتاوى، وتعدد الآراء الفقهية، وربما محاولة هروب بعض العلماء من اتهامهم بالتشدد، أو التضييق على عباد الله، في صناعة الدين السهل، وفتح شهية الإباحة عند بعض الملتزمين، وأعرف كثيرين يستفتون في أمور دينهم، وإذا لم يجدوا الفتوى “على مقاس” أهوائهم، تطلعوا إلى فتوى عند عالم آخر “مش محبكها”، وهكذا قد يتفرق “دم الإلزام الديني” على “قبائل” المفتين!.

وتوارت بهذه الفوضى رحمة الدين، وغلب عليها تحكيم الهوى في الأخذ بالفتوى. وقد يسألني سائل، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: “استفت قلبك وإن أفتوك”، فكيف إذن لا نرجح فتوى على فتوى وفقا لترجيح القلب؟.. فأقول: إن الدور المتوازن للقلب عندئذ هو الاطمئنان النفسي إلى الحكم الذي يتفق ومقتضيات الشريعة ويتلاءم مع الظروف والمتغيرات العصرية.

ووفي خضم الحديث عن هؤلاء الملتزمون الجدد، فإن كلامي لا يعني مطالبة كل متدين بعدم الأخذ بالرخص، وعدم الاستمتاع بحياته في إطار المباح، وإنما مقصدي دعوة كل متدين إلى فهم ذاته، والتفكر في علاقته بالله، وتعامله مع الدين، والوعي بـ”ملعب المباحات”، ومحاولة الابتعاد عن “خط التماس” الفاصل بين المباح والمحرم، وإذا اقتضت الظروف الاقتراب من “المكروه”، فلنضع أعيننا في وسط رؤوسنا؛ حتى لا نجد أنفسنا بين غمضة عين وانتباهها، خرجنا من زمرة عباد الله الصالحين.


وسام كمال