ناهد إبراهيم**

مشهد لإحدى مظاهرات الأقباط في مصر

عندما نفحص الأديان السماوية في لحظتنا الراهنة، وبصرف النظر عن أصولها التي تنسب الديانة لحالة قومية، سنجد تلك الأديان ومن بينها الديانة المسيحية، والحالة القبطية المصرية تتنازعها نزعات ثلاث: النزعة الطائفية أو (الملية)، والنزعة العالمية، وأخيرا النزعة القومية (القطرية).

بعض الاتجاهات المعبرة عن هذه الديانات حاولت بناء أطر متعاقبة للهوية تتضمن دمج هذه النزعات في منظومة واحدة، وإشكالات هذا الاتجاه فيما يتعلق بهذه النزعات كانت تثار عندما توضع على محك ترتيب أولويات هذه النزعات، ذلك الترتيب الذي تحكمت المصالح الاقتصادية والسياسية وأخيرا الثقافية في حسم رتبه.

وبين تدافع هذه النزعات واتجاهاتها الفرعية كانت ثمة شخصيات تقف لتعلن أن الأولوية المطلقة لا بد أن تكون لعموم الوطن الذي يعني العمل لصالحه تطبيبا لجراح قد تشعلها الطائفية بين الأديان، كما ترأب صدوعا قد تسببها الاختراقات الدولية عبر سيادات الدول ومشاعر الأغلبيات السكانية لصالح طائفة من الطوائف؛ وهو ما يمنحها امتيازات عدة قد لا تتمتع بها الأغلبية في إطار حالة التنكر السياسية لمصلحة المواطن كمفهوم غالب على إدراك الشعوب لعلاقتها بحكوماتها أو بالتركيبات السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية لمجتمعاتها.

على الصعيد المصري، كان “وليم سليمان قلادة” إحدى تلك الشخصيات المسيحية التي برغم لاهوتية أبرز روافد تكوينها، فإنها رأت أن الأولوية ينبغي أن تكون للوطن الذي يعني الانتماء له والاهتمام به ضمانا لمستقبل الدين المسيحي، وصحية العلاقة بين الطائفة المسيحية وعموم التكوينات الإثنية المصرية، فضلا عن التكوينات السياسية بهذا البلد.

مساحات ثلاث في قلبه

ما بين اللاهوت واقترابه الإنساني، وبين القانون المدني وروحه الرضائية التعاقدية، وبين الوطن والانتماء تراوحت روافد وجدان وعقل الدكتور “وليم قلادة”، وكانت تلك المساحات ما شكلت معا مسيرة حياته.

ولد الدكتور “قلادة” في 14 مارس من عام 1924 في إحدى مدن محافظة كفر الشيخ المصرية، وفي 1944 حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة. وفي أثناء حياته العملية تمكن من الحصول على درجة الدكتوراة في القانون المدني في العام 1954 من جامعة القاهرة بأطروحة حول التعبير عن الإرادة في القانون المدني المصري في إطار مقارن.

وخلال حياته التي امتدت حتى 10 سبتمبر 1999 تراوحت جهود الدكتور “قلادة” بين خدمة مصر كدولة عبر مجموعة كبيرة من المناصب القضائية والمهام التنفيذية، كما خدم مصر كمجتمع سياسي عبر مدخل الوحدة الوطنية التي كرس لها صفحات عديدة من عمره.

وقد كانت المساحة الأولى في حياته هي المساحة اللاهوتية، حيث أوضحت قيادات من الكنيسة المصرية أن الدكتور “وليم” خدم في الكنيسة المصرية شماسا أولا، ثم رئيسا لتحرير “مجلة مدارس الأحد” التي أنشأها أحد أبرز رواد الإصلاح والتطوير في الكنيسة المصرية “حبيب جرجس” في الثلث الأول من القرن العشرين، حيث تولى قلادة مسئولية تحريرها خلال الفترة من عام 1954 وحتى 1959 خلفا للأستاذ “نظير جيد” الذي ترهبن آنذاك وصار فيما بعد على رأس الكنيسة القبطية تحت اسم البابا شنودة الثالث. وكانت تلك المجلة لسان حال حركة مدارس الأحد التي ينظر إليها المسيحيون باعتبارها حاملة لواء الإصلاح الكنسي خلال منتصف القرن العشرين.

وفي هذه المساحة من حياته أنتج عدة مؤلفات أبرزها: “الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية” عام 1968، و”الدسقولية” (تعاليم الرسل) عام 1979، و”المسيح في بيته” عام 1982، و”رسالة إكليمندس الروماني إلى الكورنثيين” عام 1999.

وعندما يتحدث المؤرخون عن موقع الدكتور قلادة في التاريخ القبطي المعاصر فإنهم يرونه ممثلا رئيسيا لأبرز الاتجاهات الخمسة التي عارضت التوجه السياسي الطائفي للكنيسة الأرثوذكسية القبطية منذ بداية السبعينيات، حيث تزعم الاتجاه التوفيقي الذي يرى أن للكنيسة دورا دينيا ذا بعد وطني، يحتِّم عليها أداء أدوار وطنية محددة؛ أبرزها الوقوف في وجه المستعمر، وعدم تمكينه من توظيفها كطابور خامس ينفذ منه إلى قلب الوطن، ولعل ذلك الطرح ما ينقلنا لحديثه عن مدرسة حب الوطن.

مدرسة حب الوطن

أحد مؤلفات المستشار قلادة

وكانت المساحة الثانية في وجدان الدكتور قلادة مساحة الوطن، ولعل أبرز كتب المساحة اللاهوتية الكنسية في حياته التي أشرنا إليها سالفا يمثل محاولة جيدة للتعرف على رؤية لربط الوطن بالدين، لكن هذه لم تكن سوى البداية.

فمع استعادة الحركة الإسلامية في مصر وضعها في منتصف السبعينيات نشط “قلادة” في مساحة الحوار بين الأديان، مستهدفا ألا تفهم الصحوة الإسلامية بصورة خاطئة تنأى بها عن المركز الوطني لصالح حالة وعي طائفي.

وفي تلك الآونة كتب كتابه “الحوار بين الأديان” عام 1976، ثم كتابه “المسيحية والإسلام على أرض مصر” عام 1986، والذي أعيد طبعه عام 1993 ليردفه بالجزء الأول من كتابه “مبدأ المواطنة” الذي صدر عام 1999، ثم صدر الجزء الثاني منه في عام 2000، وهو المرجع الذي قدم فيه المستشار قلادة تعريفا فلسفيا للمواطنة تجاوز فيه الأطروحات القانونية الجامدة والإجرائية التي قد تفرغ المبدأ من مضمونه، حيث عرفها بأنها “وعي الإنسان بأنه عضو أصيل في بلاده وفاعل في الحياة العامة وليس مجرد مقيم خضع لنظام معين دون أن يشارك في صنع القرارات داخل هذا النظام”.

ولم يكن قرانه بين الكنيسة ومصر فقط ضمن أطروحته السياسية، بل حرص على أن يوضح هذا القران في إطاره الثقافي عبر كتابه “مصر في طقوس كنيستها وحكايات أخرى” الذي صدر في عام 1989، وكذا كتابه “الشعب الواحد والوطن الواحد”، ولا يمكن لمهتم بالحالة الحوارية في مصر أن ينسى كتاب “مدرسة حب الوطن” الذي أصدره من أسقفية الشباب بالكنيسة المصرية عام 1993 وأعيدت طباعته مرة ثانية في عام 1997، وهي التسمية التي أطلقها “قلادة” على الكنيسة القبطية بمصر حين اعتبر الكنيسة الوطنية المستقلة هي المعادل للحلم بوطن مستقل، تلك الكتابات التي اعتبر المستشار طارق البشري أنها تكشف لنا عن مفكر مهموم بوطن أولا، ومشاركة أبناء دينه أبناء وطنه مسئولية ذلك الوطن.

وفي القسم الثالث من كتابه “شخصيات وقضايا معاصرة” يتناول المستشار البشري صديقه “قلادة” باعتباره واحدا من ركائز الفكر السياسي الذي تقوم عليه الجماعة الوطنية في مصر، حيث رأى أنه في حياته الفكرية ونشاطه العام لم يكن قط إلا خادما بإخلاص وفي نسك لجماعتيه اللتين منحهما كل جهده الفكري وقدراته الثقافية، وهما جماعته الدينية القبطية الأرثوذكسية، وجماعته السياسية المصرية الوطنية العامة. حيث لم ير أبدا تعارضا بين هاتين الجماعتين.

ففي إطار الجماعة الوطنية المصرية بذل “قلادة” جهودا وافرة في مجال الحوار الإسلامي المسيحي، وأسهم في تحويل هذه الحالة الحوارية إلى حالة مؤسسية تتمثل في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي الذي دخل في علاقة حوارية مع مجلس كنائس الشرق الأوسط منذ عام 1995 ولا يزال حتى الآن، كما شارك في تأسيس الجمعية المصرية للوحدة الوطنية. كما أشرف على سلسلة ندوات حوارية بأسقفية الشباب بالكنيسة المصرية حرص فيها على تعريف الشباب القبطي المصري برموز الوسطية الإسلامية المصرية كالمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا والدكتور محمد عمارة والأستاذ فهمي هويدي. وقد شارك في جهود القضاء على الوعي الطائفي الذي كان قد تسرب لوعي شريحة واسعة من الأقباط نتيجة الممارسات الخاطئة المزدوجة من قبل رأس النظام السياسي في مصر ورأس الكنيسة القبطية منذ بداية السبعينيات.

ويذكر له الأستاذ فهمي هويدي أنه اعتبر الأقباط أقلية مدللة معلقا هذا التوصيف على سلامة القول بكونهم أقلية. ويذكر له الأديب المصري البارز جمال الغيطاني تنبيهه إلى أن شعار تعانق الهلال والصليب ليس مرجعه لثورة 1919، بل دله على اللوحة التي حملت نفس الشعار في متحف الفن الإسلامي، وهي اللوحة التي يعود تاريخها لزمن الحروب الصليبية.

جهود المشاركة في إدارة الوطن

أما المساحة الثالثة في حياته فكانت حياته الرسمية التي خدم فيها الوطن من خلال جهاز الدولة. فبعد تخرجه في جامعة القاهرة تم تعيينه في إدارة الشئون القانونية بوزارة الحربية المصرية عقب تخرجه، وترقى في السلم الإداري بالوزارة حتى أصبح رئيسا لقسم التشريع بإدارتها القانونية.

وفي العام 1955، أعاد مجلس قيادة الثورة المصرية تشكيل المرجعية القضائية الإدارية: مجلس الدولة، وكان الدكتور قلادة من بين الكفاءات القانونية التي تم تعيينها بالمجلس الجديد، وتدرج بالمناصب داخله حتى أصبح مفوض الدولة لدى محكمة القضاء الإداري، ثم مستشارا بمحكمة القضاء الإداري، ثم مستشارا بالمحكمة الإدارية العليا، واستمر في خدمته كوكيل لمجلس الدولة منذ عام 1981 وحتى بلوغه سن التقاعد في عام 1984.

وإلى جانب هذه المهام القضائية كان للدكتور قلادة حضور في المساحة التنفيذية من سلطات الدولة؛ فخلال عامي 1979 و1980 كان عضوا في اللجنة المشتركة المصرية السودانية التي تشكلت لإعداد شروط العقد الخاص بقناة جونجلي التي كان من المزمع إنشاؤها في مدينة الخرطوم لإفادة البلدين من حصة مهدرة من مياه النيل. كما عمل مستشارا للهيئة المصرية العامة لمشروعات الصرف الصحي خلال الفترة من 1973 وحتى 1984، وخلال تلك الفترة أيضا كان العضو القانوني الممثل لمجلس الدولة في لجان البت في المناقصات العالمية والمحلية التي تمت بالتعاون مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي للإسكان والتعمير، كما شارك خلال الفترة من 1991 وحتى 1994 في إعداد مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الأشغال والموارد المائية المصرية بشأن اتحادات مستخدمي مياه الري.

ولم يكن مبدأ المواطنة حاكما له في المساحة السياسية العامة من الحياة فحسب، بل تطرق لمساحة اهتمامه بعموم المواطن المصري العادي. ولعل أبرز احتكاكاته على هذا الصعيد تلك الجهود التي بذلها لإلغاء عقوبة تكبيل أيدي وأقدام المساجين المدانين في الجرائم الموجبة لأحكام الأشغال الشاقة طوال فترة تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم، حيث نادى بضرورة إعادة النظر في المنظومة العقابية لهم في إطار آدميتهم، ومن ثم دعا لفلسفة عقابية وطنية تستهدف “تعليم” “المواطن المذنب” أن يحيا حياة صالحة، وأن النظر للعقوبة يجب أن يبارح مساحة الانتقام إلى مساحة الإصلاح، وقد توج نضاله في هذه المساحة بتقديم مشروع قانون لمصلحة السجون بتعديل قانون التكبيل.

واليوم، ما أشد حاجة مصر اليوم لشخصية كالدكتور وليم سليمان قلادة لتضبط ميزان ومسيرة حركة الجماعة القبطية في مصر، لئلا يذكر التاريخ أن الجماعة الوطنية المصرية أرهقت نفسها تحاول صون المصالح الوطنية المتعارف عليها بين فصائل هذه الجماعة، بدءا من رفض المشروع الاستعماري الأمريكي وحتى مقاومة مشروع الاستبداد الذي يوهن المجتمع في مواجهة تحدياته، في الوقت الذي انتهزت فيه شرائح واسعة من الجماعة القبطية كجماعة فرعية عن الجماعة الوطنية المصرية هذه الفرصة، فعزفت عن مشاركة الجماعة الوطنية نضالها المزدوج، ودبجت خطابا استغاثيا توجهت به لصاحب المشروع الاستعماري المعاصر تحاول به تحصيل مكاسب برغم أنف الحوار والتواصل مع بقية فروع الجماعة الوطنية.


** صحفية مصرية.